«مدرسة الروابي للبنات»... السِّجال المجتمعيّ والأسئلة الغائبة

من «مدرسة الروابي للبنات»

 

استطاع مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» (2021)، على بعض العلّات الفنّيّة فيه والترهّلات، أن يجعلني أشاهد كلّ حلقاته في ليلةٍ واحدة، علمًا أنّني ذهبت إليه مدفوعًا بـ «السِّجال المجتمعيّ» الّذي تسبّب به، إن كان في الأردنّ تحديدًا، أو في محيطه العربيّ، وقد وجدت نفسي أمام تجربة دراميّة ممتعة، تملك القدرة على تناول قضايا هويّاتيّة ومجتمعيّة مركّبة، بسلاسة ورشاقة، محقّقةً شرط الإقناع الفنّيّ، وتحديدًا في ما يتعلّق بالتعاطف مع الشخصيّات؛ لصدق الأداء لدى غالبيّتها، ومَرَدُّ ذلك إتقان اختيار الممثّلات، خاصّة أنّ مركزيّة الشخصيّات تتوزّع على أكثر من ممثّلة، وهي متطوّرة ومتحوّلة على مدار حلقات المسلسل الستّ.

«مدرسة الروابي للبنات»، مسلسل أردنيّ، من كتابة وإخراج تيما الشوملي، تجري أحداثه في العاصمة الأردنيّة، عمّان، ضمن مجتمع مدرسيّ أنثويّ، وهو يعالج عددًا من الظواهر الاجتماعيّة، وعلى رأسها التنمّر في جيل المراهقة، وما يترتّب عنه ويرتبط به من ظواهر اجتماعيّة أخرى.

لن أتطرّق في هذه المقالة إلى بنية المسلسل وعناصره الفنّيّة، ولن أخوض في تفاصيل موضوعاته الكثيرة والمتشعّبة، وإنّما سأتّخذه فرصة للحديث عن «السِّجال المجتمعيّ» الّذي تتسبّب به إنتاجات فنّيّة في المنطقة العربيّة بين الحين والحين، على اختلاف حقولها، بصفة «السِّجال» مؤسّسة اجتماعيّة، وعلاقة ذلك بـ «فنّيّة الفنّ» ودوره في «التنشيط الحَضَريّ/ العُمْرانيّ». كما أنّني سأتساءل عن الغائب في طرح المسلسل النقديّ، وكذلك الغائب في «السِّجال المجتمعيّ» حول المسلسل.

 

السِّجالُ المجتمعيّ

يميل المشتغلون في الحقول الإبداعيّة عادةً، وتحديدًا في المنطقة العربيّة وشبيهاتها في الخصائص الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، إلى نفي قَصْدِيَّتِهِم المسبقة في إحداث «سِجال مجتمعيّ» لدى إنتاجهم عملًا ما، ولا سيّما إن كانت مضامينه إشكاليّة أو خلافيّة، كأنّ الأمر تهمة تحتاج إلى تبرئة أنفسهم منها؛ علمًا أنّ مراجعةً للصناعات الإبداعيّة وسياساتها السائدة في مختلف دول العالم اليوم، ستكشف عن رغبة ملحّة لدى المشتغلين فيها لتحقيق مثل هذا السِّجال، بغضّ النظر عن نوعه ومجاله، فهذا يعني زيادة في الانكشاف والأرباح المعنويّة والمادّيّة.

إنّ «السِّجال المجتمعيّ» ممارسة اجتماعيّة تنشيطيّة ضروريّة للمعنيّين بسؤال حَضَريّة/ عُمْرانيّة البشر؛ ولذلك ليس ينبغي بطاقم مسلسل «مدرسة الروابي للبنات»، وتحديدًا مخرجته تيما الشوملي، الوقوع في فخّ تبرئة أنفسهم من سِجاليّة إنتاجهم...

