11/07/2015 - 17:11

حول الجذر التربيعي لظاهرة التكفير/ إسماعيل أبو شميس

كلمة فلّاح، التي اختارها الفلسطينيون لأنفسهم كمفردة محايدة، بعيدة عن الحمولة الدينية، اكتسبت بعد ظهور الإسلام حمولة محببة إلى نفس أهالي البلاد، فالمصدر العربي "فلح"، ارتبط بالفلاح، أي الفوز الديني، في حين انصرفت كلمة كافر إلى من يجحد الحق

حول الجذر التربيعي لظاهرة التكفير/ إسماعيل أبو شميس

إسماعيل أبو شميس

وفقاً لسفر الملوك؛ فإن بني إسرائيل لمّا دخلوا أرض فلسطين يقودهم يوشع بن نون، وجدوا فيها سبعة شعوب: 'الأموريين، والحتيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، والكنعانيين، والرفائيين'.

ورغم كون الشعوب السبعة المذكورة غير متمايزة وإنما بطون وقبائل تفرعت عن الشعب الأموري الواحد، فإن التوراة تسهب في التفصيل في وصفهم كأمم مختلفة، للتدليل على عظم الفتح، ثم تبدأ في وصف كل شعب منهم على حدة؛ فالحثيون جنود يقظون دائمي التأهب، والحويين أو سحرة الأفاعي يحترفون السحر، والكنعانيون تجار ينقلون البضائع والأخبار، أمّا الفرزيون فهم الأغلبية التي تؤثر العيش الهادئ بين كروم العنب والتين، ولا يمتشقون سلاحهم طلباً لعدو خارج بلادهم، وإنما لدفع عدو أرادهم على أرضهم.

بعد فتح العبرانيون للبلاد، أو بالأحرى، بعد موجات التسلل العبراني وفقاً لما ترجّحه الدراسات الحديثة، أذابت القرى الفلسطينية العدد الأكبر من أبناء القبائل العبرانية التي عاشت على أطرافها، لتبدأ مرحلة دعتها التوراة بزمن القضاة، ينقسم فيها العبرانيين إلى قسمين؛ الفئة الأعظم التي ذابت في البلاد، والفئة التي بقيت في مضاربها خارج القرى والمدن الفلسطينية تحت إمرة 'القضاة / زعماء القبائل'.

أطلق العبرانيون الذين بقوا تحت قيادة القضاة على أهل القرى في بداية الأمر لفظ ' ﭘرزيم / الفريزين' أو سكان 'פרס / ﭘرس'، اللفظة الأرامية التي كانت تعني الشق، ثم أطلقت على من يشقون الأرض، ثم استخدمها العبرانيون لوصف المكان الذي توجه إليه المنشوقون عن القبيلة، لتنصرف فيما بعد على مطلق القرية، إذ لم يكن يومها للعبرانيين من قرية أو مستقر، وإنما مضارب مؤقتة على أطراف القرى والحواضر الفلسطينية.

لم يستمر العبرانيون في استخدام كلمة 'ﭘرس' لوصف القرية، فسرعان ما استعاضوا عنها بكلمة 'كفار' المشتقة من الكلمة الأكادية 'كاﭘرو' من الجذر السامي 'كﭙر / كفر' بمعنى غطي، لكون الفلاحين يغطون البذور بالطين، إلا أن المعني الأكادي للجذر ما لبث وأن اكتسب دلالة دينة، فكلمة كفار في التداول اليهودي لم تعد تعني المزارعين، بل سكان 'الكفر / القرية' من الوثنين، أو من العبرانيين الخارجين عن الشريعة اليهودية، والذين اختاروا الإقامة بين ظهراني الفلسطينيين.

التحول الدلالي لكلمة 'كفر' ومشتقاتها في الاستخدام العبراني يعود لسببين رئيسين: أن القبيلة العبرانية كانت على وشك الاندثار والذوبان الكامل في أهل البلاد، لذلك توجب على 'القضاة / شيوخ القبائل' وصف الخارجين عليها بصفة تتضمن معنى اللعن الديني، إلا أن المخيلة اللغوية اليهودية لم تجد بكلمة خاصة، فتحورت الكلمة 'كافر / بمعنى مزارع' إلى علم على كل من يترك دين القبيلة ويندمج في مجتمع الحياة الفلسطيني.

