عزمي بشارة: الدولة الريعية والديموقراطية المعاقة؛ هـل يحتـاج العالـم العـربـي إلـى طاعـون وزلــزال؟ / صقر ابو فخر

الديموقراطية، في الأساس، نظام سياسي وثقافة وسلوك اجتماعي وقوانين ومؤسسات معاً.

عزمي بشارة: الدولة الريعية والديموقراطية المعاقة؛ هـل يحتـاج العالـم العـربـي إلـى طاعـون وزلــزال؟ / صقر ابو فخر
الديموقراطية، في الأساس، نظام سياسي وثقافة وسلوك اجتماعي وقوانين ومؤسسات معاً. ومع أن الديموقراطية باتت غاية لجوجة في المجتمعات العربية كلها، وصارت لدى الكثيرين من المثقفين العرب مفتاحا سحريا، إلا أنها لم تجد، حتى الآن، تأسيسا نظريا لها. وكتاب عزمي بشارة: «في المسألة العربية»([) هو، حقا، تأسيس نظري وجدال فكري وبيان سياسي في آن. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يتطابق مع وعينا حيال مسألة الديموقراطية، ويزودنا، فوق ذلك، بذخيرة معرفية رفيعة في هذا الحقل من التفكير النقدي. لقد شهد العالم العربي، بعد الحقبة الاستعمارية، موجتين متداخلتين هما: موجة القومية العربية التي نجحت، موقتاً، في مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر، لكن السلطات الجديدة المنبثقة منهما تحولت، لأسباب متشابكة، إلى الاستبداد، وموجة الاسلام التي أخفقت في مصر وسوريا والجزائر والسودان وحتى في فلسطين، فتحولت الى العنف الهمجي والارهاب. وها نحن اليوم نشهد موجة ثالثة هي موجة الديموقراطية.

يلاحظ عزمي بشارة في كتابه هذا ان من غير الممكن «تأسيس او إنشاء نظام ديموقراطي في مرحلتنا التاريخية المعاصرة من دون ديموقراطيين» (ص23). وتبدو هذه الفكرة، للوهلة الأولى، بدهية. أي ان الانتقال من الاصلاح الى الديموقراطية، على سبيل المثال، يحتاج الى ديموقراطيين بالدرجة الأولى. غير أن إنعام النظر في هذه «البدهية» ربما يؤدي بنا إلى دروب أخرى مغايرة قليلاً. لقد ظهر في سماء العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر فصاعداً نهضويون كثيرون، وكان لديهم مشروع نهضوي ما، غير ان هذا المشروع النهضوي التنويري فشل، لا لعدم وجود نهضويين وتنويريين، بل لعدم ظهور طبقة اجتماعية، او فئات اجتماعية، تحمل على عاتقها مثل هذا المشروع، وتحوله الى جهد سياسي متواصل. واليوم ثمة ديموقراطيون كثر، وهناك حاجة ملحاحة الى الديموقراطية في العالم العربي، لكن، يبدو لي أن هذا الأمر ما زال كما كان عليه التنوير منذ نحو مئة عام: يتيماً ونخبوياً معاً. فالفئات الاجتماعية الدنيا، بعد تحطيم الطبقة الوسطى، غارقة في «التمشيُخ»، ورازحة بمهانة بين سلطتين غاشمتين هما: الاستبداد والفقهاء.

ماذا يقول الكتاب؟
يعالج عزمي بشارة في هذا الكتاب «الاستثنائية العربية بشأن الديموقراطية»، وهو يعتقد أن لا استثنائية اسلامية بشأن الديموقراطية، بينما هناك استثنائية عربية. أما لماذا هذه الاستثنائية العربية، فإن عزمي بشارة يقول: لأن القضية العربية، كقضية قومية، لم تُحل، أي أن حق تقرير المصير للعرب لم ينجز بعد. ومع ان الكاتب يصر على أن العشائرية او الثقافة السياسية او الاقتصاد الريعي لا تشكل، في حد ذاتها، خصوصية عربية ولا تمنع التحول الديموقراطي (ص9)، فإن كتابه الذي حمل عنوانا فرعيا هو «مقدمة لبيان ديموقراطي عربي» مكرس كله لمحاولة فهم معوقات التحول الديموقراطي.