إنّ «السِّجال المجتمعيّ» ممارسة اجتماعيّة تنشيطيّة ضروريّة للمعنيّين بسؤال حَضَريّة/ عُمْرانيّة البشر؛ ولذلك ليس ينبغي بطاقم مسلسل «مدرسة الروابي للبنات»، وتحديدًا مخرجته تيما الشوملي، الوقوع في فخّ تبرئة أنفسهم من سِجاليّة إنتاجهم، خاصّةً أنّ طرحهم النقديّ الاجتماعيّ يبدو معنيًّا بهذا السِّجال؛ فالمسلسل، مستندًا إلى مرجعيّة نسويّة وليبراليّة، يأتي لينقد كي يغيّر، لا ليُمْتِعَ فقط، ولا ليكتفي بتأويل العالم، كما تؤكّد الدعوة الإرشاديّة الّتي تختتمه: "إذا كنت أنت أو أيّ شخصٍ تعرفه يعاني من التنمّر، يمكن العثور على المعلومات والإرشادات اللّازمة لمساعدته على موقع...". لكنّ الشوملي وقعت فعلًا في فخّ تبرئة النفس كما يظهر من تصريحاتها الإعلاميّة المختلفة، إن كان قبل إطلاق المسلسل على منصّة «نتفلكس» أو بعد الإطلاق. وهنا يجب التأكيد أنّه لولا «السِّجال المجتمعيّ» حول المسلسل، لما كان الإقبال عليه بهذا الحجم منذ الأيّام الأولى لإطلاقه.

أجاب العرب عن مسألة السِّجال قديمًا، حتّى في نصّهم المؤسّس الّذي كان له الدور المركزيّ في تحويلهم إلى جماعة ثقافيّة لها خصائص مشتركة، سمحت بتحوّلهم لاحقًا إلى أمّة لها ثقلها الحضاريّ المهول، وهو «القرآن» الكريم. إنّ المَتْنَ القرآني نفسه يحتفي بسِجاليّته ويؤكّد عليها لدى مجتمع تلقّيه الأوّل، العرب في الحجاز (قريش خاصّةً)، وتحديدًا في ما يتعلّق بمصدره وتجنيسه؛ أهو شعر، أم كلام ساحرٍ، أم وحي. لقد ظلّ هذا الملمح السِّجاليّ مرافقًا للإنتاجات المعرفيّة والجماليّة العربيّة قرونًا، إلى درجة مأسستها عبر تطوير علمين أو فنّين خطابيّين (discourse) هما «التكلّم» و«التناظر»، وإن كانت موضوعاتهما الغالبة في التراث تبتعد عمّا يمكن توصيفه في معجمنا المعاصر بـ «القضايا المجتمعيّة»، إلّا أنّ هذه القضايا كانت حاضرة فعلًا (مثلًا «المفاخرة بين الجواري والغلمان» من تأليف الجاحظ).

لذلك يُتَوَقَّع أن يكون «السِّجال المجتمعيّ» ممارسةً مُتَصالحٌ معها عربيًّا، حتّى لدى المحافظين، بصفتها أصيلة في الثقافة العربيّة، وليست أمرًا وافدًا أو مُحْدَثًا أو غريبًا، إن كان هذا ما يزعج البعض حقًّا، كما يظهر في تناول وسائل الإعلام، وأيضًا في تعبيرات وسائل التواصل الاجتماعيّ، بل حتّى في تعبيرات القائلين بـ «العَقْلَنَة»، علمًا أنّه لا منطق ولا علم بلا سِجال. ولعلّ من مظاهر التراجع المعرفيّ في المنطقة العربيّة اليوم، شبه اختفاء السِّجال؛ نحن لم نعد في زمنٍ تكتب فيه نظيرة زين الدين «السفور والحجاب» (1928)، لتردّ عليها مجموعة من علماء الدين والشيوخ الذكور مستنكرين آراءها، فتردّ عليهم بكتاب ثانٍ هو «الفتاة والشيوخ» (1929).

