** في محاضرة بمركز "الخليج" للدراسات بعنوان "هل من أفق لمشروع عربي؟"؛ د.عزمي بشارة: كل أرض عربية محتلة هي قضية العرب

** في محاضرة بمركز
أكد الكاتب والمفكر الفلسطيني والعربي الدكتور عزمي بشارة، أن على أي مشروع عربي ديمقراطي مقبل، أن يخاطب هموم المواطن العربي، وأن نجاح هذا المشروع يتوقف على مدى قدرتِه على ربط مشروع التعاون والاتحاد العربيين بهموم المواطن ومصالحه.

وقال في المحاضرة التي ألقاها في مركز الخليج للدراسات بدار “الخليج” للصحافة والطباعة والنشر، مساء الأحد 9/5/،2010 إنه لا يمكن الحديث عن مشروع عربي بمفاهيم نوستولجيا ومفاهيم حنين للماضي، فعلى المشروع العربي أن يكون متجدداً ويأخذ في عين الاعتبار تغير مفاهيم العروبة وتعريفاتها، وتغير مفهومنا للهوية، فضلاً عن تغير وظيفة الدولة العربية القطرية وتغير مفهوم الوحدة العربية وغيرها من القضايا الأخرى.

وتطرق إلى تراجع التيار القومي العروبي، وإذا ما كان يمكن “إنقاذ تقاليد ننتمي لها عروبيين في هذه المرحلة”، محاولاً في ورقته البحثية الإجابة عن سؤال ما العمل نحو مشروع عربي ديمقراطي.

أدار المحاضرة الدكتور خالد عبدالله، مستشار دار “الخليج”، وحضرها عدد كبير من المثقفين والأكاديميين وأصحاب الرأي، وفي مقدمتهم الدكتور سليم الحص، رئيس الوزراء اللبناني السابق، وحميد القطامي، وزير التربية والتعليم، وخلفان الرومي الوزير السابق ورئيس مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية، فضلاً عن محمد دياب الموسى، المستشار التربوي لحاكم الشارقة. كما حضرها إبراهيم الظاهري، مدير عام دائرة الثقافة والإعلام بعجمان، والدكتورة ابتسام الكتبي أستاذة العلوم السياسية في جامعة الإمارات، وعبدالله الشرهان والكاتب والمفكر المصري جميل مطر والكاتب والمفكر العراقي ظافر العاني.

فيما يلي نص المحاضرة:
ارتبط مصير الشعوب والمجتمعات العربية منذ بداية العصر الحديث بمدى قدرتها على تقبل مهمات هذا العصر وتحدياته، ومدى استعدادها لمواجهة التحديات هذه بمشروع بناء الأمة دولةً واقتصاداً ومؤسسات من جهة، وبمدى ارتباطها بثقافتها وحضارتها العربية الإسلامية وإدراكها لذاتها ولكيانيتها التاريخية من جهة أخرى، كما ترتبط بإدراك غنى التعددية والتناقضات وصراع المصالح التي تضمنتها المجتمعات العربية في تاريخها. وترتبط مهمة تجديد الفكر العربي بمشروع بناء الأمة وببلورة برامج وتحديد مطالب تكون مفهومة للناس، وتدفع في هذا الاتجاه، ويمكن للناس ربطها بمصالحهم المادية والحقوقية كمواطنين ومواطنات وبالمستقبل الذي يتوَخّونه لأبنائهم.

ولا شك أن غياب مفهوم الحقوق والضمانات الاجتماعية مثل الحق في التعليم والتأمين الطبي والمسكن اللائق، وغياب التعامل من قبل المؤسسات الحاكمة مع المواطن على أساس مواطنته، وبمعايير محددة ومعروفة مثل الحقوق والواجبات والمؤهلات والكفاءات داخل المؤسسات، وتوسع الفجوة الطبقية مع ضمور الطبقة الوسطى وتغير وظيفتها نتيجة للاقتصاد الريعي، وإعاقة الديمقراطية وتقييد الحريات السياسية، ومسألة الهوية العربية في مواجهة التفتت العشائري والطائفي... كلها قضايا مترابطة متواشجة تتعلّق بحياة البشر اليومية وبمستقبل أبنائهم.

وليس بالإمكان طرح أي مشروع سياسي لا يتعامل مع هذه القضايا العينية للمواطن ولا يحدّد موقفاً منها. لقد أصبح النجاح في طرح قضايا الوحدة العربية وبناء الأمة مرتبطاً بمدى خدمتها لقضايا المواطن العربي ومصالحه.

وتشكِّل مسألة التبعية للاستعمار سياسياً واقتصادياً، وحتى أمنياً، إلى درجة تحالف النخب الحاكمة معه ضد حقوق شعوبها، قضية تواجه الأمة جمعاء. إذ إنها ليست قضية دولة قطرية بعينها. فهي نابعة من تجزئة هذه الأمة، وهي تصب في تخلِّف اقتصادها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية.

وكذلك فإن الصراع العربي مع “إسرائيل” ككيان استعماري استيطاني في قلب المنطقة، بما فيه القضية الفلسطينية التي ترتبت على إنشاء “إسرائيل”، هو قضية الأمة، وليس مسألة تضامن مع الفلسطينيين، ولا هي قضية الفلسطينيين، أو للدقة، ليست “مشكلتهم” التي ينبغي أن يتعاملوا معها وأن يتدبروا أمرهم بشأنها.

وما يصح بشأن فلسطين يصح بشأن العراق وبشأن كل أرض عربية محتلة نتيجة للعجز العربي في الدفاع عن تكامل هذا الوطن، أو نتيجة لتواطؤ دولة عربية ضد دولة عربية أو شعب عربي آخر. كل أرض عربية محتلة هي قضية العرب، ومركزية فلسطين نابعة من أنها عنصر مكوّن أساسي في الهوية والوعي العربيين، ولأن استعمارها استيطاني يرمي إلى الديمومة ويعاد تصميم المنطقة على قياسه.

إن النظام السياسي العاجز عن الدفاع عن حقوق المواطن وكرامته هو نفسه النظام العاجز عن الدفاع عن الوطن العربي والرافض للانضواء في إطار مفهوم للأمن القومي العربي. إنه النظام السياسي الرسمي العربي الذي لا يعترف أصلاً بالوطن العربي مفهوماً وممارسةً إلا لأغراض التحريض الطائفي والمذهبي.

وهنالك علاقة جدلية بين التحرر العربي والتحرير، فلا يُقَدَّمُ أحدُهما على الآخرِ آلياً، ولا تُؤَجَّل مهمةٌ تاريخية انتظاراً لأخرى... ويشكّل كل تطور اقتصادي سياسي اجتماعي على الساحة العربية دفعاً لقضية التحرير، إذا كان تطوراً مرتبطاً بأجندات وطنية لا بموجب معايير الاستعمار .

ويساهم كل إنجاز في الصراع ضد الاستعمار الاستيطاني لفلسطين، وضد احتلال مناطق عربية أخرى، في تعزيز نزعة التحرر العربية من التخلف ومن قيود الاستبداد . وطبعاً، قد تلتقي المصالح الوطنية أحياناً مع السياسة الخارجية لنظام بعينه، ولكن من حيث المبدأ، لا يمكن التوقع من نظام يضطهد شعبه أن يحمل خيراً لشعب آخر.

وقضية الاستتباع الثقافي للاستعمار هي تحصيل حاصل لغياب مشروع حضاري ثقافي للأمة يرافق عملية بنائها وإعادة إنتاجها، رغم توافر الكفاءات والمواهب الفردية، ورغم توافر التعددية الدينية والثقافية والإثنية، والعمق الحضاري، وكلها عوامل مساعدة تغني عملية الإبداع العلمي والأدبي والفني. ولكن الاستتباع السياسي والاقتصادي والثقافي يحوِّلُ العربَ من منتجي ثقافة ومعارف وعلوم إلى مجرد مستهلكين. وبدل التفاعل المتكافئ المطلوب تنشأ تبعية للقشور والمظاهر إلى درجة تحوّل الدول الغربية الرأسمالية المتطورة إلى الحاكم والحَكَم ليس في شؤون السياسة والأمن والاقتصاد فحسب، بل أيضاً في شؤون الثقافة. وطبعاً ليس المقصود الغرب المبدع الذي لا بد من التفاعل معه علمياً وثقافياً، بل الغرب الذي يولِّي نفسه وصياً.