يفرّق الكاتب بين عملية تأسيس الديموقراطية وعملية إعادة انتاجها، ويرى ان من غير الممكن، في عملية التأسيس، تجاهل النموذج القائم، لأن «لا حاجة الى أن يعيد الانسان العربي اختراع الدولاب في كل مرة من جديد» (ص 224)، كأن «حاضرنا هو ماض غربي» (ص113). ويرى، في هذا السياق، ان «في الإمكان إعادة انتاج الديموقراطية من دون ديموقراطيين، لأن الديموقراطية في مرحلة إعادة إنتاج ذاتها هي التي تصمد وتتطور بغض النظر عن قيم الشخوص التي تدير دفة الحكم. وتفترض مرحلة إعادة انتاج الديموقراطية لذاتها ان قواعد وأسس الحكم قد أُرسيت، ونشأ لها حراس في القضاء والصحافة والأكاديميا، وهي تمكّن من إعادة انتاج النظام حتى لو كان من يقف على رأسه لا يحمل قيما ديموقراطية كما حملها الديموقراطيون الأوائل، ولا قيما ليبرالية كما حملها الليبراليون غير الديموقراطيين في القرن التاسع عشر (...). وهذا هو المهم في حالة وجود نظام ديموقراطي يعيد صنع نفسه: ان دوافع السياسيين وأهدافهم لا تؤثر في طبيعة النظام وقواعده» (ص22). ونلاحظ مع المؤلف أن الإصلاح، وهو عملية شديدة الحيوية في مجتمعاتنا العربية الراهنة، ربما يكون الولادة التي ستنبثق الديموقراطية من بين يديها. غير أن عزمي بشارة يتخوف من اختلاط الإصلاح السياسي بالتدخل الأجنبي (ص10)، لأن من غير الممكن استجلاب الديموقراطية من خلال البوارج الأميركية، مع «أن موجات الإصلاح الأساسية في الوطن العربي، منذ الحقبة العثمانية، جاءت كرد فعل على التطورات الخارجية» (ص61).

مهما يكن الأمر، فإن معوّقات الديموقراطية، بحسب عزمي بشارة، أربعة هي: الدولة الريعية، والعشائرية، والثقافة السياسية، وترييف المدينة. أما الدولة الريعية فهي التي «تعتاش على عائدات من الخارج، إما من بيع مادة خام او خدمات استراتيجية، او من ضرائب تُجبى على تحويلات من الخارج» (ص73). والدولة الريعية تتميز بقطاع دولة كبير، وفي الوقت نفسه بمستوى منخفض من تحصيل ضريبة الدخل» (ص78).

