حين لعب الجنّ بالماء: عن تجربة جمانة عبّود في تمثيل التراث

لقطة من الفيديو التركيبيّ "يا حوت، لا توكل قمرنا" لجمانة عبّود

حمزة أبو عيّاش

حينما دعيت للكتابة عن معرض الفنّانة جمانة إميل عبّود، 'يا حوت، لا توكل قمرنا'، المقام في مركز خليل السكاكينيّ برام الله في إطار محفل 'قلنديا الدوليّ' 2016، أصابني شغف إلى معرفة ما يحرّكها نحو أعمالها، ما يطلق الشرارة ليوجّه عينها وخيالها فتصوّر مكامن الما وراء، ما يربط الأسطورة بالمكان وكيف جسّدته محسوسًا لنتناوله ضمن ما نتعاطاه حاليًّا من وسائط حديثة؛ تراها تقفز بين الواقع والخيال كما لو أنّهما أرض واحدة.

خبّئ ماءك عن الشمس

لن تحتاج إلى استنهاض حواسّك لمتابعة إنتاج جمانة البصريّ، فهي ستجذبك متلقّيًا يشعر بحضور خفيّ للغولة والعفاريت؛ ففي الفيديو التركيبيّ الجديد 'خبّئ ماءك عن الشمس' (2015)، تمنح جمانة مساحات واسعة لصوت الطبيعة والبيئة، فتأخذ مكانها في وعيك؛ صمت للصورة وصمت لها… وهي الراوية.

حين تداخلت أسماء القرى، لم أستطع التمييز، لوهلة، بين الأماكن، راودتني فكرة أنّنا لم نعد نميّز بين القرى، بعضها طُمِسَ وبعضها ضاع، وبعضها نسيناه من صعوبة الوصول إليه، هنا صفعتُ نفسي لأميّز الأسماء بين الأصوات، والتي غدت تعاويذ.

الغابة الميتة | لقطة من 'خبّئ ماءك عن الشمس'

جعلت جمانة المساحات الخضراء تحاكي موج الماء، لتقصّ علينا مواطن دم الأرض ونبض قلوبها، من عيون وينابيع، بالإضافة إلى من يحرسونها، حيث نجدهم إمّا أولياء وصالحين يحضنوننا لنروي عطشنا وأرواحنا، أو أعداء من مردة وعفاريت يمنعوننا عنها ويحمون سرّ قوّتها، كما تقول في مراسلات بينها وبين قيّمة المعرض، لارا الخالدي:

'في أعمالي الفنّيّة أريد أن أظهر ما تتضمّنه الحكايات الشعبيّة من قوّة وحيويّة، وكيف أنّها ما زالت تعيش حولنا، ومن جهة أخرى، أريد أن أقارب بين المستوطنين والعفاريت التي في الحكايات، فهذا هو الغول، غول الاحتلال الذي يتحكّم بحركتنا أو بكيفيّة حبّنا وصلاتنا. الاحتلال يرتكب أكثر من سرقة مائنا وذاكرتنا وحكاياتنا، فالحكايات والذاكرة هي منبع الحياة... أهل فلسطين – الذين كتب عنهم توفيق كنعان في العشرينات - أصبحوا الآن أسطورة، أخلاقيّاتنا كانت مختلفة، كنّا أطيب وأكثر دفئًا. لا أريد أن أردّد خطاب الضحيّة هنا، لكن لا يمكننا أن ننكر أنّ القامع يغيّر المقموع، التاريخ مليء بهذه النماذج... أترين؟ أنا الآن أعترف أنّ مشروعي ليس فقط إعادة صياغة للحكايات.'

ثمّة تباين كبير بين مشهد غابة الصنوبر والنصّ المرويّ المعرّف بالغابة الميّتة وروحها المتمثّل ذكرًا، ذي العينين الحمراوين المتقدتين نارًا، وذلك حين سأل الروح الراوية إن كانت لا تزال تذكر… هنا تختال ظلال الصنوبر معتمة لتعطي انطباعًا بموت الغابة الحافظة للأسطورة في جذورها وتعاويذها والأغنيات، حافظة لكلّ ما مرّ على هذه الأرض.

عين الماء | لقطة من 'خبّئ ماءك عن الشمس'

نرى الصورة البعيدة تسيطر على العمل لتشمل تفاصيل أكثر للمكان، ولتشعرك بألفة معه من خلال تعزيزه في المشهد؛ محيط أخضر يبعث الطمأنينة ودفء البيت وحكايا الجدّات، تلك المغر العتيقة في الأفق على سفح بعيد، التي لا مالك لها إلّا أرواح ساكنيها القدماء. كلّ تائه يراوده الشعور بالحاجة إلى استملاك تلك المغر، لكنّ الأسطورة تمنعه كلّ مرّة، محافظة على هدوئها وخصوصيّتها، وكأنّها مملكة خارج هذا العالم.

كالأرواح الهائمة التي ما زالت تسكن الأرض، كان النبع سيّالًا، تلمع الشمس على صفحته وكأنّها ترسل رسائل مشفّرة خارجة عن أمر الفنّانة لتخترق أعين المشاهد بتعاويذها التي سترسلها حتمًا لحرّاس الماء.