ويفترض بأي مشروع عربي ديمقراطي مقبل أن يتحلى بالواقعية والعقلانية. ولكنها واقعية من أجل تغيير الواقع لا من أجل تكريسه؛ كما يفترض أن يتمتع بالثورية النقدية من أجل ترشيد الحلم وعقلنته وأنسنته حتى لا يتحول إلى طوبى غاضبة أو تقريعية أو تبشيرية سرعان ما تتحول من الأيديولوجية الشمولية إلى الانحلال الشامل . ولكن لا يجب أن تحل الواقعية والعقلانية المطلوبتان مكان الموقف من الظلم . فلا شيء يعوِّض عن الموقف القِيَمي المطلوب توافره وتعميم ثقافته ضد الظلم، وضد العنصرية، وضد الاستغلال، وضد الفساد والاستبداد.

الأقدام ثابتة على الأرض، ولكن الأقدام وحدها على الأرض، لا الصدور ولا الرؤوس وإلا تحولنا إلى زواحف. والرأس في السماء، ولكن الرأس وحده في السماء، لا الأقدام، وإلا حلّقنا كالطيور. والطيور ليست حرة بل هي كالزواحف مُسَيّرة بغرائزها وبالضرورات الطبيعية، حتى حين تمارسها في الفضاء.

وحده الإنسان أُهِّل أن يمشي منتصباً محرر اليدين وأن يفكر بحرية تتيح له صنع خياراته الأخلاقية. والحرية والواقعية النقدية خياران متلازمان، شرطهما الإنسانية الواقعة بين السماء والأرض.

الحرية هي شرط الخيار الأخلاقي. ولا حرية حين يستعبد المرء طيلة حياته لعملية تحصيل لقمة العيش أو البحث عن السقف الذي يؤويه، ولا يمكنه تأمين العلاج لأطفاله.

الحقوق الاجتماعية والمساواة في الحقوق هي شروط للحرية في المجتمع الحديث. ولا أخلاق ولا حرية ولا مساواة خارج سياق ثقافي وخارج سياق سياسي سيادي. ومن هنا فإن أي مشروع عربي ديمقراطي يجب أن يستفيد من العناصر التي تبقى وتدوم من الفكر الديمقراطي وفكر اليسار والقومية العربية وكل ما هو إنساني في التجربة والحضارة الإسلامية. ويجب أن يتخلص مما آن الأوان للتخلص منه بعد الاستفادة من نجاحات الماضي وإخفاقاته.

وهذا ما تشترطه عروبتنا الإنسانية الديمقراطية. وهذا ما يشترطه مشروعنا العربي الديمقراطي المطلوب.
يبدو أنه ما إن استقرت الدول العربية القطرية مع نهاية عصر الانقلابات، وجمد الحراك السياسي والطبقي اللذان رافقاها، حتى راحت تتجه جميعاً نحو الاشتراك في السمات التالية:

(أ) غلبة الاقتصاد الريعي على الاقتصاد المنتج.
(ب) ضمور الطبقة الوسطى التي نشأت في المدينة وقادت عملية البناء بعد الاستقلال.
(ج) القضاء على إرث من التعددية الحزبية وعلى بقايا الحريات المكتسبة من مرحلة النضال ضد الاستعمار ومن المرحلة الليبرالية بين الحربين في القرن الماضي، ومن بدايات مرحلة ما بعد الاستقلال.
(د) التوجه نحو تحالف البرجوازية الناشئة في مجالات الخدمات والبناء والتجارة والوكالات مع المسؤولين وأقاربهم ومحاسيبهم، ورجالات الأمن والسياسة في كارتل حاكم. نشأ هذا النوع من الكارتل عن البنية الاقتصادية الاجتماعية، التي تجمع بين الأمن والسياسية والإثراء السريع لدى فئات اجتماعية متقاربة، ونجم عن الفراغ السياسي وتفريغ الحيز العام الذي خلفه قمع الحريات والاستبداد.

ويكاد هذا التحالف يحكم الدول العربية كافة، المَلَكية منها التي تقوم أصلاً على شرعية الأسرة الحاكمة والبنى التقليدية للمجتمع، كما الجمهوريات. وهو ينسجم مع فكرة الأُسَر الحاكمة وواقعها، أكثر مما يرتاح مع الأحزاب الحاكمة ومجالس قيادة الثورة وغيرها، في حالاتها الفاسدة وغير الفاسدة. وينزع هذا النمط من القوى الاجتماعية السياسية السائدة إلى تحويل الفساد من استثناء كان قائماً دائماً بدرجات متفاوتة إلى نظام اقتصادي بديل كامل.

ويقدِّمُ نظامُ الفساد بديلاً عن الضرائب العائدة لخزينة الدولة إذ يتجسد في “الضرائب” أو “الخوات” والنسب المئوية والشراكات لرجالات الدولة، كما يعفي البرجوازية السريعة الثراء من الضرائب التصاعدية، ويربط النخبة السياسية والأمنية معها في حالة وحدة مصير، ويؤمن للنخبة السياسية والعسكرية مصدر دخل لنوع من الإقطاع السياسي ولشراء الولاءات، ويحرم المجتمع من خدمات الدولة التي يفترض أن تجبي الضرائب التصاعدية بموجب الدخل، لكي تتمكن من تقديم الخدمات والضمانات الاجتماعية لذوي الدخل المحدود... ويحوِّل الفسادُ حتى الحق البسيط في أصغر دائرة إلى أمر غير مفروغ منه بالنسبة إلى المواطن، إذ لا بد من علاقة محسوبية أو رشوة لتحصيله عند الحاجة وفي الوقت المناسب.

لم تنجح الدولة العربية القطرية نفسها في إقامة أي نوع من الوحدة العربية أو من التعاون البنَّاء والممأسس والطويل المدى في إطار الأمة العربية. ولم تنجح أيضاً في بناء أمة المواطنين على المستوى الداخلي، أي على مستوى الدولة القطرية.

ويلاحظ المواطن العربي بأسى كيف تجري محاولات لتفتيت دول عربية أو تقسيمها فدرالياً، كما في حالات العراق والسودان واليمن والصومال. كما يلاحظ تحولات أخرى تنم عن فشل الدولة في التحول إلى أمة، وعن فشل مؤسسات الدولة في إقامة مؤسسات اجتماعية اقتصادية ثقافية تستبدل المؤسسات التقليدية القائمة مثل العشيرة والطائفة والناحية والعائلة الممتدة وغيرها.

وبتسييس هذه الأخيرة من جديد في ظل فشل الدولة في تأسيس دولة المواطنين، طرأ أيضاً تغير حاد في وظيفتها التعاضدية التكافلية المباشرة، إذ تم تشويه هذه الانتماءات وهذه الجماعات الأهلية من خلال أدلجتها وتسييسها. وقد كانت في الماضي تُدْفَعَ لتصادر وظيفة المجتمع الأهلي كحاجز بين الفرد والدولة فتحميه من عسفها، في مرحلة قمع الأحزاب والمؤسسات الحقوقية وغياب مفهوم المواطنة. وهي حين حمت المواطن المنتمي لها من عسف السلطة نسبياً، إنما فعلت ذلك مقابل خضوعه لها، كما شكلت حاجزاً بين الأفراد معيقة عملية انخراطهم في مجتمع وطني من المواطنين... ولكن مع تآكل مصادر شرعية الدولة التقليدية والإيديولوجية، وتراجع قدرتها على تقديم الخدمات والضمانات الاجتماعية، بما فيها الحفاظ على الأمن ضد العدوان الخارجي، سيطرت الجماعة الأهلية على المجتمع والمؤسسات في العلاقة مع الدولة ومع الجماعات الأهلية الأخرى. وزالت حواجز كانت الدولة والثقافة السائدة تضعها وتعيق الجهود التي بذلتها نخب سياسية وقيادات لبعث المذهبية السياسية مستغلة التعددية المذهبية القائمة ومستثمرة تغيّر وظيفتها.

وما لبثت هذه الكيانات المذهبية السياسية، والعشائر السياسية، أن تحوَّلت إلى قوى سياسية تفتِّت الدولة القطرية. وتتجلى نتائج ذلك بشكل خاص في الحالات التي تضعف فيها الدولة نتيجة ضربة خارجية، أو تتزعزع هيبتها، أو نتيجة لأزماتها الاقتصادية الاجتماعية التي تمنعها من القيام بواجبها. وقد أطلق النذير لجميع الدول العربية التي تجنبت توطيد الانتماء للأمة العربية، ولم تنجح في الوقت ذاته في بناء دولة المواطنين. ولم تحاول أصلاً بناء انتماء على أساس مجتمع المواطنين.

