النهضة المعاقة (9): الأيديولوجية الشمولية، أو المغلقة، أو الثورية، أو الراديكالية المحض

إن جوهر الفكرة الأخلاقية في التنوير هو الحرية، حرية الاختيار المفترضة بين الخير والشر، الحرية القائمة في العقل العملي بين اتخاذ هذه الخطوة أو الامتناع عنها.

النهضة المعاقة (9): الأيديولوجية الشمولية، أو المغلقة، أو الثورية، أو الراديكالية المحض

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

_______________________________________________________

 الأيديولوجية الشمولية، أو المغلقة، أو الثورية، أو الراديكالية المحض

 

بالدمج المعياري بين الأخلاق والعلم يخاطر المرء بأن يخسر كليهما. وتقل القدرة على تحليل يقظ لما يجري في المجتمع كلما ازداد انتشار الخطاب الذي يدمج بين الأمنية والتشخيص، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. والثورية مزاج سياسي يميني ويساري، بغض النظر عن الفرق القيمي الهائل بينهما، لا يقبل إلا بنقض الوضع الشامل ويرفض نقده بالتفاصيل. فللتفاصيل بموجب هذا المزاج معنى إذا خدمت الرؤية الشاملة واشتقت منها فقط.

نقصد بالثورية الراديكالية مزاجًا سياسيًا خلاصيًا eschatological لأنه يصر على الخلاص الشامل بناء على نفي وتدمير الأوضاع القائمة كليًا، وبشكل جذري، وبناء مرحلة جديدة. وعندما يناقش التفاصيل وينتقد عينيًا فإنما يقوم بذلك تكتيكيًا في أفضل الحالات.

وهو يعتذر عن هذا التكتيك ويبرره في الجلسات المغلقة بضرورات الحفاظ على البقاء من أجل متابعة المهمة الثورية. هذا في الثورات والتحضير للثورات أيديولوجيًا. لكن ما معنى المزاج الثوري هكذا من دون ثورة أو تصور لثورة؟  إنه يعني مجرد كاريكاتير عن المزاج الثوري ومجرد عائق أمام الوعي النهضوي الذي غالبًا ما يكون قد بدأ ثوريًا. ولأن الوعي الثوري الراديكالي الطابع هو أيضًا شمولي النزعة يرمي إلى نفي الوضع القائم برمته فإنه يعتبر إصلاح الوضع القائم بالتدريج، عبر الحوار معه، تعبيرًا عن ضعف في أفضل الحالات، أو مجرد تكتيك ضروري. بل إن الحركات الثورية اعتبرت "النزعة الإصلاحية" reformism مذمة تصل حد المروق والفسق والزندقة، بل والردة إذا استعنا بمصطلحات دينية. لقد عامل المزاج الثوري والنفسية الثورية الإصلاح عبر التطور التدريجي evolution كنقيض للثورة revolution، أو كإجهاض له وتآمر عليها.

والمزاج الثوري، الذي ساد عشية الثورات، تعايش عادة، فيما بعد، كأيديولوجية تبريرية لسلطتها بعد انتصارها مع ممارسة إصلاحية الطابع نجحت حينًا في عملية تحويل الدولة والمجتمع، وفشلت أحيانًا. لقد تحولت ثورة أكتوبر الاشتراكية، مثلًا، إلى ممارسة إصلاحية وسطية (ما عدا في قضايا الأمن وضرورات الحفاظ على النظام) في ظل خطاب ثوري شمولي خلاصي يتحدث  عن تحطيم جهاز الدولة والبدء من الصفر وبناء الإنسان الجديد. لكن الإصلاح بأنواعه منذ عهد لينين فشل وانتهى إلى حالة إنهيار شاملة. والمزاج الثوري الديني الإيراني انتهى إلى التعايش كأيديولوجية دولة مع إصلاح لا نعرف نتائجه بعد. لكن ماذا يعني المزاج الثوري من دون ثورة ومن دون إدعاء التحضير للثورة؟  إنه حالة كاريكاتيرية مشوهة تحتفظ بالتفكير الشمولي المطلق من دون حوار جدلي نقدي مع الواقع من أجل تغييره.