والسبب الثاني هو أن القبيلة العبرانية جاءت إلى فلسطين بلا أي مؤهل حضاري، فلم تكن قادرة على الزراعة، ولم تكن تمتلك الأرض المناسبة لها كذلك، فقد استوطن 'الفرزيون / الفلسطينيون' الشريط الخصيب شمال غرب الكرمل، وانتشرت مدنهم على طول الساحل الفلسطيني، في حين أقام العبرانيون مضاربهم المؤقتة في الجزء المقفر من البلاد، ولذلك فلم يكن أمام القضاة من حيلة لتأمين معاش القبيلة سوى وصف سكان البلاد بالكفار أعداء الرب، وبالتالي اضفاء الصفة الدينية على أعمال السطو على أملاكهم من وقت لآخر.

ورثت المسيحية الرومانية وبحكم قراءة العهد القديم، اللفظة الواسمة 'كافر' وكل ما يلحق بها من النظر إلى الفلاحيين كوثنين، أو علمانيين جهلة، لا يعرفون شيئاً عن الملكوت ولا يعيشون إلّا من أجل هذا العالم، ثم بدأت الدلالات اليهودية لكلمة كافر تتسلل إلى اللغات الأوربية بعد ترجمة الكتاب المقدس، فأصبحت كلمة 'Paganus / فلاح' اللاتينية تطلق على الوثنين بشكل عام، واستخدمت كلمة ' saecularis / علماني' كوصف ازدرائي لسكان القرى.

في مقابل كل الوسوم الدينية التي ألحقت بأهل البلاد، وجعل حرفتهم علامة على أشنع أنواع اللعن الديني، قدّم أهل البلاد ومن خلال الكلمات التي طوروها عبر الزمن دفاعهم الخاص لأنفسهم، فقد توقفوا عن استخدام كلمة كافر بمعنى المزارع، واستبدلوها بلفظة 'فلاح' المشتقة من الكلمة اللاتينية 'villianus / القروي'، حيث تحول حرف 'v' إلى فاء، وحذفت لاحقة النسبة 'ianus'، وجعل حرف الحاء الحلقي، نهاية تتناسب واللسان العربي.

كلمة فلّاح، التي اختارها الفلسطينيون لأنفسهم كمفردة محايدة، بعيدة عن الحمولة الدينية، اكتسبت بعد ظهور الإسلام حمولة محببة إلى نفس أهالي البلاد، فالمصدر العربي 'فلح'، ارتبط بالفلاح، أي الفوز الديني، في حين انصرفت كلمة كافر إلى من يجحد الحق ويخفيه، وأطلقت كلمة كفار على مطلق الجاحدين، دون أن تتضمن إشارة إلى قوم بعينهم.

دفاع الفلسطينيون الثقافي عن أنفسهم لم يقتصر على الكلمات ودلالاتها، فقد وضعوا في مقابل قصة الشعوب السبعة التوراتية، قصة تفسر نشوئهم وتنوعهم كشعب، تعلي من شأن الفلاحين بصفتهم المكون الأساس لسكان البلاد، دون الانتقاص من باقي الفئات السكانية.

ومفاد القصة أن جد الفلسطينيين الأول ولما حضرته الوفاة، جمع أولاده الأربعة، وخير كل واحد منهم في نصيبه من الإرث؛ فاختار أبو أحمد أكبرهم سناً الثور والمحراث، وبذلك صار أباً لكل الفلاحين وسكان القرى، أما أبو رزق فقد طلب الدكان، التي عمل فيها مع أولاده الذين تفرقوا في المدن والحواضر وأورثوا مهنة التجارة لذريتهم جيلاً بعد جيل، في حين اختار أبو عثمان الحصان والسيف، ليصبح فيما بعد أبًا للجندرمة (الجنود ورجال الشرطة العثمانيون).

أما أبو سويلم والذي اختار الناقة، فما لبث وأن خرج وأولاده بناقتهم إلى الصحراء التي اختارتهم فاختاروا أن يبقوا فيها بدواً رحلاً حباً وطواعية.