لقد بدا في الكثير من الحالات أن دولة الاستبداد على سطوتها الظاهرة تشكل قشرةً هشة. فحالما تتصدع داخلياً أو تزال بالاحتلال الخارجي يعود المجتمع إلى بناه التقليدية من مرحلة ما قبل بناء الأمة، ليكتشف بنى تشوّهت وتغيّرت وظيفتُها، ما يؤدي إلى صراعاتِ سيطرةٍ ونفوذٍ والى استحضار مسيّس لعمليات ثأر قديمة وغيرها من أدوات سياسات الهوية التي يعاد اكتشافها، أو تُصنَع وتُرَكَّب لكي تكون أداة تحشيد تتجاوز المصالح الاقتصادية والاجتماعية وتدفع الناس بالهوية والغريزة للالتفاف حول سياسات قطاعية وسياسات هوية تفتيتية.

بغض النظر عن الموقف من أخطاء القيادات التاريخية السابقة التي برزت بعد الاستقلال، وخصوصاً في المرحلة القومية، إلا إنها كانت قيادات جمهورية حملت مشاريع عامة. ويكمن أحد أهم مصادر الأزمة السياسية والثقافية والأخلاقية التي تعصف بالمجتمعات العربية حالياً، في كون القيادات السياسية في أيامنا تحمل مشاريع خاصة سياسية واقتصادية، تسخّر في خدمتها أدوات حزبية وأمنية وعشائرية وطائفية، لا بد أن تنحلَّ معها والحالة هذه، الأعرافُ والأخلاقُ العامة.

ليس الصالحُ العامُ عبارة عن مجموع المصالح الخاصة. ولا يؤسس الدفاع عن المصالح الخاصة في حرب الكل ضد الكل لأخلاق عامة وإنما يؤسس لخيارين: إما الاستبداد أو الفوضى. وهذان هما الخياران اللذان تحاول الدولة العربية فرضهما كخيارين، بخاصة بعد أن تبين أن موجة الإصلاح فيها اقتصرت على ملامسة مستويات لا تملك القرار، وإنها أجهضت عملية التحول الديمقراطي بانتخابات صُورية، وبإفسادٍ للمعارضة من خلال احتواء أفرادها في مناصب الدولة، من دون تغيير حقيقي في طبيعة النظام الحاكم.

تقوم الأخلاق العامة على وجود صالحٍ عامٍ وحيِّزٍ عام. وخلافاً لإدارة الامتيازات المَلَكية والأرستقراطية، تقومُ السياسة الجمهورية على فصل الحيِّز العام عن الحيز الخاص للحكام... بما يحافظ على كل منهما، وبالطبع، يُعاد رسمُ الحدود بين الخاص والعام في كل مرحلة تاريخية.

لقد زالت في أيامنا الفوارق الفاصلة بين النظام الملكي المطلق والرئاسي المطلق في الوطن العربي، مع زوال الفاصل بين المال العام والخاص. وما مسألة توريث، أو تحضير لتوريث الأبناء في أغلبية الجمهوريات العربية، إلا آخر مظاهر زوال هذا الفارق. واكتسبت صلة القرابة معنى سياسياً وباتت تترجم إلى نفوذ في الدولة. ولم تعد الجمهوريات تفصل ثروة الدولة عن حياة الزعماء الخاصة وحاجاتها ومتطلباتها (نقصد بالخاصة الشخصية منها، وحتى السياسية، من الاستثمار الفردي والعائلي، وصولاً إلى شراء الولاءات السياسية). وهذه العناصر الثلاثة هي باختصار الفوارق الرئيسية المنسية بين الجمهورية، بغض النظر عما إذا كانت ديمقراطية أم غير ديمقراطية، والنظام الملكي (إذا لم يكن نظاماً دستورياً). فالجمهورية تعتمد على مبدأ سيادة الشعب لا على شرعية حكم السلالة أو الأسرة. وهي تقوم على تصور الصالح العام والإرادة العامة، وهي تفصل بين الحيز العام والخاص، سواء كان ذلك من ناحية العلاقات الخاصة للزعامة السياسية، أو من ناحية الثروة.

ويعيش في بلادنا بالإضافة إلى زعماء الطوائف ومثقفيهم، والأجهزة وأقلامها المأجورة، ناس عاديون يبحثون عن معنى حتى في السياسة. كانوا يجدون المعنى في خدمة الصالح العام نضالاً في سبيل وحدة الأمة، أو في مشاريع بناء يعلقون عليها الأمل لأبنائهم وأحفادهم تُشْعِرُهُم بالكرامة، وتستحق أن يضحى من أجلها لأنها ليست مشاريع خاصة لهذا الزعيم أو ذاك ولأقربائه ولأنسبائه السياسيين والعشائريين.

هذا تمايز واحد صغير، وهو يصنع كل الفارق. إنه تمايز واحد صغير يؤكد أهمية طرح مشروع سياسي ثقافي قائم على الصالح العام.

على هذا التمايز الصغير، يمكننا أن نقف بصلابة واثقين أننا هنا على حق، بعد أن ننقذ ما يمكن إنقاذه من تلك المرحلة لكي نقيم مشروعاً عربياً ديمقراطياً جديداً.

في ظل حالة التشرذم العربي وضعف المقومات المادية لبناء الأمة العربية، والضربة القاصمة والمتمثلة بالتقسيم الاستعماري في دول بلورت قياداتها مصالح قطرية لنفسها، عوّض التيار القومي العربي عن هذا النقص بكثافة الإيديولوجية القومية وبالبعد الإرادوي الحركي.

كانت هذه متطلبات مرحلة. ولكنها حملت في طياتها أخطار تحويل القومية إلى إيديولوجية شمولية، بدلاً أن تكون مجرد أساس لبناء الأمة والدولة ذات السيادة، كما تضمنت في ثناياها التقليل من شأن مفهوم المواطنة والحياة المدنية بعد الاستقلال بانتظار الوحدة العربية. وقد ثبت أن تأجيل المهام هذه إلى أن تتحقق الوحدة، حتى حين حكمت أحزاب قومية عربية، أودى بالمهمّتين وألحق الضرر البالغ بالتيار القومي العربي وبعلاقاته مع التيارات الأخرى.

نتيجةً للتطور التاريخي عام 1967، وما أضيف إليه من عوامل إقليمية ودولية، تدهور المشروع القومي إلى إيديولوجية تبريرية لأنظمة لا تطرح إلا مسألة بقائها في السلطة. وتدهور في دول أخرى إلى هويةٍ سياسيةٍ لأحزابٍ في المعارضة تنازَلَت سلفاً عن طرح مسألة وصولها إلى السلطة، وتخلَّت بالتالي عن التسييس وعن الهيمنة الثقافية على المجتمع محافظة على نوستالجيا ماضوية ممزوجة بتعصب غير مفهوم للماضي ولمرحلة تقديس الشخصية والكاريزما، ومصرّة على احتكارها للحقيقة، وهي سعيدة بتفردها وتمايزها، على الرغم من أن المشاريع السياسية، ليست للتفرد والتميز المتقوقع على ذاته بل للتعميم والانتشار... ونشأ وضع باتت فيه القوى الخصم للقومية العربية تتعامل معها كمجرد إيديولوجية، بمعنى الوعي الزائف. وبلغ هؤلاء حدَّ إنكار وجود قومية عربية خارج إيديولوجية الأحزاب تصلح أساساً لتشكل الأمة. وهو ما لا ينكرونه على شعب من الشعوب، ولا حتى على مجتمع استيطاني مثل “إسرائيل”.

وضاق الهامش حتى بات كل من يعرِّف نفسه كعربي في نظرهم قومياً عربياً، لأنهم ينكرون على العرب حتى حق تعريف أنفسهم كعرب. وقد أدى انحلال المشاريع القطرية إلى تركيبات سكانية طائفية وعشائرية وجهوية سافرة أو كامنة، وإلى تحوّل المطابقة بين العروبة والهوية العربية إلى نبوءة تحقق ذاتها. فقد بات التأكيد على العربية في وجه الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية موقفاً عروبياً. أن تكون عروبياً في أيامنا يعني أن تتخذ الهوية العربية نقيضاً لتسييس الهويات التفتيتية. أن تكون عروبياً يعني في أيامنا أن تكون بشكل واعٍ عربي الهوية.

