حول تجيير الفشل الأميركي لمصلحة أميركا..

حول تجيير الفشل الأميركي لمصلحة أميركا..
بعد ثبوت احتمال أن تفشل مشاريع الولايات المتحدة في مواجهة مقاومة وطنية «سنية» في العراق، ومقاومة وطنية «شيعية» في لبنان، وذلك بالضبط لأنها ليست حروباً ضد دول، ولأنها غير متكافئة، تعرّض العالم العربي المشدوه من قوة المقاومة أمام القصف الشامل، المأخوذ بنجاعتها رغم ضعفها النسبي أمام عُتُوّ الاحتلال وجبروته، لجهد علاجي تبذله الدول لتبديد الوهم. ويتم ذلك بتجيير تحوّل اختلاف مذهبي بين الشيعة والسنة في العراق إلى خلاف طوائف، ثم تأميم نزاع الطوائف بحيث تمثّله دول على مستوى إقليمي. هكذا تصبح المقاومة وأعداء المقاومة من طائفة معينة في طرف واحد، وتطمس الحدود بين من قاوم ومن لم يقاوم ومن تواطأ ضد المقاومة في العراق مثلاً.

لقد ثبت إذاً أن لعبة الدول تستمر في الوقت عينه، وبشكل متواز... وهي تحاول تغيير قواعد اللعبة بحيث تطمس الفرق بين المحاور الحقيقية في المنطقة. وهي في حقيقتها ودوافعها وأهدافها ليست محاور طائفية. ولكنها كما قلنا آلية الدول في استغلال تخلّف المجتمعات وتجييرها لمصلحة تكييف الدول لذاتها مع الأوضاع الجديدة التي نشأت بعد فشل إعادة هندسة الشرق الأوسط أميركياً. وما إن فشلت إعادة التصميم وتحولت الى فوضى حتى حُوِّلت الفوضى الى إيديولوجية، وما إن فشلت الأخيرة حتى عادت إعادة هندسة المنطقة على شكل سياسة محاور.

ولكن في حالة الصراع العربي الإسرائيلي والحالة الفلسطينية يصعب طمس الحدود. فما العلاقة بين «سنية» المقاومة في العراق والمحور الذي يحاول حالياً تحويل المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل الى «موقف عربي سنّي معتدل». وما علاقة «شيعية» المقاومة اللبنانية ومحاولة «تسويق» هذا الموقف العربي الجديد عبر تعديله وتبنّيه دولياً، أو عبر جعله «أساساً» للتفاوض، أي تعديله في المفاوضات، أو عبر بدء التطبيع مع إسرائيل من دول غير الأردن ومصر (وغير السعودية) قبل بدء «مفاوضات ذات معنى» للحل الدائم، وفقط «لطمأنة» إسرائيل إلى مستقبل وضعها في المنطقة على حد تعبير رايس.

لا طوائف ولا هم يحزنون، بل يحزن الفلسطينيون. والواقع أن الدول التي استفادت من فشل سياسة عدم الاستقرار، ومن دموية سياسة نهاية الاستقرار كقيمة، ومن تعثّر وجهنّمية سياسة الفوضى البنّاءة، تحاول الآن أن تخيّر الولايات المتحدة بين قبولها كما هي، بما فيها خططها الداخلية المناقضة لشروط الولايات المتحدة سابقاً، ومواجهة حالة انحلال الدولة. والأخيرة تطلق العنان لقوى لا سيطرة عليها في الاتجاهين مقاومةً وتخلّفاً، مجتمعات وقبائل، شعوباً وطوائف.

ولا حاجة إلى تفعيل كل ذكاء متوسطي الذكاء للاستنتاج أن الولايات المتحدة اختارت الأنظمة الحليفة القديمة التي يعتمد عليها في القمع داخلياً من دون التشديد على مسألة حقوق الإنسان والإصلاحات الديموقراطية. فبين الديموقراطية وحقوق الإنسان من جهة، ومصالحها من جهة أخرى، اختارت الولايات المتحدة الواقعية طبعاً. وعلى كل حال من في بيته غوانتانامو لا يرمي الناس بالحجارة، تسمعها ولا تدري إذا كان من يقولها فرحاً ومرحّباً بوجود غوانتانامو كشاهد براءة يلوّح به أو غاضباً ناقماً عليه.