إن دافع الضرائب هو الذي يموّل الجزء الأكبر من دخل الدولة في المجتمعات الديموقراطية التاريخية، وهذا الأمر هو أحد أركان المجتمع المدني الحديث. بينما يعتاش المواطنون في الدولة الريعية من الدولة. أي أن الدولة هي التي تمولهم بدلا من أن يمولوا هم الدولة التي هي، في نهاية المطاف، مزيج من سلطة قبلية وشركة استثمارية معاً. ويرى الكاتب أن الفلاحين، والعسكر من أبناء الفلاحين هم الذين قطعوا اللحظة البرلمانية في العالم العربي. وهؤلاء العسكر الريفيون تمكنوا، بالتأميم، من زيادة قوتهم والإنفاق على سلطتهم الجديدة. وأتاح التأميم لهذه النظم العسكرية ان تعقد رشوة اجتماعية مع الفلاحين والعمال في صورة تعليم وأراض ووظائف لقاء الولاء السياسي (ص81). والعسكرة، بهذه الصيغة، هي أحد عوامل إعاقة الديموقراطية. ومع أن العسكر كانوا من أبناء المدن قبل حقبة الخمسينيات، وهي حقبة الانقلابات العسكرية التي قطعت «اللحظة البرلمانية»، إلا أن أكثريتهم باتت من أبناء الريف في المرحلة اللاحقة، لأن سكان الأرياف كانوا يشكلون نحو 70 في المئة من عموم السكان في الأربعينيات (سوريا مثالا)، وصاروا يشكلون 70 في المئة من سكان المدن في الثمانينيات، أي من جيل بشري واحد. وبهذه الرؤية يمكن تفسير كيف ان ردات فعل أحزمة الفقر على المدينة وعلى ثقافة المدينة لم تتخذ شكل حركات الاحتجاج السياسي والاجتماعي، بل اتخذت شكل الأصوليات الدينية او المجموعات القومية المتطرفة.

قصارى القول إن هذا الكتاب التأسيسي يحفل بالوافر الوفير من الأفكار الثاقبة والآراء النقدية والسجالية، وفيه نعثر على خلاصات ذات أهمية قصوى في الجدال الفكري المحتدم الآن في شأن الديموقراطية والإصلاح والعلمانية...الخ.

ماذا نقول نحن؟
يحتوي الكتاب فيضاً من الأفكار المتشعبة والمتشابكة معا، ومقالتنا هذه تضيق بإمكانية الاستفاضة في مناقشتها في مقالة واحدة. لهذا لن ألجأ إلى رصد كل فكرة او عبارة او جملة في هذا الكتاب لنقدها او نقضها او عرضها او دحضها، فتلك طريقة «قوالي الزجل» ومرددي القوافي الى حد ما. لذلك سأحاول ان أضع بعض الهوامش لهذا الكتاب كوسيلة لمناقشة الآراء التي حفلت بها صفحاته، والخلاصات التي انتهى اليها مؤلفه. وفي الوقت نفسه كطريقة لإعلان انتمائي الى مضمون هذا الكتاب.

الدولة الريعية

الدولة الريعية التي تناولها عزمي بشارة كأحد معوقات الديموقراطية، ليست أمرا حديثا البتة، فالدولة العربية الأولى هي دولة ريعية تماما، وذات وظيفة عسكرية طفيلية. فهي استندت الى خراج الأراضي المفتتحة والى الجزية في تأمين إنفاقها، ولم تحترم الملكية الخاصة قط، فمنعت، ببداوتها، تحول التجار الى طبقة اجتماعية، والحرفيين الى صنّاع. ولأن دخل هذه الدولة قام على الخراج والأعشار والجزية والرسوم، فقد كان ذلك سبباً في ظهور الاستبداد مبكراً. فحينما توقفت الفتوحات وانكمشت عائدات الجزية بدخول الناس أفواجاً في الاسلام، راح الحكام يفرضون الضرائب المتصاعدة على التجار وأصحاب الحرف بالدرجة الأولى. ولا ريب في أن عدم احترام الملكية الخاصة للأرض منع استقرار الثروة، فكان الحاكم يُقطع الأرض مَن يشاء ويمنعها حينما يشاء وعمن يشاء. وهكذا حال الحاكم العربي الذي سلّط عماله على أصحاب الأراضي والتجار والحرفيين، دون مراكمة رأس المال، ولم تنج من المصادرة إلا الأوقاف التي تحولت، في ما بعد، الى سلطة في خدمة الحاكم. فإذا كانت المدينة التجارية في أوروبا اكتسحت الريف بالسلعة، وبالنقود بدلاً من المقايضة، فإن المدينة العربية الإسلامية اكتسحت الريف المنتج بالقوة، أي بالعسكر البدوي على غرار بني هلال، وصارت ناهبة للريف. ولهذا كانت جميع حركات الاحتجاج التي تندلع في المدن ذات طابع حرفي، والتي تندلع في الأرياف موجهة ضد الغلاء والضرائب.