لقد جاء هذا التبسيط الحالي الذي قام به خصوم القومية العربية من باب “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم”. يكاد هذا التبسيط يجعل من كلِّ من يعرف نفسه على الساحة السياسية كعربيٍ عروبياً.

وهو إذ يطابق بين العربية والعروبة يسمح لنا أن نعيد صوغ مفهوم العروبة. ولا بد من إعادة صوغه لأنها قضية مصيرية بالنسبة إلى الجيل الحالي والأجيال القادمة.

أن تكون عروبياً يعني أن تعرّف نفسك كعربي في فضاء الانتماءات السياسية. ليست القوميةُ العربيةُ إيديولوجيةً شاملةً، بل هي انتماء ثقافي يدّعي فيه العروبي أنه أصلح من الطائفة ومن العشيرة لتنظيم المجتمع الحديث في كيان سياسي، وليكون أساس القومية. أن تكون عروبياً يعني أنك عربي في مواجهة الطائفية والمذهبية وفي القناعة بضرورة التعاون والاتحاد العربيين وإمكانية تحقيقهما.

ويثبت الواقع البائس الحالي في الدول العربية أن هذا الانتماء أكثر توحيداً لكل شعب عربي في أية دولة عربية على حدة من الانتماء القطري، وهو بالتالي أضمن لوحدته من اختراع هوية وطنية على أسس طائفية أو عشائرية.

ولا يعني المشروع العربي الديمقراطي جعل الانتماء للقومية أساس المواطنة، بل يعني أن العروبة أساس حق تقرير المصير وبناء الدولة. فلا بد بعد الاستقلال من الفصل بين المواطنة والأصل الإثني أو الديني أو القومي. تقوم الدولة على أساس قومي يتلخص بتسييس الانتماء الثقافي، وعلى حق تقرير المصير. والقومية كأساس لبناء الدولة هي أمر طبيعي في الدول غير الاستيطانية، ولكن لا بد أن تقوم علاقة الفرد بالدولة على أساس المواطنة.

كما يعني المشروع العربي الديمقراطي السعي والتوق لتأسيس اتحاد بين الدول العربية. وهو يسعى لطرح برامج واقعية تدريجية قابلة للتحقيق تقوم أساساً على وجود مصلحة للمواطن في تطبيقها.

العروبة انتماء ثقافي تاريخي متشكل ومتغير باستمرار. وهي ليست انتماء عرقياً. ومن هنا فلا حدود لغنى الشعوب التي انتمت إلى العروبة لغة وثقافة وقومية في النهاية. ولكن لا بد أن يقرّ أي مشروع عربي ديمقراطي بالمواطنة المتساوية للعرب ولمن يعرّفون أنفسهم بغير عرب ويشكّلون كتلاً تاريخية في مناطق محددة. ولا بد أن يعترف بخصوصية ثقافتهم ولغتهم في حال توافرها. ولا شك أن الانفتاح العربي الإنساني في ظروف المواطنة المتساوية من شأنه أن يدمج الجميع.

إن العضوية في الدولة الوطنية تعني المواطنة المتساوية، أكان المواطن عربياً أم غير عربي.

أن تكون عروبياً لم يعن، ولا يعني حالياً بالضرورة أن تكون ديمقراطياً. بيد أن التجربة التاريخية أثبتت أن نظام الحزب الواحد مدعوماً بتعدّد الأجهزة الأمنية وتضخمها وانتشارها في جسد المجتمع لم يحقق وحدة، بل شوَّه حتى بنية الدولة القطرية التي أُنشِئَت في مرحلة المد القومي. ومن يدعو إلى الوحدة العربية لا بد أن يستند إلى إرادة الأغلبية الساحقة من الأمة، وإن خير تعبير عن إرادة الأمة وأقصر طريق لحق تقرير مصيرها هو الديمقراطية، في حين يكمن شرط وجودها في حقوق المواطَنة والحريات المدنية.

ويجب أن يسعى المشروع العربي الديمقراطي في أيامنا إلى التعبير عن إرادة الأمة بواسطة الديمقراطية. وهذا لا يعني أن يدعو للديمقراطية ويبشر بها كفكرة، بل أن يكون صاحب برنامج سياسي واجتماعي مطروح على الناس كخيار ديمقراطي في كل بلد على حدة، وفيها جميعا.

لا يجوز ولا يمكن أن يكون المشروع العربي معادياً للإسلام. ولا مجال للفصل بين العرب والحضارة العربية الإسلامية. وهو يشمل متدينين وغير متدينين ينهلون سوية من هذه الحضارة والثقافة ومصادرها نفسها. ويعتزون بانتمائهم لها. ولكنهم يتفقون على مشروع بناء الأمة العربية، ويتفقون على أهمية الإسلام ديناً وحضارة في حياة الشعوب العربية. ولكنهم يتفقون أيضاً أن الدولة لا تعمل بالإملاء والقسر الديني، وأن الدين ليس بحاجة لبطش الدولة كي يفرض على الناس الإيمان مظهراً أو جوهراً. ويتفقون أن الأحزاب السياسية وآراء البشر ليست مقدسة ولا منزهة. ولا يملك أحد الحق بمثل هذه الادعاء. الحزب المستند إلى قواعد دينية هو حزب سياسي له قراءته الخاصة للإسلام وعلاقته بالمجتمع وهي قراءة بشرية اجتهادية غير مقدسة، إذ أن الدين يتسع لمختلف الاجتهادات حتى المتعارضة منها. ومن هنا يرفض المنضوون تحت لواء هذا المشروع فكرة التكفير الديني في السياسة جملةً وتفصيلاً.

وكما يرفض المشروع العربي الديمقراطي أي إملاء ديني على المواطن، ويصر على التعددية الدينية وحقوق غير المسلمين كمواطنين كاملين ومتساوي الحقوق، فإن هذا المشروع يرفض أيضاً الإملاء العلماني، أو تحويل العلمانية إلى دين بديل يقسم الناس تقسيماً دينياً متزمتاً إلى ظلاميين ومتنورين.

ليس من حق المتدينين أو غير العلمانيين في السلطة التدخل في خيارات الأفراد الدينية. وليس من حقهم تقييد حقوق أي مواطن بسبب من جنسه أو دينه، أو تدينه أو مذهبه. فحقوق المواطنين والمواطنات المتدينين والمتدينات وغير المتدينين وغير المتدينات حقوق متساوية يجب أن ينص عليها الدستور الذي تعمل الأحزاب كافة تحت سقفه.

ويجب أن يقوم المشروع العربي في أيامنا على العدالة الاجتماعية. أن يكون الإنسان عروبياً لم يعن في الماضي بالضرورة أن يؤمن بالعدالة الاجتماعية. ولكن التجربة التاريخية أثبتت أن توسيع الهوة بين الغني والفقير يفتّت الأمة، وأنه في ظروفنا لا تُبنى أمةٌ يتلقى أبناؤها التعليم بمستويات متفاوتة ومناهج متنوّعة ولغات مختلفة في الدولة ذاتها، وفقاً لوضعهم الطبقي لا وفقاً لهويات إثنية مختلفة، أو يتلقى مرضاها العلاج طبقاً لوضعهم الطبقي. فلا تترك مهام كهذه لقوانين السوق، ولا بد للدولة من تبني سياسة في العدالة الاجتماعية. لا بد إذاً في عصرنا من جمع المشروع العروبي مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية... وطبعاً يُفضَّل أن يكون هذا الجمع قِيمياً أصلاً وليس أداتياً تمليه الحاجة.

لا يمكن أن تكون ديمقراطياً في الوطن العربي وأن تكون معادياً للعروبة لأنك ستجد نفسك داعياً لقمع إرادة الأغلبية. ولا يمكن أن تكون ليبرالياً فعلاً ومرتبطاً بالتدخل الأجنبي، لأن هذا الارتباط سيقودك بالضرورة إلى التقليل من شأن قمع حرية الأفراد وحقوقهم في مناطق النفوذ التي يتسامح فيها الاستعمار مع القمع الذي يقوم به حلفاؤه. ولا يمكنك حتى أن تكون ليبرالياً اقتصادياً وتدعم سياسات الولايات المتحدة و”إسرائيل” وحلفائهما في المنطقة لأنهما تساندان أنظمة تقوم على تداخل الامتيازات السياسية بالاقتصادية من خلال توزيع الوكالات كما تُوَزَّع الإقطاعات ونهب الدولة، والإثراء السريع، وهذا يناقض حتى الليبرالية الاقتصادية... ولذلك نقول إن النيو- ليبرالي ليس ديمقراطياً ولا حتى ليبرالياً بل تختزله التجربة ويختزل ذاته إلى مجرد ممسوس بلوثةِ عداءٍ فقد بريقه لكل ما هو عربي وإسلامي، وساخراً سخرية العاجز المملة من المقاومة والممانعة.