الفلاحون هنا لم يعودا فرزين منشقين، أو كفاراً خارجين، بل ذرية أبو أحمد، الرجل الذي لم يجحد نعمة ربه وإنما حمده عليها. والكنعانيون أعداء الرب، أصبحوا أبناء أبو رزق، الذي يؤمن بالله كمقسم للأرزاق بين العباد، والحويون والرفائيون، لم يعودوا سحرة أفاعي ومشعوذين، وإنما أبناء أبو سويلم الذي يتقن على نحالته وخصره الضامر 'كما تدل على ذلك أيضاً صيغة التصغير' السلامة والنجاة في ظروف القحط وقلة الكلأ التي تتهدد بقاءه.

ملاحظات

التكفير:

ربما كانت مدعاة وسم جماعات معينة بالكفار في بادئ الأمر، هي حماية القبيلة العربية من الذوبان والاندثار عبر الفصل الديني الصارم، وتقسيم الناس إلى ناجين وهلاك، إلا أن فكرة التكفير لم تكن لتظهر لولا الفشل الحضاري الذي شعر به العبرانيين عند مقارنتهم أنفسهم بأهل البلاد.

القرية:

يكاد المعجم العربي يجمع كل الكلمات المستخدمة في التقسيم الحضري من كل اللغات السامية السابقة، في حين لا تختلف العبرية عن العربية سوى في طريقة النطق. لم يطرأ تغير دلالي جذري على كلمات التقسيم الحضري في العبرانية بالشكل الذي حدث في العربية بسبب الفترة التي هجرت فيها العبرية وبقيت بلا تداول ولا تطوير، وهذا بدوره يعطي فرصة أفضل للضبط للدلالي؛ فعلى سبيل المثال:
تشترك العربية والعبرية في: 'مدينة، حامية، عير، قرية، كفر'، إلا أن العبرية لا زالت تستخدم الكلمات السابقة بنفس دلالاتها في عصر كتابة التوراة، فمدينة بمعنى دولة، تذكيراً بعصر المدينة-الدولة، وغير مدينة كما كانت في العصر الرعوي، أما 'حامية / حوماه' فهي المدينة المسورة، كما هو الحال مع مدينة القدس وحواضر فلسطين الكبرى، أما قرية فلا تعني في العبرية ما تعنيه في العربية الحديثة، بل هي المستقر، أو مقر الجنود، أي المعسكر بالعربية الحديثة، ولذلك تجدهم يطلقون على مقر وزارة الدفاع وهيئة الأركان في تل أبيب اسم 'הקריה / هكرياه / القرية'.

العلمانية:

مرادف العلمانية في الثقافة المسيحية وفي اللغات الأوربية لا يحمل أي معنى من معاني التنوير كما هو الحال الآن، فلم تكن تستخدم إلا للانتقاص، وفي أحسن الحالات أطلق تعبير 'علمانيين أبرياء' كمتلازمتين، لوصف الريفيين الذين لا علم لهم بما يجري خارج قراهم، وعلى ذلك فلا يجوز اقحامهم في الصراعات السياسية بين الدول.

أبو عثمان:

أبو عثمان وبنيه عنصر حديث وطارئ على القصة الفلسطينية، وهو لا يخلو من لمز مبطّن لطبقة الأفندية التي بدأت بالتشكل كطبقة حاكمة من الدرجة الثانية، تعمل لصالح الحكومة الغريبة، وتحصل على الامتيازات مقابل إحصاء ارزاق الفلاحين والتجار، وجمع الضرائب، وتعقب الفارين من الخدمة الإلزامية.

ويتضح من القصة الفلسطينية أن إخوانه لم يروا في فروسيته ما يستحق المدح، فهو على حمله للسلاح، لم يحمله من أجل إخوانه الثلاثة، وإنما عليهم، ولذلك فقد تمسكت ذرية أبو أحمد بسلاحها الشخصي على مر العصور لأنها لم تر في سلاح أبو عثمان ما يدفع عنها عدوان المعتدين.

التعليقات