وقد انطلق التفكير الشمولي من مسلّمات شمولية من نوع: "الحتمية التاريخية"، "الأخلاق يحددها الصراع الطبقي"، "التناقض الرئيسي في عالمنا هو كذا..". ولا بد أن بعضنا يذكر تلك الاجتماعات الشعبية في هذه القرية أو تلك، والتي كان يصدر في ختامها بيان يتضمن عبارات من نوع: القرية الفلانية " تندد بالعدوان الصيني على فيتنام" أو، "تؤيد مبادرة الاتحاد السوفياتي لنزع السلاح"، أو "تدين التدخل في شؤون الاتحاد السوفياتي الداخلية بحجة حقوق الإنسان". والمهم هو ليس فقط الادعاء الذي يثير الابتسام، حتى لدى من شاركوا في الماضي في مثل هذه الصياغات، والذي يضع قرية مهمشة في مستوى الصين والسياسات الصينية والحكم عليها، بل المهم هو الشعور بأن هنالك معركة رئيسية، "تناقضًا رئيسيًا" في عالمنا، وأن الناس منحازة لصالح طرف ضمن هذا التناقض، وتتخذ مواقف من دون الحاجة للمعرفة أيضًا. هنالك أهمية ذاتية كاذبة مفترضة في مثل هذا الوعي، كما أن هنالك تشجيعًا للجهل وعدم المعرفة بالانحياز الكامل في القضية الصغيرة قبل الكبيرة إلى "موقف" من دون رأي، وإلى "رأي" من دون معرفة.

وفي نمط الوعي هذا "تشتق" كل المواقف، كما في الاستنباط، من مسلّمة واحدة، من "موقف" واحد، بغض النظر عن التفاصيل والتنوع القائم في العالم من حولنا. كل شيء يبرر بالموقف من التناقض الرئيسي. ليس ضروريًا أن تعرف عن نظام ما أي شيء لتتخذ منه "موقفًا"، إذ تكفي معرفة موقف "الاتحاد السوفياتي" منه وهل هو "دولة صديقة" أم لا؟  والله وحده يعلم ما تعنيه هذه الصداقة، وكيف تسقط كلمة الصداقة من وعي الناس اليومي على العلاقة مع الدول، وكيف يتخيل الإنسان العادي أن هذه الدولة صديقة شخصية له، أو أن شعبها مكوّن فردًا فردًا من أصدقاء شخصيين، كما توهم بعض العرب مؤقتًا عن بلجيكا إبان الاجتياح الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة في نيسان 2002، بفعل الوعي الثوري الفضائي!

هذا الوعي الشمولي الإلمامي هو، في الواقع، جهل شمولي بكل شيء. والجهل عدو النهضة والتنوير، العدو بأل التعريف. ومأساته أنه يبدو كونيًا لأنه لا يتورع عن التعامل مع قضايا كونية. لكنه في الواقع يعمق الهامشية لأنه يعمق الجهل، ولأنه يبني على عصبيات، ويميل بشكل طبيعي لرؤية أسطورية تتصور عالمًا يحركه الصراع بين الخير والشرن لكنه يستبدل هذه القوى الأسطورية بدول وقضايا دنيوية. ومن نافل القول أن هذه الدول أو القضايا الدنيوية لا تمثل الخير، ولا تمثل الشر، فهي نتاج صراعات قوى ومصالح، ونتاج تاريخ وثقافات لا يعرفها متخذو المواقف، ولن يعرفوها ما داموا قد اختزلوها إلى خير وشر، وإلى "معنا" و"ضدنا". ومع تحول المعيار إلى "معنا" أو "ضدنا" تقترب السياسات "الثورية" من العصبوية التي تميز مراحل متأخرة من انحطاط سياسيات الهوية – وهذه هي العلاقة كما نراها بين الجهل والجاهلية.

لكن الأثر الأبلغ على الوعي والثقافة السياسية هو ذلك النابع من المزاج الراديكالي المحض الذي لا يختفي مع اختفاء "التناقض الرئيسي"، الذي بنى نفسه حوله، وانهياره وانحلاله، بل يلصق بعناد في الأذهان والثقافة عبر عملية التنشئة والتعويد، أو كمتحجرات فكرية راسبة في العقل. وأخطره ذلك الذي ينبع من الخلط بين الحكم العلمي والحكم الأخلاقي. فهذا يحفر أثرًا منهجيًا في العقل لا يختفي باختفاء مسبباته، ويراكم عوائق جسيمة أمام النهضة الثقافية والفكرية. وهذه المشكلة أساسية جدًا وتكاد تكون في أساس الحكم الإنساني. يبدأ أصل مشكلة الخلط بين الحكم الأخلاقي والعلمي في الفكر الشمولي الذي يشتق الأمرين: الحكم الذي يميز بين "الصواب" و"الخطأ"، وذلك الذي يميز بين "الخير" و"الشر" من معيار واحد هو "المصلحة"، "مصلحة الحزب" و"مصلحة الطبقة"، كما يصورها المروجون لهذه الأيديولوجية، أو "أحكام الدين" أو "خدمة مسار التطور والتقدم"، كما يروج آخرون. من هذا المنطلق يمكن الإجابة عن السؤال: "هل هذا الادعاء صحيح أم خطأ؟" بالإجابة غير القابلة لا للتأكيد verification ولا للتفنيد falsification، أن هذا الإدعاء خير أو شر. وهكذا أيضًا تصبح الإجابة عن سؤال: "هل هذا السلوك الأخلاقي سيئ أو جيد؟" بالعبارة غير القابلة للتصنيف أخلاقيًا، أن هذا السلوك صحيح أو خاطئ.