أما اليوم، فالمشروع العربي الديمقراطي يعني الرغبة في طرح الفكرة العربية بشكل يلتقي فيها بمصالح الناس ويشكل حلاً لهمومهم والقدرة على فعل ذلك.

وليس هناك أية صعوبة في شرح كيف يؤثر إلغاء التأشيرات بين الدول العربية على حياة الناس إيجاباً. كما ليس هناك أية صعوبة في شرح ماذا يمكن أن يعني تنسيق سياسات الطاقة والبيئة والكهرباء لأمة عظيمة من هذا النوع، وما وجه الفائدة في تنسيق السياسات الزراعية والغذائية والصناعية والتجارية، وتنسيق برامج التدريس وشروط القبول في الجامعات؟ وكل هذا قبل الحديث عن الوحدة السياسية.

لا يمكن لصاحب مشروع يقوم على الصالح العام في أيامنا، إلا أن يملك برنامجاً من هذا النوع يمكنه شرحه للشباب. ولأن الاستعمار و”إسرائيل” قد حدّدا موقفاً ضد العروبة هويةً لشعوب المنطقة ودولها، ورسما موقفاً ضد الاتحاد العربي بدأ بفصل الشرق عن الغرب من خلال السطو المسلح على فلسطين، وانتهى بالاستفراد بكل دولة عربية على حدة في شؤون الثروة والثورة والاستراتيجية، وصولاً أخيراً إلى ما يسمى بعملية السلام... فإن أي مشروع عربي في أيامنا لا بد بالضرورة أن يدعم المقاومة.

يجب التنبّه لضرورة تقريب التيارات الإسلامية المقاوِمة من الفكرة العربية وترسيخ الفكرة العربية في الحضارة الإسلامية، وتحذير المقاومة من خطر المذهبية والطائفية الذي يهدّد التواصل بينها وبين مجمل الأمة. ولا بد من التيقّظ من أن المقاومة ضد الأجنبي بذاتها ليست ثقافة تحررية بالضرورة، بل من حيث الإمكانية، ولا تشمل بحد ذاتها برنامجاً لما بعد التحرير، وإنها لا تبني للوحدة القومية بالضرورة، بل تفتح المجال لذلك... ولكن لا تكفي تحذيراتنا هذه بمجملها، إذا لم يمارس العروبيون الديمقراطيون المعارضون للطائفية والمذهبية أصحاب البرامج لما بعد التحرير، المقاومة بأنفسهم.

ليس خطابنا السياسي في هذه المناسبة، خطاب هزائم على سقم خطاب الهزائم وعلله والإفراط في عجزه حتى اليأس والقنوط أو الزحف في مراحل سابقة، ولا خطاب انتصارات على مغالاته ولا واقعيته المحلقة في مرحلة حالية صار فيها كل عدوان “إسرائيلي” يفشل لأسباب مختلفة يحوّل إلى انتصار عسكري على “إسرائيل”. إنه خطاب متواضع، كما كانت وتكون المقاومة حين تحقق انتصارات فعلية.

ويجب أن يدرك أي مشروع عربي ديمقراطي داعم للمقاومة أن المقاومة تحقق إنجازات على مستوى تحرير أراضٍ بالمعنى القطري للكلمة وتحرر الإرادة في مواجهة الاستبداد والاستعمار في آن، وتحافظ على الصراع ضد الصهيونية، وتمنع “إسرائيل” من التطبيع. هذه مهمات تاريخية عظيمة تقوم بها المقاومة. ولكن لا يمكن للمقاومة الفاعلة حالياً حيث تضعف الدولة العربية فقط، أي في فلسطين ولبنان، أن تهزم المشروع الصهيوني بشكل كامل، فهذا واجب العالم العربي دولاً وشعوباً، وليس واجب المقاومة فحسب.

يطرح المشروع العربي الديمقراطي المهام الواقعية التالية للتعاون والتنسيق بين الدول العربية، ولا محيد عن هذه المهام التدريجية في الطريق نحو الاتحاد العربي الإقليمي (أو حتى دولة الولايات العربية المتحدة التي نتوق إليها والتي تعترف بالدول العربية القائمة وحدودها في إطار الاتحاد الفدرالي)، وهذه المهام واقعية إلى درجة أن الدولة العربية قادرة على تحقيقها في وضعها الحالي:

1- إلغاء تأشيرات الدخول وضمان حرية التنقل بين الدول العربية.

2- إزالة الحواجز الجمركية بين الدول العربية.

3- السعي لتحقيق التكامل الاقتصادي في سياسات الطاقة، والغذاء، والبيئة والتجارة.

4- تطوير خطوط سكك الحديد وطرق المواصلات بين الدول العربية.

5- توحيد شروط القبول في الجامعات وتنسيق مناهج التدريس بالحد الأدنى اللازم، والاتفاق على منهاج موحد في تاريخ العرب وجغرافية الوطن العربي يعده فريق من الأخصائيين.

6- إقامة محكمة عربية متفق عليها بميثاق عربي ملزِم للبت في الخلافات العربية العربية.

ويجب أن يترافق طرح هذه المهام على الرأي العام مع عملية شرح فائدتها للعمال والفلاحين ورجال الأعمال والمثقفين والشباب والنساء والفئات المهمّشة. يجب ألا تكون الوحدة العربية شعاراً، بل يجب تفصيلها إلى مجموعة من المطالب والبرامج التي يدركها المواطن العربي ويدرك أنها في صالحه.

يفرد المشروع العربي الديمقراطي مكانة خاصة لمسألة اللغة العربية والتعليم، ففي غياب الدولة الواحدة، تشمل الثقافة أساس المشترك العربي وفي مركزها اللغة العربية.

ومن هنا، فإن ما يمكن أن تسمح به مستعمرات سابقة مثل الهند، لا يمكن للعالم العربي أن يسمح لنفسه به . فالهند دولة واحدة يحافظ عليها الإطار السياسي حتى عندما يجري التدريس في قسم كبير من مؤسساتها باللغة الإنجليزية. أما في بلادنا فلا يقتصر التهديد بالتفتيت على استهداف الأمة وحدها بل يمس وحدة الدولة القطرية ذاتها، فلا بد من الحفاظ على اللغة العربية كلغة تدريس في المدرسة والجامعة على حد سواء.

لقد حققت دول مثل كوريا واليابان ناهيك بفرنسا وإيطاليا وإسبانيا نهضتها الحديثة وساهمت في الحضارة المعاصرة بلغتها القومية، وليس باللغة الإنجليزية. وكذلك فعل الكيان الاستيطاني “الإسرائيلي” إذ وحّد اللغة العبرية وصهر جميع القوميات بواسطة اللغة والجيش في لغة عبرية واحدة، هي لغة التدريس الوحيدة لا الرئيسية في “إسرائيل”.

ومن شأن الاستهتار باللغة العربية، بخاصة من قبل النخب الاقتصادية والسياسية من خلال إنشاء مدارس خاصة تدرّس بالإنجليزية، أن يحوِّل الفجوات الطبقية والاقتصادية إلى تنافر ثقافي وسياسي ضمن أفراد الشعب الواحد، كما يؤدي إلى اغتراب الطبقات ثقافياً وليس فقط سياسياً واقتصادياً، كما يحول دون تطور اللغة العربية ذاتها.

إن الاعتقاد أن التخلي عن اللغة القومية لصالح غيرها في التدريس وفي التعامل اليومي عند بعض الفئات الاجتماعية، يفقد الأمة طريق التطور الأكيد نحو المعاصرة والحداثة، ويحل محلها فقدان الهوية من دون اكتساب أخرى، فتخرج نخب هجينة لا هي عربية ولا هي إنجليزية بل مقلدة مستهلكة تحاكي غيرها دون إبداع.

ولا بد في عصرنا من تمكين الطالب من اللغة الإنجليزية للتفاعل مع العالم المعاصر علمياً واقتصادياً، ولكن لغة التدريس يجب أن تكون عربية.

وتحتاج قضية التعليم العالي إلى اهتمام خاص متعلق بوضع ميزانيات عربية لمجلس تعليم عال مشترك لدعم التعليم الجامعي ومواءمته مع المستوى العالمي من حيث الأبحاث والميزانيات، بشكل يوزع المشاريع بناء على توافر الكفاءات في الدول العربية المختلفة.

