السينمائيون المصريون الذين لم يقرعوا جدران الخزان (3/3)

من فيلم "باب الشمس"

 

تناولنا في الجزء الثاني من مقالة "السينمائيّون المصريّون الّذين لم يقرعوا جدران الخزّان"، عددًا من القضايا والسمات المميّزة لتناول القضيّة الفلسطينيّة في السينما المصريّة، من ضمنها حضور المرأة، وصياغة الذاكرة المصريّة عن فلسطين، وسمة "ردّة الفعل" الّتي تميّزت بها صناعة مجموعة من هذه الأفلام، وغيرها.

في الجزء الثالث والأخير، سنتناول مجموعة قضايا وسمات جديدة؛ إقحام الكوميديا، ولغة الفيلم، وتوظيف الأغنية، وجنسيّة الفيلم، والبحث عن البطولة، ثمّ تقديم مقولة تلخيصيّة بناءً على ما جاء في المقالة بأجزائها الثلاثة.

 

إقحام الكوميديا دون معنى

يُلاحظ أنّ الكثير من الأفلام المصريّة المتناوِلة لفلسطين وقضيّتها، وعلى الرغم من أنّها تُدرَج ضمن نوع الفيلم الدراميّ، يُلاحظ فيها سمة الزجّ بالكوميديا، حتّى يُقبل الجمهور عليها؛ فنجد أنّ كوميديًّا ومطربًا شعبيًّا مثل محمود شكوكو، يشارك في فيلم "نادية" (فطين عبد الوهّاب، 1949)، إلى جانب أحد مشاهير الأرستقراطيّة الفنّيّة المصريّة وقتئذٍ، وهو سليمان بك نجيب، الّذي اتّسمت معظم مشاركاته بالطابع الكوميديّ أيضًا، كذلك فنّان كوميديّ آخر مثل حسن فايق في فيلم "فتاة من فلسطين" (محمود ذو الفقار، 1948)، أو الفنّان عمر الجيزاوي في فيلم "أرض الأبطال" (نيازي مصطفى، 1953)، والفنّان عبد السلام النابلسيّ في فيلم "أرض السلام" (كمال الشيخ، 1957)، وقد حدث الأمر ذاته مع فيلم "أصحاب ولا بيزنس" (علي إدريس، 2001)، من خلال شخصيّة الفنّان طارق عبد العزيز. هذه الكوميديا لم تضف شيئًا إلى خطّ الفيلم الدراميّ، أو طرحت سؤالًا كي يفكّر فيه مَنْ يشاهد!

 

 

اللغة والأغنية

وإن لم تكن لغة الفيلم خطابيّة، تحاول إشعال روح الوطنيّة في المشاهد، فهي لغة بكائيّة تحاول استدرار دموعه واستجداءها، وهذا ينطبق على لغة الحوار ولغة الصورة في كثير من هذه الأفلام، وقد كانت الأغنية مكوّنًا أساسيًّا في لغة الفيلم.

عودة مرّة أخرى إلى اللهجة؛ فقد استُخدمت اللهجة المصريّة في هذه الأفلام، ولهجة يبدو أنّها فلسطينيّة، إلّا أنّها ليست كذلك، وقد يكون لهذا الأمر تفسيران، الأوّل: عدم القدرة على تقديم لهجة فلسطينيّة جيّدة من قِبَل فريق التمثيل، والثاني: محاولة الإبقاء على الشخصيّة المصريّة في سياق الفيلم؛ فيعلم المشاهد أنّ هذه الشخصيّة في نهاية الأمر مصريّة، رغم تجسيدها نموذجًا فلسطينيًّا، وهذا يأتي في محاولة قد يسعى فيها صنّاع السينما خاصّة، أو الدولة عامّة، إلى أن تحافظ على لهجتها من خلال الصورة السينمائيّة، وهذه سياسة مُتّبَعة في دول مختلفة؛ في محاولة لتقديم ما يمكن تسميته بالسينما الوطنيّة.

أمّا الأغنية فقد صاحبت غالبيّة الأفلام المصريّة عن فلسطين، سواء داخل أحداث الفيلم أو مع نهايته، وتراوحت بين كلمات وألحان، تعمد إلى الحنين إلى الماضي، أو شحذ همم المقاومة.