وأبعد من ذلك كله مسألة الأمة. فالأمة في الغرب، على سبيل المثال، تكونت أولاً ثم ظهرت الدولة التعاقدية. أما في بلاد العرب فقد ظهرت الدولة أولاً كعصبية دم (الدولة الأموية، العباسية، السلجوقية، الأيوبية، العثمانية، الهاشمية، السعودية...الخ)، ثم حاولت تأسيس أمة. وهذه العملية المقلوبة، قياساً على التجربة الأوروبية، كانت إحدى المعوقات التاريخية لظهور الرأسمالية الحديثة التي كانت الديموقراطية أفضل منتجاتها. وقد كان ظهور الطوائف الحرفية في القرون الوسطى، ثم الانفصال التدريجي للصناع عن التجار من بين أهم الأسباب لظهور الرأسمالية، حينما تطورت الحرف إلى صناعات بعد ان راح العمال يتمركزون في أماكن عمل واحدة، وفي المدينة التجارية بالتحديد. فالمدينة في أوروبا كانت مدينة التجار الذين كافحوا الإقطاعيين باسم حرية المرور، وكافحوا رجال الدين باسم حرية التفكير وحرية المعتقد. أما المدينة العربية فقد كانت مدينة الدولة لا مدينة التجار والحرفيين، مدينة جباة الضرائب والجند والعسس الذين طالما أرهقوا كاهل التجار والحرفيين بالضرائب والمصادرة وأزهقوا أرواح الكثيرين منهم. لهذا ليس من المستغرب أن تغيب الظاهرة الحضرية عن المدينة العربية اليوم. فالمدينة العربية المريّفة ليست ذات بنية شبكية ونسيج تفاعلي، بل هي عبارة عن جماعات بشرية مستقلة اجتماعياً ومتراصفة سكنياً على شكل مجمعات متجاورة. وهذه المجموعات تتفاعل، بالدرجة، الأولى، مع منابتها الأصلية، أي مع عائلاتها وعشائرها ومع المناطق والقرى التي تحدروا منها، وهي لا تتواصل مع المجموعات الأخرى المجاورة لها إلا لضرورات الحياة والعمل والمعاملات.