ولا بد من التأكيد أن مهمة التعليم هي مهمة الدولة. ويمكن تشجيع تعددية ما بواسطة المؤسسات الأهلية. ولكن لا يجوز أن يتحول التعليم إلى عمل تجاري. هنالك إرباك بين وجود جامعات خاصة تملكها جمعيات ومؤسسات أهلية وقد تستثمر بها الصناعة وغيرها، بخاصة في مجال الأبحاث، وبين تأسيس جامعات ومدارس كمشاريع تجارية ربحية لا تملكها جمعيات ومؤسسات خاصة بل رأس مال خاص. ولا بد من وجود جامعات خاصة إلى جانب جامعات الدولة، وهي الأساس، ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون التعليم خاضعاً لقوانين السوق.

لم تنجح الدولة القطرية ذاتها، والتي تقدم كل من العراق واليمن والسودان نماذج بارزة عن فشلها، في مأسسة المجتمع الداخلي وبنائه ضمن أمة مواطنية أو ضمن وطنية إثنية محلية مختلفة، كما أنها أخفقت أيضاً في إرساء علاقات تعاون وتكامل وتعاضد مع الدول العربية. وفيما عدا الانقسام إلى محاور، نشأ وضع فضّلت فيه الدول العربية التنسيق مع أعداء دولة عربية أخرى على التنسيق معها، وشمل بما في ذلك التنافس داخل المعسكر الواحد على تبوّؤ المكانة الأقرب إلى الولايات المتحدة. وعادت إلى الظهور استراتيجية قديمة عرفت لدى قيادات عربية تقليدية في مرحلة الاستقلال وتكمن في كون المفتاح لقلب الغرب (بريطانيا وفرنسا في حينه، والولايات المتحدة حالياً) ينص على إرضاء “إسرائيل” حالياً، و”الصهيونية العالمية” في حينه.

ويستند هذا السلوك إلى تعريف النظام الحاكم لمصالحه خارج مفهوم الأمة والوطن والأمن القومي، كما تتضمن هذه المعادلة جميع المخاطر الناجمة عن هذا النوع من الفكر السياسي العربي الحاكم. فهو من ناحية يكرّر الأساطير القائلة إن اليهود يسيطرون على العالم، ولكنه ينزع إلى الاستسلام لـ”إسرائيل” والتبشير بضرورة إقامة العلاقة معها من ناحية أخرى، ما يثبت أن التفكير الأسطوري والفكر البراغماتي الذي يدعي العقلانية قد يكونان وجهين لعملة واحدة.

وفي عصر قيام الكتل الاستراتيجية والاقتصادية الإقليمية والدولية حول الأمة العربية، اعتاد الشارع العربي على جولات التوتر والانفراج في العلاقات العربية يصاحبهما بعدٌ شخصي متعلق بالزعماء يكاد يكون تهريجياً، وذلك على طريقة خلط أمزجة الحكام وقضايا الأسر الحاكمة بقضايا الدول والخلافات السياسية. ولا نغلو إذ ندعي أنه لا شبيه لهذه الحالة في أي منطقة أخرى في العالم. وبلغ الأمر أن تكرّست في الإعلام العربي عادة إحصاء من سيحضر ومن سيتغيّب عن القمم العربية باعتبار هذا الموضوع هو الخبر، لا ما تقره المؤتمرات، ولا ما نفَّذته من قرارات سابقة.

فبدل أن يكون هنالك حد أدنى من التوافق على مفهوم للأمن القومي والقرار العربي في التعاون والتحاور مع دول مثل روسيا والصين وتركيا وإيران وتكتلات شرق ووسط آسيا ودول أمريكا اللاتينية التي كانت حتى قبل عقد ونصف العقد تمر بنفس حالة الدول العربية... نشهد سياسات عربية تضعف البنى العربية القائمة وتفرغها من مضمونها.

وتنقسم الساحة السياسية العربية بشأن الموقف من إيران، كما لو أن العلاقة معها تقوم على خصومة تاريخية. مع أن الخصومة التاريخية بين تركيا وإيران هي أعمق وأكثر حدة، ولم تحُل الخلفيات التاريخية دون التعاون الإقليمي بينهما والقائم على مصالح الدول المتجاورة، وعلى رفض تحديد علاقة كل منهما بمحيطها بموجب إملاءات قوى غربية.

صحيح أن المنطقة شهدت صراعات إقليمية تاريخية كثيرة منها العربي الفارسي، والعربي التركي، والعربي العربي. ولكن لا يوجد ما هو تاريخي في الخلاف المصطنع الحالي مع إيران، بل إنها التبعية لاعتبارات الغرب بما فيها اعتبارات “إسرائيل”، ومصالح أنظمة تصل حد تأجيج المذهبية لدى شعوبها هي.

ويتطلب تحديد موقف من سياسات الهيمنة التي تقوم بها إيران في العراق، وجود تصور مشترك لمصلحة عربية ولأمن قومي عربي يندرج ضمنها الموقف من عروبة العراق ومستقبله.

وشهدت المنطقة تغيراً مهماً مع سفور موقف دول عربية ضد المقاومة اللبنانية في حرب عام 2006 وضد المقاومة الفلسطينية بخاصة قبل الحرب على غزة وفي أثنائها وبعدها، بما في ذلك التجاوب مع الحصار المفروض على القطاع من قبل “إسرائيل” والرباعية الدولية. وما زالت هذه القضايا مواضيع صراع محتدم كما يبدو حالياً في ساحات الصراع العربية القائمة، بما فيها ساحة حصار قطاع غزة والتضييق على المقاومة لكي تقبل بشروط الرباعية الدولية أساساً لحكومة الوحدة الفلسطينية. وأهم هذه الشروط الالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير، وتشمل الاعتراف ب”إسرائيل” ونبذ المقاومة.

لا شك أن الدول التي ربطت نفسها بأجندة إدارة بوش بشأن علاقتها مع الدول والكيانات التي رفضت سياسات هذه الإدارة منذ احتلال العراق، وبخاصة سوريا، وجدت نفسها في الوضع التالي: ولّى عهدُ المحافظين الجدد بعد فشلٍ مدوٍّ في تحقيق أهدافه عسكرياً، وقرر الناخب الأمريكي إنهاءه سياسياً وذلك لأسباب داخلية وخارجية تضافرت سوياً. لقد انتخبت إدارة أمريكية لا تقبل بمعادلة “من ليس معنا فهو ضدنا”. في حين أن الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة والتي أيّدت بفعالية سياسة إدارة بوش في الحرب على العراق مازالت تسير في الطريق نفسها. لقد دفعها هذا الطريق للمشاركة في الحصار على حكومة فلسطينية منتخبة منذ لحظة انتخابها، وجعلها تتهم المقاومة اللبنانية بالمسؤولية عن العدوان “الإسرائيلي” على لبنان عام 2006، لقد توقفت هذه الدول حالياً عن ذلك لغرض التفكير والتكيف مع الوضع الجديد حتى تتضح السياسة الأمريكية الجديدة. توقفت جميعاً بانتظار الاصطفافات الجديدة، ما عدا مصر المتورطة في صراع مباشر في ما يتعلق بغزة.

وقد ساهمت الأجواء الشعبية الضاغطة في ما يشبه الانتفاضة الشعبية العربية ضد العجز والتواطؤ الرسمي إبان الحرب على لبنان وعلى غزة في دفع هذه الدول إلى أجواء المصالحة في محاولة لامتصاص النقمة الشعبية المشتعلة في أثناء العدوان على غزة.

ليست هذه مصالحة فعلاً، بل هي إعادة جدولة للخلافات العربية إلى حين اتضاح سياسات إدارة أوباما. وبدل أن تطرح الدول العربية أجندة عربية مشتركة على الإدارة الأمريكية الجديدة المنفتحة والمستعدة للتغيير كما تفعل دول العالم الأخرى، نجد في المنطقة دولاً بلا أجندات حقيقية تطالب الولايات المتحدة بتحقيقها، بل تنتظر إملاءات جديدة من الولايات المتحدة بعد أن تتوصل الأخيرة إلى استنتاجاتها. ولذلك نشهد في كل مكان تراجعاً في سياسات الولايات المتحدة، في حين أننا نلاحظ تراجعاً عربياً حتى عن الخطاب الذي ساد في قمة غزة.