طبعاً هنالك من يريح نفسه من عبء الإجابة عن الأسئلة كلها بتوفير الحديث عن الخطأ والصواب والتأكد منهما، وبالإعراض عن الحكم بأنها خير أو شر وإستبدال ذلك كله بواحدة من إجابتين تصلحان لكافة أنواع الأسئلة: أن هذا الكلام "ماركسي" أو "ليس ماركسيًا"، يتوافق "مع تعاليم الإسلام" أو "ليس من الإسلام في شيء، وهيك الكلام، أو مش هيك الحكي"، أو "معنا" أو "ضدنا". والمصيبة أن من يردد أن موقفًا معيناً ليس ماركسيًا، لا يعرف عن الماركسية إلا إسمها تمامًا، كما لا يفقه زميله الذي يبدو على الجانب الآخر الكثير في الشريعة الإسلامية أو "الإسلام" ثقافة وتاريخًا وحتى عقيدة. وإضافة إلى أنه لا يجهد نفسه لا في فهم الماركسية، ولا الإسلام الذي يدعي التكلم بإسمه، فإنه أيضًا لا يجهد نفسه ولا يعييها بالتفكير في أن هذا الموقف أو ذاك صحيح أو غير صحيح خارج معايير التعصب لأمر ما مجهول. فهنالك أيديولوجية مغلقة تغني عن العلم والأخلاق على حد سواء، وتوفر على المرء الجهد الكامن في الخيار الأخلاقي الحر، أو الحكم العلمي غير الحر، الذي يفرضه المنطق الاستقرائي أو الاستنباطي لحكم يبنى على درجة عالية من الاحتمال.

إن جوهر الفكرة الأخلاقية في التنوير هو الحرية، حرية الاختيار المفترضة بين الخير والشر، الحرية القائمة في العقل العملي بين اتخاذ هذه الخطوة أو الامتناع عنها. لا وجود لحتمية أو ضرورة منطقية للكذب أو الامتناع عنه. هذا خيار أخلاقي حر قد تقود إليه حسابات عملية حلقاتها متماسكة. لكن حتى بعد إجراء حساب حول الوضع الشخصي المالي أو المصلحة الفردية في الوظيفة، أو مصلحة العائلة التي تنتمي إليها، يقف الفرد الحر في النهاية وحده بلا معين أمام الخيارات. وعليه أن يقرر أن يسرق أو أن لا يسرق مثلًا. عليه أن يقرر بين الصدق والمصلحة، بين المصلحة الفردية أو العامة كما يفهمهما في سياق حضاري معين. عليه أن يقرر، بل أن يحسم جازمًا، خياراته بين الواجب العام والأخلاق المهنية وبين التنافس على موارد الاستهلاك وآخر تقليعاته. وبين هذه القيمة أو تلك لا توجد حتميات أو ضرورات بل إنسان وحيد، فرد حر مسؤول عن أفعاله. وحدة هذا الفرد، السائر بلا رفيق أو معين، بافتراض حديث أنه إنسان مستقل، على حافة هاوية القرار الأخلاقي الحر، هي الحرية الأخلاقية التي تجسد أهم حريات الحداثة وأساسها جميعًا.

أما الحكم العلمي فهو، إذا تم بحدود المعلومات القائمة، يقيني، أو على درجة عالية من الاحتمال بحدود معارفنا، وتقود إليه عملية الاستنتاج بالضرورة. وحتى لو توصل حكم علمي استقرائي إلى "استنتاج على درجة عالية من الاحتمال" فإن هذا الاستنتاج لا يقود إلى ضرورة أو حتمية ما. لكن هذا لا ينفي أنه قد تم التوصل إليه بالضرورة وأن بالإمكان تفنيده كحكم عام أو كتعميم، حالما توفر المثال الذي يناقضه. والمقولة العلمية، كما يقول كارل بوبر، لا تمتحن بإمكانية إثباتها بل إمكانية دحضها وتفنيدها. إن بنيتها المنطقية تسمح بتفنيدها، بخلاف العقائد الإيمانية والأحكام الأخلاقية الحرة.