يأتي عنوان العمل 'خبّئ ماءك عن الشمس،' من كون الحكايات تقول إنّ الماء الأكثر فاعليّة في الشفاء هو الماء الذي يأتي من العيون والآبار التي لم تدخلها الشمس أبدًا. ينام الجنّ الآن منسيًّا وصامتًا وكامنًا، كالماء الذي يختبئ من الشمس، متربّصًا بلحظة سحريّة تخرجه من مكانه.

يا حوت، لا توكل قمرنا

'يا حوت، لا توكل قمرنا' (2011) [اضغط/ ي للمشاهدة]، اسم العمل الذي جُسِّدَ مسرحًا، ووثّقته جمانة ليُعْرَضَ كفيديو، فيكون الشاهد ما بعد الحداثيّ على رواية القصّة الفولكلوريّة، مبيّنًا عناصرها من وطن و عروس وأمّ وغولة. القمر الذي لم نره، والذي كان سائدًا عند بعض الناس قديمًا أنّ حوتًا يبتلعه، مسبّبًا خسوفه الذي رأيناها عندما بدأ المؤدّون نثر الرمال على الخشبة، معلنين غياب القمر عن المكان.

لقطة من 'يا حوت لا توكل قمرنا'

نمشي ونمشي مع كلّ ما لم نفهم من رسائل مكتوبة على جانبي شاشة العرض، محاولين أن نسقط ما نراه يحدث على الخشبة عبثًا، فلا نجد إلّا التيه.

اختلطت الشخوص في المحيط وتاهت الوجوه، دارت في المركز كرقصة شعائريّة لتعيد ما ابتلع الحوت، لنخرج بعدها من الضياع إلى ذلك الصوت الرقيق: 'يمّا يا يمّا حبيبي وينه لو حطّوا البحر بيني وبينه،' مذكّرًا إيّانا بما حصل وما سيحصل، ملقًى منفردًا بعيدًا قريبًا من الإيقاع الذي تصدره إحدى المؤدّيات. هنا يجد المتلقّي نفسه غارقًا في بحر من المشاعر يصعب وصفها، جاعلًا التجربة تُظْهِرُ جدواها العاطفيّ، الذي بالضرورة سوف يترك المتلقّي للسؤال والتفكّر، وكلّ يغنّي على ليلاه.

يبقى العمل سيّد الموقف، إلى أن يبدأ المحيط والخشبة والمؤدّون بالانسحاب نحو الأسود، معلنين النهاية، ولا يلبثون حتّى يعودوا ليضيئوا، فترى أبطال الحكاية في تحيّتهم الأخيرة للمشاهد، يعيدون له شعوره المسرحيّ.

يذكر أنّ جمانة إميل عبّود من مواليد شفاعمرو، الجليل، عام 1971. تنفّذ أعمالها الفنّيّة باستخدام الرسم، والتركيب، والفيديو، والأداء، مستكشفة الذاكرة الشخصيّة والجمعيّة، والفقدان، والحنين، والانتماء. جمانة متأثّرة بالمشهد الثقافيّ لبلدها، وهي تبني أعمالها على التقاليد الفولكلوريّة الفلسطينيّة، وصناعة الأسطورة، وتبحث التاريخ الشفهيّ نحو ذلك.

*****

جمانة إميل عبّود

عن معرض 'يا حوت، لا توكل قمرنا' من كتيّب برنامج 'قلنديا الدوليّ' 2016.

معرض فرديّ للفنّانة جمانة إميل عبّود، يحتوي على مجموعة أعمال سابقةٍ وجديدة تتناول القصص الفولكلوريّة الفلسطينيّة، والمخلوقات الخياليّة، والمواقع المسحورة بشكل مفاهيميّ وجماليّ.

يُعَدّ عملها الجديد 'خبّئ ماءَكَ من الشمس' (عمل فيديو تركيبي)، جزءًا من بحث مستمرّ بالتعاون مع عيسى فريج، ينطلق من مقالة بحثيّة للإثنوغرافيّ الفلسطينيّ توفيق كنعان، كتبها في عشرينات القرن الماضي، عن آبار المياه المسكونة في فلسطين. ومجموعة الرسومات المنجزة عام 2005 مستوحاة من قصص الفولكلور الفلسطينيّة ومخلوقاتها. أعمال عبّود مهمّة من حيث إنّها تُظْهِرُ، وتبني على، وتدعو إلى عودة الأشباح والمخلوقات المتخيّلة والقصص السحريّة والجغرافيا المسكونة إلى الحياة المعاصرة والواقع النيوليبراليّ. شكّلت عبّود لغة جماليّة جديدة ومغايرة استطاعت من خلالها أن توقظ هذه القصص الكامنة.

قيّمة المعرض: لارا خالدي.

الفنّانة: جمانة إميل عبّود.

موقع المعرض: مركز خليل السكاكينيّ الثقافيّ، 4 شارع الرجاء، من السبت إلى الأربعاء، مفتوح خلال الساعات 09:00 – 21:00، ويوم الخميس خلال الساعات 09:00 – 16:00. يستمرّ لغاية 31 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2016.