الديموقراطية والإسلام

يعتقد عزمي بشارة أن الدين، والإسلام بالتحديد، ليس عائقاً أمام الديموقراطية. وعلى الأرجح أن هذه الفكرة صحيحة. لكن الإسلاميين في بلادنا طالما رفضوا الديموقراطية، لأنها تقول بـ «حكم الشعب» وبـ «الدستور»، بينما يعتقدون هم بـ«حكم الله» وحده وبسلطان «الشريعة». وأنصار السُنّة في العراق يرفضون الديموقراطية، لأنها «تؤله البشر». ويرى أسامة بن لادن أن «الديموقراطية ردة وقحة». وزميله أبو مصعب الزرقاوي يعتقد أن «الديموقراطية مبدأ شيطاني وهي مجرد هرطقة (...) لأنها تستبدل حكم الله بحكم الشعب». و«جماعة أنصار الشورى والإسلام» في الكويت يؤمنون بأن «الديموقراطية أكبر خطر على وحدتنا الوطنية (...)، وما دخلت الديموقراطية بلداً إلا أفسدته وأثارت الفتن والحروب الأهلية» (جريدة «السياسة» الكويتية،22/5/2006). ولو استولى الأصوليون على السلطة بالديموقراطية فإن أول ما سيفعلونه في اليوم التالي هو إلغاء الديموقراطية بصفة كونها نظاماً مستورداً وهي، لديهم، ليست إلا حماراً يركبونه حتى يصلوا إلى غايتهم. غير أن الديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي عقد اجتماعي. وكما في أي تعاقد، فإن التزام جميع الأطراف هو شرط لسريان العقد ومفاعيله. والديموقراطية لا يمكنها أن تكون نظاما للحكم من غير أن تكون نظاما للمجتمع. وللأسف فإن المجتمعات الاسلامية، في معظمها، معادية للديموقراطية اجتماعيا وثقافيا للأسباب التاريخية إياها. والديموقراطية، بحسب ما أعتقد، تتضمن حرية الرأي وحرية التعبير. وفي هذه الحال هل تتحمل المجتمعات الاسلامية والعربية أيضا، الديموقراطية افتراضا، مارتن لوثر مسلما، او فولتير عربيا؟ وفي هذا الميدان كان من اللافت ان القانون الانتخابي في الجزائر، «الديموقراطي» بالطبع، أتاح للمرأة حق الاقتراع. ولكنه أباح للرجل أن يقترع نيابة عن ابنته أو زوجته. وهكذا صار للرجل صوتان أو أكثر. ومثل هذه المهزلة، أي مهزلة الإنابة في مجتمع غير ديموقراطي، مارستها حركة «حماس» عندما دعت إلى عقد جلسة للمجلس التشريعي الفلسطيني في تشرين الثاني 2007 بغياب معظم أعضاء المجلس. واعتبرت «حماس» هذه الجلسة شرعية، لأن الحاضرين امتلكوا وكالات من الغائبين... وهكذا صار مَن أنابه الشعب قادراً على إنابة غيره. وتحيا الديموقراطية الاسلامية!

الديموقراطية ليست الأكثرية.

يقول عزمي بشارة في نص بديع: «لقد تغير مفهوم الديموقراطية مع تغير مفهوم الشعب. وقد ولّدت الفردية والانتداب والتمثيل والنيابة الحاجة إلى تقييد الأغلبية وحقوق الأقلية وتحصين الدفاع عن الحريات، ليس فقط لأن الفردية جلبت معها قيمة الحرية، بل أيضاً لأن الفردية والاغتراب عن الجماعة حملا معهما خطر بحث الفرد المغترب عن معنى وعن ملجأ له من غربته في الايديولوجيات الشمولية. الفرد الذي لم يعد جزءاً من جماعة عضوية، بل اغترب عنها وأصبح فرداً داخل جمهور هو ليس فرداً حراً فحسب، بل هو أيضاً فرد سهل التحريض والانقياد وراء التعبئة الايديولوجية، لأنه تحرر ليس فقط مما قيّده، بل أيضاً مما يحميه. لقد جلبت الحرية الفردية الحديثة نقيضها معها» (ص 25 ـ 26).

إذا كانت الديموقراطية تعني، في أحد وجوهها «حكم الشعب للشعب»، فإن الجانب التمثيلي في الديموقراطية يعني ان الحكم ليس للشعب بل لممثلي الشعب المنتخبين. وهؤلاء، على العموم، أقرب الى فئة نخبوية منهم الى فئة من الشعب. والديموقراطية التمثيلية تتيح لكل ناخب ان يدلي بصوته وأن يرشح نفسه أيضا. وفي الديموقراطيات اليونانية القديمة كان يتم اختيار الحكام بالقرعة. وبهذه الوسيلة تتساوى حظوظ جميع الناس في أن يصبحوا حكاما. أما في الديموقراطية الحديثة فلجميع الناس حقوق متساوية في الاقتراع، لكنها لا تمنحهم حظوظا متساوية في أن يصبحوا حكاما، لأن النخبة الحاكمة كانت دائما ذات طبيعة أقلوية (أنظر: جورج طرابيشي، «في ثقافة الديموقراطية»، بيروت: دار الطليعة، 1998»).

