إيتيل عدنان... فضاءات بديلة

إيتيل عدنان، مربّع أحمر على خامّ أبيض ، 1975 ، سجّادة من الصوف منسوجة يديويًّا ، 60 × 28 سم | Tapestry, Art Gallery

 

يبدو الطريق إلى عالم إيتيل عدنان معبّدًا للوهلة الأولى؛ يمكنك الدخول إليه شعرًا ونثرًا بلغات مختلفة، الاستماع إليه مُفَصَّلًا عبر مقابلاتها، أو التفرّج عليه مُجَرَّدًا في أعمالها الفنّيّة. لكن، حذارِ؛ فإنّ أيّ محاولة لتصنيفها أو تقييدها بهويّة واحدة، ستنزلق بك عميقًا نحو أراضٍ عجائبيّة؛ بيوتها شبابيك وأبواب بلا جدران، تضاريسها متداخلة بأشكال وألوان، وبلدانها بلا حدود أو أسلاك شائكة.

بوحي من جذورها الشاميّة - اليونانيّة في حوض المتوسّط، طفولتها في مدينتها الأولى بيروت، وتجارب الدراسة والعمل في أوروبّا والولايات المتّحدة، ومن شغفها في عبور الحدود، وولعها باكتشاف معانٍ جديدة للكلمات القديمة، والمزاوجة بين الألوان احتفاءً بالطبيعة، استلهمت إيتيل عدنان مهنتها الأثيرة في خلق فضاءات بديلة، وظلّت تزاولها طوال حياتها. 

 

إيتيل عدنان، بدون عنوان، 2019. زيت على قماش | الصورة بيتر كلوف
المصدر: Kahlil Robert Irving, Colter Jacobsen - Exhibitions - Callicoon Fine Arts
 

 

اللغة: فضاء الذات والآخر

اتّسع فضاء عدنان منذ طفولتها لانغماسها في لغات عدّة؛ فكبرت على مسمع اللغة التركيّة بين والديها، تعلّمت اللغة اليونانيّة من والدتها، وتلقّت تعليمها المدرسيّ باللغة الفرنسيّة في بيروت. تشرح عدنان علاقتها المتذبذبة بالفرنسيّة، وكيف سلبتها فرصة تعلّم العربيّة، قائلة: ارتبطت اللغة العربيّة في أذهاننا بالعار والتخلّف، وأدركتُ بعد أعوام أنّها سياسة سائدة في الدول الّتي استعمرتها فرنسا؛ المغرب، والجزائر، وتونس، وأفريقيا السوداء، وأندونيسيا… كانت الراهبات في «مدرسة الدير» يكلّفن بعض الطلّاب بالتجسّس على مَنْ يتكلّم بالعربيّة؛ لأنّ الكلام بالعربيّة خطيئة تستوجب العقاب[1].

تدارك والد إيتيل عدنان، الّذي كان ضابطًا سوريًّا في الجيش العثمانيّ، أجواء الخوف والكراهية الّتي بثّتها المدرسة في إيتيل، فحاول أن يعلّمها الأبجديّة وقواعد اللغة العربيّة، ولكن بأسلوب تلقينيّ. كانت إيتيل تجلس لساعات طويلة وهي تنسخ الحروف العربيّة، وتعيد كتابتها مرارًا دون أن تفهم شيئًا، فظلّت اللغة العربيّة غريبة ومألوفة بالنسبة إليها كما تقول، وكأنّها الذات والآخر في آن.

اتّخذ العبور بين اللغات بُعْدًا جغرافيًّا عند إيتيل عقب انتهائها من المرحلة المدرسيّة، والانتقال إلى فرنسا لدراسة الفلسفة في «جامعة السوربون»، ثمّ العمل في تدريس «فلسفة الفنّ» في مدينة كاليفورنيا. ومحاكاةً لهويّتها العابرة للحدود، كتبت إيتيل نصوصًا عابرة للأجناس الأدبيّة، في ما ارتبطت الكتابة بلغة أجنبيّة بتجاربها مع المكان من ناحية، ومواقفها السياسيّة من ناحية أخرى.