في مقابل التسامح الأميركي مع أجندتها الداخلية المتعلقة بإطلاق يد الحكم في ليبرالية اقتصادية متوحشة من جهة، وعداء متوحش لليبرالية السياسية وحقوق المواطن وحرياته من جهة أخرى، تحاول الدول التي أصبحت مَرْضياً عنها، لا فقط عن سياستها، أن تمدّ يد العون للولايات المتحدة في مأزقها، وذلك، أولاً، على حلبة تعيين المحاور وتسميتها محاور طائفية تمنع أو تعرقل تحالف حركات مقاومة من طوائف مختلفة، ويفترض أن تسمح لها بممارسة التأثير ضمن الطائفة نفسها على حركات مقاومة تصبح بقدرة قادر متأثرة بالقاسم المشترك الطائفي المفترض بينها وبين أنظمة معادية للمقاومة. وثانياً، وبشكل خاص، على حلبة القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي. وهنا توجد في الواقع مصلحة مشتركة لا مجرد خدمة في اتجاه واحد. فتشخيص العديد من الدول العربية «الاعتدالية» أنه ينبغي إيجاد «حلّ ما» أو «تسوية ما» للقضية الفلسطينية هو حقيقي وليس مجرد تملّق للشعوب والرأي العام العربي.

وطبعاً تدرك إسرائيل ذلك وتماطل وتبتزّها لهذا السبب تحديداً، كما يحصل حالياً بينها وبين أولمرت الذي شمّ رائحة رغبة عربية في التقدم أو التراجع، يتوقف على زاوية النظر، فبدأ يماطل ويضغط من أجل المزيد. تعتقد الدول العربية المعتدلة فعلاً أن القضية الفلسطينية والموقف الأميركي منها هما من عوامل «عدم الاستقرار» باللغة القديمة، ومن عوامل تأجيج العداء لأميركا وحلفائها، ومن عناصر رواج بضاعة العداء للولايات المتحدة عربياً.

هذا الجرح المفتوح، وليس غياب الديموقراطية العربية، هو بنظر الدول العربية أهم عناصر «عدم الاستقرار» والعداء لأميركا. وخلافاً لرأي إدارة بوش بعد 11 أيلول، ليس الاستبداد هو الذي يفقس إرهاباً في رأيها، بل الجرح الفلسطيني الملتهب في الوعي العربي. وهي مستعدة لتبنّي «حل للقضية» بالمفهوم الدولي للتسوية بعيداً جداً من منطق حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي فقست تياراً شريكاً لها حوّل الدولة الى هدف قائم بذاته. والحديث هو عن ضرورة إقناع إسرائيل بتبنّي تسوية على أساس القرارات الدولية. وهي تحاول إقناع أميركا بل مناشدتها وتوسّلها أن تفهم هذا وأن تضغط، بمعنى أن تتوسط لها عند إسرائيل لتليين قلبها وعقلها لتفهم ان ذلك أيضاً في مصلحتها.

واختلط الأمر على الولايات المتحدة بين الاقتناع بهذا الموقف فعلاً وبين تبنّيه كنوع من علاقات عامة على الساحة العربية، وذلك ليس ارتباكاً بقدر ما هو انعكاس لتغيّر الأجندات بين إدارة وأخرى وفي رحلة حكم الإدارة نفسها.

وغالباً، وفي حالة رفض إسرائيل الخطط والمقترحات الأميركية للتفاوض، ترافق المقترحات والمبادرات السياسات الأميركية في المنطقة العربية كنوع من العلاقات العامة لأجندات أكثر أهمية، وذلك من نوع الحكم الذاتي كحل للقضية الفلسطينية، أي كعلاقات عامة للسلام الاسرائيلي المصري يرافق الأجندة الأهم في حينه، وهي انتقال مصر الى التحالف مع أميركا وتوقيع المعاهدة الإسرائيلية المصرية، وبرنامج ريغان وعلاقته بحرب عام 82 على لبنان، وأخيراً خريطة الطريق للتغطية على الحرب على العراق، ثم التحرك الأخير المتعلق بتشجيع العرب على تعديل المبادرة والتطبيع مقابل منح المبادرة وضعاً دولياً، أي أميركياً كنوع من العلاقات العامة ترافق وتموّه الفشل الذي دوّى أخيراً في آذان بان كي مون في العراق.

وظيفة الدول العربية المتساوقة مع هذا المخطط هي إذاً منح الولايات المتحدة إنجازاً سياسياً في المنطقة بعد فشلٍ إجرامي في العراق وفي لبنان لم يُحاسب عليه أحد بعد، أو على الأقل قناةً سياسيةً لتصريف المياة الآسنة للسياسة الأميركية في لبنان والعراق.