ليس بالإمكان تفنيد مقولة أن دسّ الأحجبة عند مزار السيدة أو الولي وقراءة التعاويذ هو وسيلة ناجعة للشفاء من مرض عضال. ففي حالة الشفاء لا يمكن إثبات أن هذا هو السبب، وفي حالة الوفاة يمكن دائمًا القول أن "ابن حلال" آخر قد دس حجابًا مضادًا وقرأ تعويذة أخرى أقوى فعلاً. لكن بالإمكان إثبات خطأ مقولة أن بالإمكان الوصول إلى هذا المزار سيرًا على الأقدام أو بالسيارة خلال مدة معينة، وأنك إذا قدت السيارة إلى هناك بسرعة كذا، فسوف تصل خلال هذه المدة، أو أنك إذا قدتها بسرعة أخرى فسوف تصلها خلال فترة أخرى، إلى أن تثبت لك حركة السير واختلاط المشاة بالسيارات أن هذه كلها نظريات لا تصمد أمام الفوضى، أو أما "طوشة" عمومية وقعت للتو وعطلت حركة السير، أو أمام موكب رسمي أعاق التحقق من أي شيء. لا يمكن عمليًا فحص مقولة مشعوذ شاب خطيب بأن النبي (صلعم) قد تفاهم مع الله حول عدد الركعات التي تصلى في عملية أخذ ورد كما يرويها باللغة العامية لتقريبها إلى أذهان السامعات وليبين لهم حرص الرسول الكريم على تسهيل الدين وشؤون العبادة. لكن بالإمكان فحص صحة أو خطأ مقولة أن غالبية الحضور من نساء الطبقة الوسطى المصابات بالضجر أو الملل من المجتمع الاستهلاكي الباحثات عن طريقة لملء أوقات الفراغ باستهلاك بديل وعليه أجر في الآخرة في الوقت ذاته.

وإذا كانت المعطيات لا تكفي لحسم حكم علمي ضروري، فإن الحكم لا يكون علميًا أو يبقى في مجال الافتراض العلمي أو التكهن. والتكهن العلمي المبني على تشخيص، حتى لو كان غير يقيني، ليس خيارًا حرًا مطلقًا بين خيارات قيمية أو بين خيارات ذات طابع قيمي بفعل تفضيل أحدها على الآخر بحرية. يحتاج الفكر العلمي إلى تماسك منطقي ومنهجية في البحث وفي عرض النتائج تجعل الحكم يبدو ضروريًا حتميًا. وهو يصل، بشكل ضروري، إلى نتائج على درجة عالية من الاحتمال. أما الحكم الأخلاقي فيحتاج إلى شخصية فردية تعي حرية خياراتها. وكلما ازدادت درجة الحرية الاجتماعية صعب على الفرد التهرب من الحكم الأخلاقي لأنه يصبح أكثر سهولة (عدا حالات استثنائية تضيق فيها الحرية الخارجية الحرية الداخلية بدل العكس). وكلما ازداد وعي حرية الاختيار ونقصت الحرية الاجتماعية ازداد طابعه الأخلاقي وضوحًا ومعاناة، وأصبح الخيار أكثر صعوبة. وتسهّل حالة القسر الاجتماعي على الفرد الهروب من الحسم الأخلاقي لانعدام الحرية الاجتماعية. وهنالك علاقة مباشرة بين العدمية الأخلاقية وبين انعدام الحرية الاجتماعية.

ليست عملية الافتراض والبحث العلمي عديمة التأثر بالأوضاع الاجتماعية. وهنالك نظريات تفسر الكثير من الاكتشافات والفرضيات العلمية بالخلفيات الاجتماعية وتفاعلها مع تاريخ الأفكار. لكن حال ولوج عملية البحث العلمي فإن الاستنتاج يصبح ضروريًا، وليس مسألة رأي، إلا في الطريق إلى تكوين الفرضية أو في تفسير الاستنتاج بعد التوصل إليه. وحتى في هذه المراحل لا يكون الرأي اعتباطيًا. وتضبط الاستنتاج ضوابط منهجية، التقيد بالمعطيات، تجنب الانتقائية في اختيارها لتلائم الفرضيات، والانتقال من مقولة إلى أخرى بعد إثبات المقولة الأولى، والتحقق منها بحيث يكون الانتقال واجبًا ومتماسكًا.