بدأت علاقة إيتيل باللغة الفرنسيّة تأخذ منحًى مغايرًا خلال الثورة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ، فقد كانت تُدَرِّس «فلسفة الفنّ» في كلّيّة صغيرة في مقاطعة مارين، بالقرب من مدينة كاليفورنيا في تلك الأثناء، وشعرت بأنّها متورّطة في الحرب والاستعمار، بطريقة غير مباشرة. تقول إيتيل: كنت أعتبر نفسي ناطقة بالفرنسيّة آنذاك، حتّى لو كنت أدرّس بالإنجليزيّة، لكنّني واجهت معضلة سياسيّة عندما بدأت أفكّر في العودة الجادّة إلى الشعر والكتابة. كان ذلك أثناء «حرب الاستقلال» الجزائريّة، كنت أقرأ الأخبار في جرائد الصباح عن مقتل الجزائريّين والفظائع المرتكبة بحقّهم، وأدركت فجأة أنّني متورّطة في هذه الحرب عاطفيًّا، فأنا واقفة إلى جانب الفرنسيّين بلا وعي منّي؛ وكرهت حينذاك التعبير عن نفسي باستخدام الفرنسيّة[2].

 

إيتيل عدنان، ليبوريلو 31: حرّيّة الناس، 2011

 

غادرت إيتيل فضاء اللغة الفرنسيّة إفصاحًا عن رفضها للاستعمار الفرنسيّ، وفضحًا لمكر الاستعمار الثقافيّ الّذي يقسّم الشعوب المستعمَرة، ويوظّفها كأداة استعماريّة ضدّ نفسها، لكنّها وقعت جرّاء ذلك في أزمة وجوديّة من نوع آخر؛ وهي العثور على لغة جديدة للتعبير عن ذاتها.

لم يمضِ وقت طويل على صمت إيتيل، إذ سرعان ما عثرت على لغة بديلة عبر اكتشافها للفضاء الفنّيّ، وبدأت تتصالح مع ما تحبّ من العالم العربيّ من خلاله. وإن كان الفنّ لغة جماليّة وانتقائيّة، فقد كشف عن شرخ عميق في علاقة إيتيل باللغة والثقافة العربيّة، ومحاولة الاستعمار الفرنسيّ لإفسادها منذ وقت طويل: ذهبت إلى «كلّيّة الفنون» في وقت الفراغ، وبدأت أرسم، أدركت أنّ الرسم لغة جديدة، ووجدت من خلاله حلًّا لمشكلتي: لم أعد في حاجة إلى الكتابة بالفرنسيّة، سأرسم بالعربيّة.

ولأنّ ممارسة الفضاء اليوميّ تعني تكرار تجارب الطفولة الصامتة والمبهجة، كما يقول ميشال دو سارتو[3]، لأنّها أولى مراحل اكتشاف الذات لذاتها، ثمّ سعيها لاكتشاف الآخر، تعود إيتيل من خلال الفنّ إلى فضائها الطفوليّ، وتكرّر تجاربها الأولى مع تعلّم اللغة العربيّة، عندما كانت تجلس لساعات، وتنسخ أبجديّتها.

تشغل أعمال إيتيل حيّزًا بانوراميًّا شاسعًا مثل علاقتها بالطبيعة والعالم، أمّا علاقتها بالعالم العربيّ فبدأت تظهر من الحروف العربيّة وكتابتها بخطّ اليد، وتحديدًا في ما صنعته من الكتب الصغيرة المطويّة على شكل الأكورديون، الّتي تُعْرَف بـ Leporellos. استوحت إيتيل هذا الأسلوب الفنّيّ من الكتب اليابانيّة المطويّة الّتي يدمج الرسّامون فيها رسوماتهم مع النصوص والقصائد، وتتحدّث في إحدى مقابلاتها عن ذلك الأسلوب الفنّيّ، قائلة: فكّرت في أنّها طريقة جيّدة للخروج من فضاء الصفحة المربّعة أو المستطيلة، وكأنّني أكتب نهرًا[4].

 

إيتيل عدنان، ديسيمبر من نافذتي، 1993، حبر وألوان مائيّة على ورق، 71/2 × 100 بوصة.
المصدر: Etel Adnan - Artists - Callicoon Fine Arts

 

كما أتقنت إيتيل لغة فنّيّة أخرى، تستعيد من خلالها ارتباطها بالثقافة العربيّة وذكريات طفولتها، عندما أدخلت المنسوجات إلى فضائها الفنّيّ؛ إذ لطالما شدّتها دقّة صنع المنسوجات اليدويّة، وجماليّة السجّاد الإيرانيّ في بيت عائلتها. وإذا كان الرسم لغة ذاتيّة تتحدّث بها مع فرشاتها وألوانها، فالمنسوجات اليدويّة، كما تقول عدنان، فضاء جماعيّ تتعاون في صنعه مع فريق متخصّص بصناعة الأنسجة والألوان والصبغات، ممّا أسبغ عليها إحساسًا مختلفًا، وفتح لها فضاء بديلًا في عالم آخر[5].