والديموقراطية ليست حكم الأكثرية العددية دائما، مع أنها، في المبدأ، حكم الأكثرية مع ضمان حق الأقلية في أن تسعى الى أن تصبح أكثرية. ففي لبنان، على سبيل المثال، سيصبح حكم الأكثرية (وهم في هذه الحالة المسلمون) وسيلة من وسائل انتهاك حقوق الأقلية (وهم في هذه الحالة المسيحيون). وفي جنوب افريقيا كانت الأقلية البيضاء تحكم الأغلبية السوداء، وحينما انقلبت الأحوال تمكنت الديموقراطية من إلغاء التفرقة العنصرية. لكن هذا الأمر ليس نهائياً، فثمة خطر من احتمال إعادة التفرقة العنصرية مجدداً، وهذه المرة من خلال تحكم السود بالبيض. ومنتهى القول في هذا الميدان إن الديموقراطية ليست نظاماً سياسياً فقط، وليست عقداً اجتماعياً فحسب، وليست مجرد ثقافة للناس، وإنما هذه الأمور كلها معاً، أي نظام للمجتمع بأسره. ولعل الوصول إلى الديموقراطية في عالمنا العربي يفترض الإصلاح والتنوير وإعادة تكوين الطبقة الوسطى قبل أي أمر آخر.

العَلمانية والليبرالية والإصلاح

الإصلاحات الطفيفة التي شهدتها المنطقة العربية ما زالت واقفة عند المرحلة العثمانية، وهي جاءت ثمرة للإكراه الخارجي ونتيجة للتوسع الرأسمالي، ولم تأت نتيجة لنمو قوى التقدم، بل بدافع أساسي هو مقاومة الانحطاط والخوف من السقوط. فقد كان لهزيمة الجيش العثماني أمام محمد علي باشا شأن في إلغاء السلطان محمود الثاني الانكشارية في سنة ,1826 والتوجه نحو تأليف قوة عسكرية نظامية. لكن الإصلاح الجدي لم يظهر إلا في سنة 1877 فصاعدا عندما هُزمت تركيا في الحرب الروسية ـ العثمانية، فدب الاضطراب في أوصالها، وكان من بين نتائجه ظهور الأفكار الإصلاحية ومصلحين من عيار مدحت باشا. وفي جميع الأحوال فإن الفكر الاصلاحي بدأ لدى الانتلجنسيا التركية قبل ان تتعرف إليه النخب العربية، هذه الأنتلجنسيا التي شاهدت بأم العين التقدم الأوروبي واطلعت على علوم أوروبا، فتحفزت للإصلاح لمواجهة انحطاط النخب العسكرية والدينية في تركيا.
قصدت من هذا الكلام إلى القول إن الإصلاح والتحديث، اللذين هما شرط أساس لنشوء مجتمع مدني وطبقة وسطى وفكر ديمقراطي، ليسا من شأن الطبقات الاجتماعية الفقيرة الغارقة مع الفئات الدنيا من بقايا الطبقة الوسطى بين سطوة العسكر وتابعيهم من رجال الدين وترهاتهم الفكرية. وأي إصلاح اليوم لا يبدو انه ينمو نتيجة لتطور قوى اجتماعية تحمل معها مشروعا اصلاحيا، بل نتيجة للاكراه الذي يمثله عصر العولمة والعلوم. ومع الأسف فإن الاصلاح الديني في أوروبا مهد لظهور عصر الأنوار العظيم، بينما «الاصلاح الديني» في مصر، كما تجلى على أيدي محمد عبده وغيره، مهد السبيل لظهور حركة الإخوان المسلمين والسلفية عندما ركز على فكرة العودة الى السلف الصالح. وهنا يكمن الفارق، فالنهضويون في أوروبا مالوا الى تغليب المستقبل على الماضي، بينما مال الاصلاحيون عندنا الى تغليب الماضي على الحاضر والمستقبل معا.