إزاء هذه الصورة، يبدو تفجّر مياه الصرف الآسنة على السطح في غزة المنكوبة كأنها قطاع من الأرض يطفو على بركة مياه صرف، رمزياً جداً لتصوير الحالة.
من زاوية النظر هذه تبدو حالة رايس بائسة بشكل خاص. لقد جمعت العرب وابتزّت منهم تغييراً في اللهجة في ما يتعلق بمبادرة السلام العربية، وهذا إذا لم يقابل بمبادرات «حسن نوايا» إسرائيلية قد يتحول من خدمة علاقات عامة لتحسين سمعة أميركا إلى خدمة سيئة وتخريب سمعة للدول العربية. وتتلخّص العلاقات العامة وتحسين صورة أميركا وحلفائها بأن يتلو ذلك «تنازل» إسرائيل للتعاطي مع مبادرة السلام العربية ومع مفاوضات الحل الدائم فلسطينياً. ولكن رايس عادت من زيارتها الى القدس بخُفّيْ حُنين. فقد بارك أولمرت إبان الزيارة دعوته إلى وليمة التطبيع: الرباعية العربية والرباعية الدولية وفلسطين وإسرائيل. ولِمَ لا يبارك وقضية فلسطين في هذه الحالة باتت واسطة تطبيع مع العرب بدل أن تكون عائق تطبيع علاقات مع العرب. ومما يحبس الأنفاس أن أولمرت وافق بعد زيارتها على الاجتماع، ولكن بمن؟ بالرئيس الفلسطيني. حتى هذا أصبح تنازلاً ودليل حسن نية... وحتى صحيفة الأخبار اللبنانية باتت تقع في فخ هذه اللغة عند تغطيتها أخبار الرباعية والسلام ومبادرة السلام.

أولمرت أخرج الهواء موقتاً من بالون رايس. ولكنه سوف يرى في دولة فلسطينية ذات حدود موقتة عودةً محمودةً إلى ما اقترحه شارون وفشل وتحوّل الى فك ارتباط فاشل بدوره. وسوف يقبل بالحل الانتقالي المتمثّل في «دولة» بحدود موقتة تُرفع منزلتها الى دولة في الأمم المتحدة (إذا كان المقابل هو اعتبار ذلك تفسيراً دولياً وتسويقاً لمبادرة السلام العربية)، وبحيث يبقى كل شيء بعد ذلك مسألة علاقات ثنائية بين كيانين، فلسطين وإسرائيل. وما تبقّى، مقابل صنمية الدولة (فتيشية الدولة)، من تفاصيل صغيرة مثل القدس واللاجئين والحدود الدائمة لا يُفترض أن تُوقّع هذه «الدولة» تنازلاً عنها إلا مقابل حدود دائمة. ولكن تأجيل حلّها الى الأبد لا يفسد للودّ قضية. فهي في أقصى الحالات تعبيرات عن صراع حدود بين كيانين لا يفترض أن يتدخل فيه العرب الذين يقيمون في هذه الأثناء علاقات سلام وتطبيع تدريجية مع إسرائيل. ومرة أخرى سيقول العرب إنهم لا يستطيعون أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، وذلك بعدما دفعوا بفلسطينيين من النوع الذي يرغب في أن يُدفع به الى القبول بهذه التسوية.

هكذا تبدو هذه الدينامكية: العرب يقولون إنهم لا يستطيعون أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. والدول الإسلامية التي اجتمعت في باكستان كان يفترض أن تقول إنه ليس في وسعها أن تكون عربية أكثر من العرب.

وأخيراً حاولت الدول العربية «الاعتدالية» ان تشكل نواة محور اعتدالي إسلامي أيضاً. ومن غرائب الدنيا أن تركيا أحبطت ذلك المسعى بسبب مصالح جيو ــ استراتيجية متعلقة بعدم تعريض علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع إيران وسوريا للخطر مقابل مجهول... وليس لديها ما تكسبه مع أميركا ولا تحتاج الى وساطة للتطبيع مع إسرائيل. ولكن النوايا اتضحت على الأقل.

ومن الغرائب أن المُعطّل حالياً هو تردّد أولمرت، فمن دلائل رداءة الوضع العربي أن لا تثنيه تحوّلات كبرى عن الابتزاز حتى في تفاصيل مثل تحرير الجندي شاليط. إنها بالنسبة إلى الفلسطينيين مسألة تبادل أسرى، ولكن بالنسبة إلى أولمرت إطلاق سراحه يعني ضرورة أن يحقق إنجازاً سياسياً شعبياً بعد فشله المكلف في إطلاق سراح الأسرى المخطوفين في لبنان وغزة. مرة مصالح تركيا في المنطقة ومرة أخرى مصالح سياسية انتخابية لأولمرت، فأين العائق والمعوق العربي الفعلي لتجيير الفشل الأميركي لمصلحة أميركا؟

التعليقات