 

جغرافيا الجسد: نقطة متحرّكة

تتماهى إيتيل مع الطبيعة عبر حركة جسدها في الفضاء الخارجيّ، وحركة يديها في فضائها الأدبيّ والفنّيّ[6]، وتلتحم في لوحاتها ونصوصها مع الأرض وتضاريسها، بجبالها وبحارها، تتحدّث مع أشجارها وحيواناتها، وتسبح بحرّيّة في فلكها: جسدي يستحوذ عليّ كما لو أنّه كوكب سيّار من تلقاء نفسه[7].

أمّا الفضاءات اللامكانيّة الّتي تجذب اهتمام إيتيل فهي: الفراغ، والخلاء، والفضاءات المؤطّرة، والممرّات؛ أعني بذلك الأبواب والشبابيك. أمّا الجدران فدائمًا ما تتلاشى من ذاكرتي، وإن كان لا بدّ من بقائها، أصيّرها سطوحًا مائجة، أو بقعًا ذات ألوان شاحبة[8].

فتحت حركة إيتيل الدائمة عينيها على ديناميكيّة العالم، فأخذت تتأمّل أسرار القوى الطبيعيّة والبشريّة الّتي تحرّكه، تصلحه، وتفسده. كتبت أيضًا عن ديناميكيّة العلاقات بين النساء والرجال، واختلال التوازن في الأدوار الجندريّة، وحلمت بفضاءات مدينيّة طوباويّة، تتحرّك فيها القوى بتوازن وانسجام، يكون الحبّ فيها لغة بديلة، وفضاء لامكانيًّا، مفلتًا من قبضة الزمن.

 

إيتيل عدنان، بدون عنوان، 1970، باستيل على ورق، 24×30 سم.
المصدر: Etel Adnan - - Exhibitions - Galerie Lelong & Co.

 

استكتب المؤرّخ والكاتب اللبنانيّ فوّاز طرابلسي، محرّر مجلّة «زاوية»، إيتيل عدنان، ذات مرّة، في عدد خاصّ حول النسويّة في العالم العربيّ، فآثرت الكتابة عن نسويّتها بطريقة عمليّة لا نظريّة، وبعثت رسائلها إلى فوّاز وهي تتنقّل على متن الطائرات والقطارات من مدينة إلى أخرى، تراقب عن كثب علاقة المدن والثقافة بالأدوار الجندريّة، وطبيعة حياة النساء وذاكرتهنّ الجمعيّة[9]. تشرح إيتيل في إحدى رسائلها إلى فوّاز تجارب النساء المتقاطعة، وذكرياتهنّ المتشابهة، على اختلاف الثقافات والأمكنة، قائلة: إنّ ذاكرة امرأة واحدة تحمل في طيّاتها ذاكرة نساء أخريات؛ وكأنّ المرأة والذاكرة صنوان[10]. كما تلفت إيتيل أنظارنا إلى ذلك التناقض بين دور المرأة الحقيقيّ في العالم وحياتها في الواقع، في إحدى قصائدها، قائلة:

أنا امرأة،
هل أنا أمّنا الأرض؟
أنا نصف الكون،
هل سأكتمل يومًا؟
أنا الصمت الّذي يحيط بي،
والحديقة الخاوية،
أَسْرَعُ تلاشيًا من غيمة،
أنا نقطة[11].

 

الحرب: ثقل العالم

تحتلّ الحرب فضاءات إيتيل الأدبيّة فتثقلها، وتقوّض شيئًا من سرديّة البهجة فيها، لكنّ شغفها بالمساحات الفارغة، والطبيعة، والضوء، والألوان، دائمًا ما يخفّف من قتامة المشهد. غادرت إيتيل فضاء اللغة الفرنسيّة، ودخلت فضاء بديلًا عنه لدوافع سياسيّة أيضًا، وهكذا كتبت أولى قصائدها باللغة الإنجليزيّة، إعلانًا لموقفها الغاضب من الحرب الأمريكيّة على فيتنام[12].

لكنّ إيتيل لم تهجر اللغة الفرنسيّة قطعيًّا، فعادت إليها بعد ذلك بأعوام، وكتبت نصوصًا أخرى مثل «ستّ ماري روز» في عام 1978. وقع النصّ متاخمًا للرواية من الناحية السرديّة، وللقصيدة النثريّة من الناحية الشعريّة، وتدور أحداثه حول امرأة مسيحيّة خُطِفَتْ وقُتِلَتْ في أثناء الحرب الأهليّة في لبنان. وفي الواقع، لا أرى مفارقة في أن تكتب إيتيل نصًّا عن الحرب الأهليّة بالفرنسيّة، ولعلّها تسترجع بذلك تأثير التاريخ الاستعماريّ في بلاد الشام، وتفضح القوّة الجسديّة والجنسيّة العنيفة الّتي يندفع الرجال على إثرها في الحروب، فالسلطة هي لغة الحرب الفاحشة، كما تراها إيتيل[13].