كذلك ليس الحسم الأخلاقي معزولًا عن الظروف الاجتماعية والتربية والسيرة الفردية. ونحن عندما نتكلم عن الحرية في الحسم بالحكم الأخلاقي فإننا نتكلم عن طبيعة الأخلاق لا عن طبيعة الفرد. صحيح أن الفرد، أي فرد، يواجه الخيارات الأخلاقية بغض النظر عن الدواعي والأسباب التي أدت إلى ذلك. لكننا لم نأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والبيئية وظروف التنشئة الفردية التي سوف تساهم في ترجيح هذا الخيار على ذلك. إن الأخلاق المستندة إلى الحرية تفترض أنه في لحظة القرار الأخير، ما قبل الخطوة العملية، يكون القرار حرًا بين أن تفعل أو لا تفعل، لأنه كان بالإمكان، ولو كاحتمال ضعيف، اتخاذ قرار آخر. وكلما ضعف الاحتمال ازداد التحدي الأخلاقي صعوبة، وهذه الصعوبة لا تغير من التعامل الاجتماعي مع الحكم كحكم حر. فالحرية مسؤولية.

إن الموقف الأيديولوجي، الذي ينفي تعامل التفكير العلمي مع استنتاجاته بشكل متماسك وبتعميمات واضحة وقاطعة تسمح بنيتها المنطقية بنفيها بالدليل المناقض للتعميم إذا كان خاطئًا، هذا الموقف عائق أمام تطور الفكر العلمي. ونمط التفكير الأيديولوجي الذي ينكر حرية الحسم والقرار الأخلاقي هو نفسه الذي يمنع تطور شخصية أخلاقية وفرد حر، هو عماد المجتمع العصري، وعماد النهضة في المجتمع.

ينتقل الفرد المذرّر في المجتمع الجماهيري، والمسلوب، في وقت واحد، من حميمية العلاقات العشائرية، ومن فردية المواطن ذي الحقوق الديموقراطية، ينتقل بسهولة من التعلق بأيديولوجية شمولية موهومة إلى التعلق بأخرى تحمل نفس المبنى المغلق، الذي لا يترك مجالًا للتمييز بين العلم والأخلاق، وتفرض على التاريخ والأحداث التاريخية منطقًا من خارجها يفسرها بحيث تقود إلى غاية: خلاص، انتصار، عقاب إلهي، ضرورات أو حتميات تقود نحو التحرر.

وتكتسب الأحداث التاريخية معنى من هذه الغاية، أو من هذا القصد المفروض. ويصبح هذا المزاج في التعامل مع الواقع الإجتماعي ومع الأحداث شموليًا عصبويًا مغلقًا عندما ينفي أهمية أي تفصيل لا يندرج ضمن هذه الغاية، حتى لو كان هذا "التفصيل" هو حياة الأفراد ذاتهم. ثم ينحط هذا التوجه إلى اليأس والإحباط عندما ينهار عالمه لدى أول تجربة عملية فينقلب باحثًا عن توجهات شمولية أخرى، أو يسقط في مهاوي اليأس، أو يبدأ بـ "البحث عن الخطأ". هنا يبحث الراديكالي المزاج عن خطأ واحد يفسر كل شيء حول انهيار عالمة السابق بنفس العقلية الشمولية. وغالبًا ما يجد الباحث ضالته في جمل صماء مثل: "النظرية ممتازة ولكن الخطأ كان في التطبيق". تسمح هذه الجمل بالتهرب من مواجهة العقلية الشمولية والاستمرار في ممارسة التعصب للـ "نظرية" هذه المرة، مع عدم ملاحظة التناقض الجوهري بين "نظرية" و"تعصب". وبالتدريج يتلاشى الاهتمام بالنظرية أيضًا، ولا يبقى إلا التعصب المجرد الذي يغذي ذاته بذاته، ويدور حول ذاته، ويبني ادعاءاته من داخل ذاته قصورًا من خيوط العنكبوت، التعصب من أجل التعصب، على وزن "الفن من أجل الفن" (مع المعذرة، فقد وضعت العبارة الأخيرة ضد التعصب، وضد إلزام الفن برسالة أيديولوجية)

ثم يستبدل التعصب لموقف بالتعصب لجماعة المتعصبين للموقف. وهكذا نعود أدراجنا إلى القبيلة والعشيرة والطائفة التي لا يحتاج التعصب لها لأكثر من الجهل. وكل معرفة إضافية إلى هذا الجهل تعتبر مؤهلات تصلح لتمثيل القبيلة تجاه الخارج. وغالبًا ما يتباهى أعضاء القبيلة بالعلامة النابغة الذي يمت إليهم بصلة القرابة والذي تجاوز في معارفه مجرد الجهل اللازم للتعصب لهم.

التعليقات