ليس ما يجري حالياً مصالحة عربية حقيقية، بل هو تعبير عن البنية المأزومة للنظام العربي الذي نعرفه منذ حرب الكويت.

لم ولن يتمكن العرب من الاستفادة حتى من تراجع قوة الولايات المتحدة، لأنه لا وجود لمشروع عربي مقابل. كما يصعب حتى على القوى العربية الفاعلة أفراداً ومؤسسات والمؤثرة في الرأي العام الغربي إقناعه بعدالة القضايا العربية، لأنه لا يوجد أي شكل من الكيانية العربية لتحصد النتائج.

للعالم العربي جاران منخرطان في مشاريع وطنية، مشاريع دولة. وهما إيران وتركيا. وقد انتقل كلاهما بدرجات متفاوتة من موقف العداء الكامل للعرب وطموحاتهما بالتحالف مع الغرب الاستعماري إلى موقع التعاون مع العرب، وإلى تطوير أجندات وطنية خاصة بهما. إيران دولة أكثر إيديولوجية. وفي مركز إيديولوجيتها تسييس للمذهب الإسلامي الشيعي الجعفري، بما في ذلك ما يمكن مناقشته ومعارضته مطولاً... ولكن العداء لـ”إسرائيل” ولسياسات الولايات المتحدة هي جزء من هوية النظام المحاصر أمريكياً منذ أن قامت الجمهورية الإسلامية. وتركيا ما زالت عضواً في حلف الناتو وتُعتَبَرُ رسمياً وبالأرقام شريكاً جدياً، بل حليفاً لـ”إسرائيل”. ولكنها تبحث عن علاقة أكثر توازناً بمحيطها العربي والإسلامي لغرض تعزيز مشروعها الوطني وهويته واقتصاده وصولاً إلى الدولة الإقليمية العظمى.

يبقى العرب الحلقة الضعيفة في هذه التطورات، ويفترض أن تُلامَ كياناتهم وقياداتها على وضعها هذا، بدلاً من إلقاء اللوم على وجود مشاريع للآخرين تتناقض هنا وهناك مع مصلحة عربية. ففي العراق تناقض واضح بين سيادة العراق وعروبته وبين السياسات الإيرانية الحالية. ولكنها عملية تتسرب وتجري وسط فراغ عربي، أكثر مما هي تعبير عن تناقض فاعل بين طرفين. الطرف العربي غائب كقوة دولة وطنية أو ككتلة دول عربية بأجندة مبلورة وأمن قومي مشترك. وتجري محاولة خطيرة لاعتبار مقاومة الاحتلال الراسخة التقاليد في التاريخ العربي الحديث مجرد تدخل إيراني في شأن عربي. وغالباً ما يُرَدِّد الحديث عن هذا التدخل في الشأن العربي معارضون للخطاب القومي العربي لدى توصيف الصراع مع “إسرائيل” وتحليله، أو في توصيف العلاقات بين شعوب الأمة.

ويلاحظ العرب أن الولايات المتحدة لم تعاقب تركيا على تميِّز سياستِها عنها، بل اختارتها الإدارة الأمريكية كدولة يخاطب منها الرئيس الجديد العالم الإسلامي عبر برلمانها. لقد اختار أوباما ومستشاروه تركيا لأنها دولة يمكن الدفاع عن نظامها في أوساط مؤيديه في الولايات المتحدة كدولة توفّر الحد الأدنى من مقومات الممارسة الديمقراطية بمفهومها المقبول من رأيها العام. فالإدارة الجديدة تبدو كمن يريد أن يحاور الجميع، ولكنها من دون شك تعتبر البعض حليفاً. ومن بين الحلفاء تشكل تركيا حليفاً مريحاً أكثر من غيره منذ اتبعت نظاماً لتداول السلطة، على الرغم من أن هذا التداول جاء بحزب يحمل هوية إسلامية إلى سدة الحكم. فالبلد الذي يمارس ديمقراطية داخلية بالحد الأدنى، يمكنه أيضاً أن يدعي أن لديه رأياً عاماً يرفض الانصياع للإملاء الأمريكي... فقد صوَّت البرلمان التركي على سبيل المثال ضد استخدام أراضيه للهجوم على العراق عام 2003، وتركيا دولة نامية تبحث عن مواءمة بين اكتشاف هويتها الحضارية وفضاء تطورها الاقتصادي الذي يعرف معدلات نمو مرتفعة جداً منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم.

ولكن الأهم من هذا كله، وعلى مستوى الرأي العام العربي والانطباعات السطحية، يتضح أن الموقف التركي المستقل عن حلف الناتو بشأن الحرب على العراق علماً أن تركيا دولة عضو فيه، إضافة إلى موقفها المتميز في حدته بشأن الحرب “الإسرائيلية” على غزة، لم يقللا من احترام الولايات المتحدة لحليفتها هذه، لا بل أنهما ضاعفاه.

لدينا هنا مثال واقعي عن دول حليفة للولايات المتحدة تؤكد على: (1) وجود تصور خاص بها لأمنها القومي و(2) مصالح اقتصادية واقتصاد وطني، و(3) رأي عام داخلي تهتم به وتأخذه بعين الاعتبار عند تحديد سياستها الخارجية. وهي تصرُّ على هذه العناصر المكونة للسيادة الوطنية ولبناء الأمة في عصرنا، ولو أدى ذلك إلى خلاف مع الحلفاء.. لدينا هنا مشروع دولة قومية فعلية، لكن الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة ليست دولاً، ولا هي مشاريع دول قومية.

في المنطقة مشاريع لدول ثلاث: تركيا وإيران وحتى “إسرائيل”. أما الدول العربية فتكتفي بمشاريع أنظمة لا يتوافر لديها مفهوم لأمن قومي ولا مشروع بناء اقتصاد وطني، ولا أدوات للتعبير الشرعي عن الرأي العام المحلي ولا قنوات لتنظيم تأثيره على السياسات، بل يتوافر لديها مفهوم الحفاظ على أمن النظام الحاكم.

في هذا الواقع العربي القائم لا ينشأ حتى مشروع تعاون لبلورة مفاهيم للأمن القومي المشترك أو المصالح المشتركة، ناهيك باتحاد أو وحدة عربيين. كما لم يتم حتى الآن الانطلاق من حقيقة مهمة هي أنه على العرب أن يعيشوا مع الجيران الأتراك والإيرانيين الذين لن يذهبوا إلى أي مكان. ومن الأفضل أن تكون هذه العلاقة علاقة صداقة وتعاون لا علاقة عداء.

ليس هذا الواقع واقعاً سياسياً مأزوماً فحسب، بل هو واقع اجتماعي وسياسي وأخلاقي وحضاري لا يمكن في ظله الحديث عن مشاريع مثل التنمية الاقتصادية والديمقراطية وغيرها. وفي ظل هذا الواقع أيضاً يطرح نفسه السؤالُ التالي: كيف يمكن في مثل هذه الظروف إدارة مفاوضات سياسية جدية مع عدو مثل “إسرائيل” بعد التخلي عن دعم المقاومة ضده والإعراض عن محاربته؟

لقد تبين أنه لا توجد حدود واضحة لمسار التدهور القائم بشأن فلسطين. فالنظام الرسمي العربي الذي أكد منذ العام 1974 مقولة “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” لكي يحرر نفسه من مهمة محاربة “إسرائيل”، بدأ بتبني مقولة أن المقاومة شأن الفلسطينيين الذي يجب دعمه عربياً. ثم تبين أن المقاومة تشكل عقبة أمام “عملية السلام” أو أمام العلاقات مع “إسرائيل” فتحوّل إلى منع المقاومة أو محاربة المقاومة.

لقد وصل هذا النوع من التفكير إلى: “لا نريد أن نحارب، ولا نريدكم أن تقاوموا”. فمُنِعت المقاومة بداية من الانطلاق من الدول العربية المحيطة بـ”إسرائيل” الواحدة تلو الأخرى. ثم تبين في الحرب على غزة أن هذا التفكير يقود إلى منع المقاومة داخل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وليس فقط من قِبَل الدول المحيطة بـ”إسرائيل”، والتي كانت تعرف بدول المواجهة. وقام بعد اتفاقيات أوسلو محور عربي- فلسطيني يحاول أن يمنع مقاومة الاحتلال “الإسرائيلي” من خارج المناطق المحتلة عام 1967 كما من داخلها، لأن الاستراتيجية الوحيدة المسموح بها حتى على الساحة الفلسطينية هي استراتيجية المفاوضات، أما “حق الشعوب في مقاومة الاحتلال” فهي مقولة نظرية مهما كانت صحيحة.