في مطلع الألفيّة الجديدة، كتبت عدنان قصيدة طويلة بعنوان «أن تكون في زمن الحرب»؛ رثاءً للعالم، وهجاءً للحروب، ولا سيّما في العالم العربيّ. تكتظّ القصيدة بالأفعال المضارعة في زمن العجز الحاضر، توائم فيها بين أفعال الحرب العبثيّة وتفاهة الأفعال اليوميّة، في ما يلتهمها الإحساس بالذنب، بعيدًا عن ساحة الحرب، ومعاناة الضحايا واللاجئين.

 

إيتيل عدنان، مقياس الضوء الجديد، 2021 | متحف غوغنهايم، صوة ماريا بوبوفا

 

وباعتبارها شاهدة على قرابة قرن من العنف والدمار، تتحرّك إيتيل بكينونتها مثل نقطة صغيرة في فضاء الحرب وثقله اللامتناهي، يلتهمها الزمن ببطء، فلا تجد سبيلًا للتخفيف من وطأة العبث إلّا عبر خلق فضاءات روحانيّة بديلة، بالفنّ والشعر:

تفكّرين في بيروت،
تحلمين بفلسطين،
تشتاقين إلى بغداد،
وشيءٌ ما يذكّركِ باستحالة أن تكوني حيث أنتِ.

تفجّرين الحقيقة،
تفجّرين البلدان،
ينفد صبركِ من فرط العدم.
تغسلين يديكِ،
وتنظّفين أسنانكِ.

ترسمين لوحةً ضخمةً تقطر دمًا.

تنظرين إلى ذاك الطريق الضيّق الّذي يقود العالمَ إلى المذبحة[14].

 


إحالات

[1] Adnan, Etel. “To Write in a Foreign Language”. Electronic Poetry Review 1, 1996. Accessed 27 December 2021 http://www.epoetry.org/issues/issue1/alltext/esadn.htm.

[2] Ibid.

[3] Certeau, Michel de. The practice of Everyday Life. Translated by Steven Randall, University of California Press, 1988.   

[4]  Ulrich, Obrist Hans, & Daniel Birnbaum. Etel Adnan in All Her Dimensions, Skira, 2014, p.45.

[5] Adnan, Etel. Life Is a Weaving. Galerie Lelong, 2016. See Also: Sébastien Delot & Jacques Bourdeix. Etel Adnan: The Uprising of Colors; The Tapestries. Edited by Andrée Sfeir-Semler, Sfeir-Semler Gallery, 2021.

[6] See also: Ebtihal Abdulsalam El Shaikh, “Etel Adnan's in the Heart of the Heart of another Country: A World without Borders.” International Journal of Humanities and Social Science, May 2013,Vol. 3 No. 9.

[7] Adnan, Etel. In the Heart of the Heart of Another Country, San Francisco: City Light Books, 2005, p. 17.

[8] Ibid, 68.

[9] See also: Laure ZarifI Keyrouz, “Mobility and Identity in the Art and Literature of Etel Adnan.” Dve Domovoni, February 2020, No. 51. Accessed 27 December 2021. http://twohomelands.zrc-sazu.si/en/articles/show/618/mobility-and-identity-in-the-art-and-literature-of-etel-adnan-

[10] Adnan, Etel. Of Cities and Arab Women. The Post-Apollo Press,1993, p.56.  

[11] Adnan, Etel. “Untitled”. Bomb, January 1995, No. 50. Accessed 27 December 2021. https://bombmagazine.org/articles/untitled-8/

[12] Adnan, Etel. “To Write in a Foreign Language.” Electronic Poetry Review 1, 1996, Accessed 27 December. 2021 http://www.epoetry.org/issues/issue1/alltext/esadn.htm.

[13] Weaver, Kathleen.”The Non-Wordly World: A Conversation with Etel Adnan.” Poetry Flash, May 1986, No. 158.

[14] Adnan, Etel. “To Be in A Time of War.” In the Heart of the Heart of Another Country, San Francisco: City Light Books, 2005, pp. 100-116.

 


 

وفيقة المصري

 

 

كاتبة وباحثة أكاديميّة، حاصلة على درجة الماجستير في الأدب والدراسات الثقافيّة باللغة الإنجليزيّة. عملت عدّة سنوات في تعليم اللغة العربيّة للناطقين بغيرها في عمّان.