 

الجغرافيا وجنسيّة الفيلم

ما هي جنسيّة الفيلم؟ ليس سؤالًا جديدًا؛ فجنسيّة الفيلم لطالما شغلت المهتمّين بصناعة السينما؛ فإذا قدّم مخرج مصريّ فيلمًا عن فلسطين بإنتاج سوريّ، وممثّلين من دول عربيّة مختلفة، فهل نطلق عليه أنّه فيلم مصريّ، أو سوريّ، أو عربيّ؟ هل دولة الإنتاج تحدّد جنسيّة الفيلم؟ أو المخرج؟ أو الممثّلون؟ أو موضوع الفيلم؟

 

 

حاول الإجابة عن هذه الأفكار الباحث أندرو هيجسون؛ من خلال تساؤله: "هل يمكن اعتبار هويّة الفيلم أيّ شيء آخر، غير هويّة عابرة لحدود الدولة؟"، وذلك في بحثه "الخيال المحدود للسينما الوطنيّة"، وهو أحد فصول كتاب "السينما والأمّة" (ص 61)، وهذا يمكن تطبيقه على كلّ الأفلام المصريّة المتناولة للقضيّة الفلسطينيّة دون استثناء؛ فلو كان كلّ مخرجي هذه الأفلام مصريّين، فالقضيّة عن فلسطين، وإذا كان المنتجون سوريّين مرّة وجزائريّين مرّة أخرى، فالممثّلون مصريّون وسوريّون وفلسطينيّون. بمعنًى آخر، السينما عبرت الحدود الجغرافيّة وكسرتها، وهذا يحيلنا إلى مسألة الذات؛ فالجغرافيا والتاريخ من العوامل الّتي تشكّل الذات، فإذا دقّقنا في الأفلام المصريّة عن فلسطين، لم يتعامل صنّاعها على أنّ فلسطين آخر، بل فلسطين جزء من الذات، سواء الذات بالمعنى المصريّ أو بالمعنى العربيّ؛ فاللُّحمة التاريخيّة الممتدّة بين مصر وفلسطين، بسبب التاريخ والحدود والجغرافيا والمصاهرة والسياسة، قد تجعل مفهوم الذات متماهيًا؛ فالفلسطينيّ يُرى فيه قدر من الذات المصريّة، والعكس صحيح إلى قدر كبير.

 

الذات الفلسطينيّة

"المخدوعون" (توفيق صالح، 1972)، و"ناجي العلي" (عاطف الطيّب، 1992)، و"ثنائيّة باب الشمس" (يسري نصرالله، 2004)، هذه الأفلام كانت الأكثر اقترابًا من حياة الفلسطينيّ اليوميّة، نعم، شاهدنا طرح المقاومة الّذي صار طرحًا نمطيًّا، لكن كانت المقاومة هنا في إطار أوسع، مقاومة الذات اليوميّة في الحياة الّتي تحوّلت اعتياديّة، رغم غيوم الاحتلال الّتي لا تنقشع.

تحدّث فيلم "المخدوعون" عن البحث عن لقمة العيش خارج معسكرات اللجوء، ومحاولة السفر إلى بلد جديد، من أجل الحصول على حفنة المال؛ لتعليم الأبناء أو بناء منزل خرسانيّ؛ لم يظهر هذا من قبل على الشاشة المصريّة العربيّة. أمّا رواية غسّان كنفاني فكانت متقنة، إلى درجة تجعل الصورة السينمائيّة سلسة، والحوار أعمق ممّا اعتدناه من قبل، عند الحديث عن فلسطين، وهذا ما لخّصه أبو قيس، أحد أبطال الفيلم، عندما قال: "اللّي ما مات برصاص اليهود، بيموت بذلّ الإعاشة، بيموتوه الخونة والمتآمرين... مضيت عمرك تصدّق كلّ شي يقولوا لك إيّاه، سوّيت الراديو نبي، وضلّيت تزرع حكي، واللّي بيزرع حكي بيقطف طقّ حنك". 