كانت الغاية من التنوير تحرير الانسان من سطوة رجال الدين، وتحرير العقل من كابوس اللاهوت وقيوده. وانطلاقاً من روح التنوير صارت المعرفة تستند الى العلم والى التجربة العلمية، وتحررت من الفقهاء وغيبياتهم وخرافاتهم. أما الأنظمة العربية العسكرية التي مارست شكلاً من أشكال التحديث من غير حداثة، فهي اليوم، على كثرة «مفكريها» وكتابها ومنظريها والضاربين بسيوفها، لا تملك رداً على تحدي الإسلاميين غير الدعوة إلى «إسلام معتدل»، وتقذف بأشخاص من طراز عمرو خالد وسعيد رمضان البوطي ويوسف القرضاوي ليتسلموا دفة المواعظ السياسية.

يتجنب عزمي بشارة الخوض في مسألة العَلمانية في هذا الكتاب، فهو، بحسب علمي، سيتناولها في كتابه المقبل. وسأستبق صدور ذاك الكتاب لأشتبك، سلفاً، مع هذه الفكرة. إن عزمي بشارة يعتقد أن من الصعب الفصل، في شروط هذا العصر، ما بين الديموقراطية والليبرالية وربما العَلمانية أيضاً. والمقصود بالليبرالية هو الليبرالية الفكرية بالدرجة الأولى.

إن التجربة العلمية تمنحنا القدرة على القول ان من المحال البرهان ان ثمة رابطاً جوهرياً بين الديموقراطية والليبرالية الاقتصادية مثلاً. فالنمور الآسيوية هي بلدان الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي في الوقت نفسه. والصين مثال آخر بدورها. وماليزيا دولة ليبرالية في الاقتصاد وغير ديموقراطية في نظامها السياسي. لكن هذه الصيغة لن تصمد طويلاً كما يبدو، فأقوى القلاع الصينية ستسقط، عاجلاً أم آجلاً، اذا لم يتم إدخال العَلمانية، بشكل او بآخر، الى ثنائية الديموقراطية والليبرالية كي تصبح ثلاثية. لنلاحظ كيف أن «الديموقراطية» في باكستان من دون علمانية تصبح استبدادا، فهذا البلد لم يعرف الديموقراطية الحقيقية منذ ما بعد ذو الفقار علي بوتو: جاء ضياء الحق (إقرأ: ضياع الحق) ثم نواز شريف ثم برويز مشرف بانقلابات عسكرية. لنلاحظ أيضا ان العَلمانية في تركيا من غير ديموقراطية صارت مهزلة. بينما الديموقراطية في الهند، لأنها علمانية صارت، منذ ان بدأت كديموقراطية كولونيالية في سنة ,1882 ثقافة وممارسة وعقداً اجتماعياً راسخاً، مع أنها قائمة على التوازن بين القوميات والأديان.
[[[
إن العَلمانية، في بعض وجوهها، تعني استقلال العلم عن الميتافيزيقيا، واستقلال الأخلاق عن الدين. وكما أن الطاعون لعب دوراً في قيام الديموقراطية في انكلترا في القرن الرابع عشر، لأنه «حصد ربع السكان، وفكك أواصر تبعية المزارع للإقطاعي، وهي علاقة التبعية التي منعت قيام نظام تعاقدي يؤسس للعمل المأجور ورأس المال» (ص22)، فإن زلزال 1755 على الطرف الغربي للمحيط الأطلسي ساهم في انبثاق عصر الأنوار الأوروبي بسبب المجادلات الفكرية التي اندلعت عقب ذلك، وبسبب النقد الذي طاول الكنيسة الكاثوليكية وتفسيراتها الخرافية لهذا الزلزال. فهل أن العالم العربي يحتاج اليوم إلى طاعون وزلزال كي ينبثق في أرجائه عصر التنوير والديموقراطية والعَلمانية والليبرالية؟


([) عزمي بشارة، «في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديموقراطي عربي»، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 271 ,2007 صفحة.

"السفير"

التعليقات