والحقيقة أنه برأينا آن أوان تغييرها لتصبح “واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال ودعم مقاومة الاحتلال”.

أعلنت الدول العربية التي دعمت حرباً على إيران طوال ثماني سنوات وسقط فيها مئات الآلاف، أنها لا تريد محاربة “إسرائيل”. ولم تطرح هذا السؤال مجدّداً: لماذا لا تريد الدول العربية محاربة “إسرائيل”؟ هل فعلاً “إسرائيل” دولة لا تُحارَب؟

ولا تكتفي الدول العربية بعدم دعم المقاومة بل تمنع المقاومة ضد “إسرائيل”. إن الأنظمة نفسها التي لم يهمها مقتل مئات الآلاف في حرب ضارية مع إيران استمرت ثمانية أعوام (وهي الحرب الكبيرة الحقيقية الوحيدة التي خاضها العرب في القرن العشرين، وتليها حجماً وشدة حرب أكتوبر)، ولم تتّهِم المبادر إليها بالتسبب بكارثة وبالتوريط والتدمير، تعتبر سقوط مئات الشهداء نتيجة لعدوان “إسرائيلي” إبادة شعب، وتنشر الرعب والخوف من “إسرائيل” وتتهم المقاومة بالمسؤولية عن الدمار. لا يريدون أن يحاربوا ولا يريدون دعم المقاومة، والنتيجة: لا يمكن حتى تحقيق تقدم في التفاوض مع “إسرائيل”. هكذا سدت هذه الأنظمة في وجه شعوبها الخيارات التاريخية الثلاثة: الحرب والمقاومة والمفاوضات... وبقيت المقاومة في تلك الجيوب بالذات التي تضعف فيها الدولة المركزية، ولذلك تعيش المنطقة العربية حال انسداد سياسي يرافقه مخاض السؤال: ماذا بعد؟

أثبتت هذه السياسات أنها غير قادرة على تحقيق إنجازات في المفاوضات، ولقد وصل هذا التفكير إلى مفترق طرق: لا حرب، ولا مقاومة، ولا إنجازات في المفاوضات باتجاه حل عادل. هنا تصبح عملية السلام هدفاً قائماً بذاته... لأنه لا عودة منها إلى الحرب، ولا تَقَدُّم منها إلى حلول عادلة.

وفي هذه الأثناء تراهن بعض الدول العربية على ما يسمى بـ"عملية السلام" كآلية اتصال وتواصل مع الولايات المتحدة، وكآلية لتحسين الوضع الاستراتيجي لهذا النظام أو ذاك في منظومة الاهتمامات الأمريكية، بخاصة في ما يتعلق بأوضاعه الداخلية، إضافة إلى العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة. ولكن سرعان ما يتبين مدى صغر هذا المشروع، وعدم التمكّن من التقدم بمشاريع كبيرة لأي نظام عبره.

وكما تحوّلت “عملية السلام” إلى دائرة علاقات عامة لدى الولايات المتحدة كذلك تحوَّلت بالنسبة إلى دول عربية في علاقاتها بالولايات المتحدة.

1- ليست العروبة منظومة إيديولوجية، ولا منظومة فكرية سياسية، بل هي ثقافة وطنية قومية تشكل أساساً لوحدة الشعب في كل دولة عربية ولوحدة الأمة بشكل عام، ولا يعفي التمسك بها من طرح برنامج ديمقراطي اجتماعي يتوخى حقوق المواطن المدنية والعدالة الاجتماعية.

2- فشلت الدولة القطرية العربية في إقامة دولة المواطنين وفي عملية بناء أمة قطرية، كما فشلت في تجاوز ذاتها نحو تحقيق حالة تعاون واتحاد عربيين.

3- لا بديل للهوية العربية داخل الدولة القطرية وفي العلاقة بين الشعوب العربية إلا المذهبية والطائفية.

4- يحكم الدولة القطرية العربية مَلَكية كانت أم جمهورية، كارتل مؤلف من نظام الأسرة الحاكمة والمحاسيب والأجهزة الأمنية ورأس المال الخدماتي والتجاري غير المنتج، ويشكل الاقتصاد الريعي عنصراً أساسياً فيها.

5- تعيش هذه البنية والتبعية للاستعمار وحالة التجزئة العربية، علاقة جدلية دائمة في ما بينها بحيث يغذي أحدها الآخر .

6- يشكّل غياب نظام المواطنة القائم على الحقوق والواجبات، والفساد، والفجوة الطبقية وتآكل الطبقة الوسطى، وديمومة الاستبداد السياسي جميعاً وحدة واحدة، وكل مواجهة مع عنصر من عناصرها هو مساهمة في المواجهة معها جميعاً . ولا بد أن تجري هذه المجابهة بأجندة وطنية ديمقراطية.

7- القضية الفلسطينية قضية عربية، وكذلك فإن كل أرض عربية محتلة هي قضية عربية.

8- “إسرائيل” كيان عنصري استعماري استيطاني... لا توجد إمكانية لسلام معه. والمستقبل الوحيد الذي ترضى به الشعوب العربية هو المساواة الكاملة بين جميع سكان فلسطين العرب وغير العرب بعد تحررهم من كيانية سياسية صهيونية.

9- المقاومة فعل تحرر للإرادة السياسية وفعل تحرير، المقاومة هي أحد أهم المؤشرات للإرادة الحقيقية للأمة في وجه الاستبداد المحلي والاستعمار على حد سواء. وتساهم المقاومة في تحرير الأرض العربية المحتلة، ولكن لا يمكنها هزم “إسرائيل” كلياً، فهذه وظيفة الشعوب والدول العربية، وهي قادرة عليها. ويعارض المشروع العربي الديمقراطي أي تطبيع مع الفكرة الصهيونية ومع “إسرائيل” كتجسيد لها.

10- تجري محاولة تفكيك أواصر العلاقات العربية في مرحلة تراجع الهيمنة الأمريكية على الصعيد العالمي، وقيام تكتلات إقليمية ودول إقليمية، ويبدو أن العرب بأمس الحاجة إلى تحديد فهمهم لمصالحهم المشتركة ولأمنهم القومي، ومن الواضح أن الرفض الرسمي العربي لفهم هذه الحاجة والإصرار على علاقة كل دولة على حدة مع الولايات المتحدة على أنها الهمّ الرئيسي لسياستها الخارجية، يتعارض تعارضاً كلياً مع موقف الشعوب العربية التي تطالب بتعميق وتوسيع العلاقات العربية العربية.

11- أي مشروع عربي ديمقراطي مقبل يجب أن يخاطب هموم المواطن العربي، ويتوقف نجاحه على قدرتِه على ربط مشروع التعاون والاتحاد العربيين بهموم المواطن ومصالحه.

12- وهذا يعني التأكيد على خطوات مرحلية مثل إلغاء التأشيرات عند التنقل بين الدول العربية، وإزالة الحواجز الجمركية، وإقامة مشاريع بنى تحتية في مجالات الاتصالات والمواصلات وسياسات الطاقة والغذاء والبيئة، لا بد من طرح هذه المطالب وإقامة تحالفات اجتماعية وسياسية حولها.

13- لا تناقض بين الهوية العربية والإسلامية، وبين الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، ويدرك أي مشروع عربي ديمقراطي قادم أهمية الإسلام ديناً وثقافة للعرب أفراداً وجماعات. ولكنه يرفض الإملاء والقسر الديني بقوة السلطة والسياسة، كما يرفض التكفير الديني في السياسة، ويرفض أيضاً تحويل العلمانية إلى دين جديد معادٍ للدين، أو يقسّم الناس بين متنورين وظلاميين.

14- المواطنة وحدها، لا الانتماء القومي أو الإثني، هي أساس العلاقة بين الفرد والدولة.

15- يعترف المشروع العربي الديمقراطي بالانتماءات غير العربية في إطار الوطن العربي، وبحقوق ثقافية جماعية، وإدارة ذاتية بدرجات متفاوت حسب الظروف العينية، وذلك في إطار المواطنة المتساوية، مع التأكيد أن العروبة هوية ثقافية حضارية لغوية وليست هوية قائمة على العرق أو الأصل.

16- يؤكد المشروع العربي الديمقراطي أهمية ترسيخ اللغة العربية وتطويرها، فهي نواة الثقافة العربية التي تجمع الشعوب العربية في فضاء الحضارة العربية الإسلامية.

التعليقات