 

 

لم نرَ في هذه الأفلام سوى حكايات "الذات" الفلسطينيّة، لم نرَ "الآخر" المصريّ، حتّى لو كان ذاتًا بالمعنى العربيّ، ورغم ذلك، في فيلم "ناجي العلي"، الّذي يحكي سيرة ذاتيّة فلسطينيّة خالصة، دون وجود الطيف المصريّ في القصّة، إلّا أنّ السياسة في مصر انعكست على عرض الفيلم؛ فقد حدثت أزمة بسبب صحافيّ مصريّ حينذاك، كان يرى أنّ فيلم "ناجي العلي" الّذي يقدّمه فريق عمل مصريّ، لا يخدم القضيّة الفلسطينيّة، بل يسيء إلى مصر أكثر، ويُروى أنّ هذا الصحافيّ، الّذي كان على صلات رفيعة بحاكم مصر حينئذٍ، حسني مبارك، أخبره بأنّ هذا الفيلم يروي حكاية رسّام الكاريكاتير ناجي العلي، الّذي أطلق على مبارك نكتة "البقرة لا فاش كي ري"؛ فأدّى هذا إلى منع الفيلم سنوات عديدة، ما جعل نور الشريف حينئذٍ، يشعر بأنّ وطنيّته سُلبت منه؛ بهذا الهجوم الضاري عليه.

 

اقرأ أيضًا - السينمائيّون المصريّون الّذين لم يقرعوا جدران الخزّان (1)

 

ما حدث مع مخرج فيلم "المخدوعون" لتوفيق صالح، ومع نور الشريف الّذي كان على وشك الرحيل إلى لندن، والعمل في "هيئة الإذاعة البريطانيّة - بي بي سي"، بسبب فيلم "ناجي العلي"، يمكن أن نربطه بما تحدّث عنه الكاتب الإيرانيّ حمدي نفيسي، في كتابه "The Accented Cinema"؛ إذ تناول شريحة من الأفلام لها سمات معيّنة، مثل كونها تروي قصّة عن الشتات أو المنفى، وأنّ مخرج العمل مثلًا يكون خارج وطنه. هذه الفئة من الأفلام، لا يمكن التعامل معها بأنّها نوع سينمائيّ خاصّ Genre، بل هي خليط من مدارس سينمائيّة مختلفة، وإذا ما حاولنا النظر إلى هذا المفهوم، وربطه بسينما المخرجين المصريّين عن فلسطين، فسنجد أنّ فيلم المخرج توفيق صالح هو النموذج الممثّل لتلك الشريحة، وبالتأكيد أنّ معظم أعمال السينمائيّين الفلسطينيّين يمكن إدراجه ضمن هذه الشريحة؛ فصالح عندما أخرج "المخدوعون" كان في سوريا، بعد أن ترك مصر؛ نظرًا إلى عدم ملاءمة الأوضاع السياسيّة في مصر له، إنّ الحُبكة الرئيسيّة للفيلم قائمة على أدب المنفى والتهجير، وحلم العودة.

 

"بدّيش أكون قصّة"

في "ثنائيّة باب الشمس"، اقترب يسري نصر الله بشدّة من تفاصيل الحياة اليوميّة في فلسطين، صحيح أنّ السينما منتج فنّيّ عن الإنسان، لكن ليس كلّ سينما تهتمّ بتفاصيل حياة الإنسان، فقد تُقدّم القشور، هذا ما فعله فيلم "باب الشمس"، هو فيلم إثنوغرافيّ في كثير من تفاصيله، أخذنا بالكاميرا في رحلة ترصد عادات أهل قرية "عين الزيتون" وتقاليدهم، شممتُ معه رائحة الزعتر الّتي تفوح بها ثنايا جسد نهيلة، وسال لعابي عندما رأيت خليل ويونس يأكلان البرتقال الفلسطينيّ، فالحياة ليست كلّها مقاومة، ثمّة أيّام عاديّة، صباحات قد يملؤها الروتين ويقتلها الملل في قرية "عين الزيتون"، فهم - وإن كانوا مقاومين - ليسوا خارقين، تحتاج أرواحهم إلى الحبّ، وأجسادهم إلى الجنس، ليسوا الملائكة الّذين لا وقت لديهم للحبّ والحياة.

 

 

خليل، الّذي شارك في المقاومة، ووقع في غرام شمس، لم يكن مفتونًا بأن يكون بطلًا ككثيرين يحلمون بهذا، كان يرى أنّ "كلّ الناس بتحبّ تكون قصّة، أنا بدّيش أكون قصّة، بدّي كون أنا حتّى أقدر أعيش".

الأفلام الثلاثة نقلت صورًا مختلفة عن صراع النوع (الجندر)؛ فـ "المخدوعون" كان يدور حول عالم الرجال أساسًا، وإن ظهرت النساء فهنّ في فلك الرجال، على حين أنّ "باب الشمس" كان حالة خاصّة تقدّم نماذج متنوّعة من المرأة الفلسطينيّة؛ فمثلًا شاهدنا نموذج صراع امرأتين من جيلين مختلفين، أُمّ يونس، ونهيلة زوجة يونس. أمّ يونس لا تحبّ نهيلة، وترى أنّها ليست "شلبيّة"، وأنّ جمال المرأة يكمن في أنّها بيضاء وأنّ عينيها واسعتان، وعندما حاولت نهيلة أن تتعلّم القراءة، قالت أمّ يونس: "إحنا النسوان ما نقراش كتب، نقرا قرآن وبسّ"، صراع لم نشاهده من قبل، ربّما تكون لدينا صورة ما حول النساء الفلسطينيّات؛ أنّهنّ على قلب امرأة واحدة، متضامنات معًا من أجل القضيّة الأكبر، فلسطين، لكنّ الحبّ والكراهية أمر لا علاقة له بفلسطين أو المقاومة أو الحرب. نموذج آخر مميّز قدّمه الفيلم، هو ما يمكن أن نسمّيه "المرأة المميتة Femme Fatale"، من خلال شخصيّة شمس، المرأة المقاومة الّتي يحبّها خليل، لكنّها لا تجلب خلفها سوى الموت والدماء.

 

جدران الخزّان لم تُطرق

قد تعيد السينما إنتاج التاريخ، وقد تصنع أسطورة لا وجود لها من الأساس، ممّا يعيق العقل الجمعيّ، في لحظات من التمييز بين ما هو حقيقيّ وما هو خياليّ، ما هو واقع وما هو أسطوريّ. ورغم أنّ السينمائيّين ينفون عن أنفسهم القيام بدور المؤرّخين، إلّا أنّ الشريط السينمائيّ يفرض نفسه في لحظات على جموع المشاهدين، الّذين قد يجدون في الفيلم المعروض حكاية أكثر إمتاعًا وقبولًا، لا تتطلّب مجهودًا مثل قراءة كتاب تاريخ؛ فتنبني رؤى أفراد عدّة على ما أسّسه هذا الفيلم الّذي لا يمتّ إلى الواقع بصلة، كما يكتب السينمائيّون في بداية العمل، أو عندما يقولون إنّه مستوحًى من أحداث حقيقيّة، إلّا أنّ الدراما والخيال لا يمكن فصلهما عن هذه الأحداث.

 

اقرأ أيضًا - السينمائيون المصريون الذين لم يقرعوا جدران الخزان (2/3)

 

حاول صنّاع السينما في مصر، تقديم سينما عن فلسطين، منذ قرابة 70 عامًا، إلّا أنّهم ظلّوا قابعين داخل خزّان الأفكار السطحيّة والصور النمطيّة؛ فماتت الأفلام ولم ترَ الحياة الحقيقيّة عن فلسطين، كما مات مروان وأسعد وأبو قيس داخل الخزّان، قبل أن يقرعوا جدرانه في نهاية فيلم "المخدوعون"، الّذي أظنّه أفضل ما قدّم مخرج مصريّ عن فلسطين؛ إذ اختير ضمن أفضل مئة فيلم عربيّ، في استفتاء "مهرجان دبي السينمائيّ"، ضمن كتاب "سينما الشغف"، عام 2013.

 

 

أحمد زكريّا

 

صحافيّ ثقافيّ، مهتمّ بالكتابة في السينما والأنثربولوجيا. عمل سنوات عديدة في مجال صناعة الأخبار والأفلام الوثائقيّة، وساهم بمقالات متنوّعة في مواقع مصريّة وعربيّة وعالميّة. حصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة القاهرة، والماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من جامعة لانكستر بإنجلترا.