إنّ مبدأ الحرّيّات التعبيريّة الّتي دافع عنها جون ستيورات ميل (1806 – 1873) ومَنْ جاؤوا بعده ملتزمين بخطّه، باعتباره شرطًا للتطوير المعرفيّ والاجتماعيّ، حتّى وإن كانت الآراء المُعَبَّر عنها خاطئة في نظر البعض، كون التعبير عنها سيُخْضِعُها للفحص عبر التبادل المفتوح للآراء، هو مبدأ يمكن أن يستفيد جدًّا من ممارسة «السِّجال المجتمعيّ»، وبالتالي فإنّ الإبداع ستكون له قيمة مضافة، من هذا المنظور، إن كان مولّدًا للسِّجال.

أقول ما تقدّم بحذر، لأنّ ما قد يفصل بين «السِّجال المجتمعيّ» بصفته ممارسة تنشيطيّة ضروريّة لإجابة المجتمعات عن احتياجاتها الآنيّة والمستقبليّة، وصناعة عقودها الاجتماعيّة وتجديدها، عبر إقامة الحجج ودحضها، وبين أن يكون هذا السِّجال ممارسة ترويجيّة، منزوعةَ الأسئلة القيميّة والأخلاقيّة، ليس إلّا- ما قد يفصل بينهما شَعْرَة، وهو ما بات طاغيًا في تعبيرات وسائل التواصل الاجتماعيّ. لكن إن كان ثمّة ضامنٌ لترشيد هذه الممارسة وردّ اعتبارها والاستفادة منها، فهو المَأْسَسَة الدائمة لها، وتحديدًا من قبل مؤسّسات الصحافة والبحث العلميّ وإنتاج المعرفة والتنظيم الثقافيّ والسياسيّ.

 

هزيمة «الفنّ من أجل الفنّ»

لا يزال كثيرٌ من أهل الفنّ في المنطقة العربيّة، ونقّاده أيضًا، يتمسّكون بمقولة «الفنّ من أجل الفنّ» مقابل «الالتزام»، في خصومة مفتعلة ومدّعاة، تشبه الخصومة الّتي لا تريد لنفسها أن تنتهي بين أنصار القصيدة العموديّة مقابل قصيدة النثر، وهي خصومة غير مجدية ولا تؤدّي بنا إلى أيّ مكان؛ ومن أسباب ذلك عدم إجراء أهل الفنّ ونقّاده المتمسّكين بهذه المقولة، فحصًا مُحَدَّثًا (من التّحديث) ومواكبًا لعمليّات وسيرورات الإنتاج الّتي ينخرطون فيها، ومن ضمن ذلك ما يتلقّونه ممّا يُنْتَج حولهم ويؤثّر في ذائقاتهم وتوجّهاتهم، وبالتالي إنتاجاتهم؛ لذلك لا يُتَوَقّع أن يُسْتَساغَ لدى الجميع القول إنّ «السِّجال المجتمعيّ» يمكن أن يكون من أدوار الإبداع، بل ومن مسبّبات شعريّته، وتحديدًا في الجانب المتعلّق بالتلقّي. مع ذلك، فإنّه لا يمكن الحديث عن «الفنّ من أجل الفنّ»، دون استنكار الإلحاح في صناعة هزيمة هذه المقولة في أيّامنا.

إنّ المذهب البرناسيّ مُكَثِّفًا نفسه في مقولة «الفنّ من أجل الفنّ»، مستكملًا مباحث الأمم القديمة في الجمال، وتحديدًا سؤال الشعريّة عند الإغريق والعرب (...) يكاد ينهزم تمامًا في عالم الصناعات الإبداعيّة اليوم، ليس في السينما وفنون الشاشة فقط، بل حتّى في الأدب والغناء والمسرح،

إنّ المذهب البرناسيّ مُكَثِّفًا نفسه في مقولة «الفنّ من أجل الفنّ»، مستكملًا مباحث الأمم القديمة في الجمال، وتحديدًا سؤال الشعريّة عند الإغريق والعرب، كان له بالغ الأثر في الإعلاء من شأن الإبداع، وخلق زوايا نظر جديدة لفَهْمِه وتطويره، عبر اعتباره غايةً بحدّ ذاتها، والتركيز على دوره الإمتاعيّ، والدعوة إلى قراءته بنيةً مغلقةً تحقّق شروط جمالها داخلها، وهو يكاد ينهزم تمامًا في عالم الصناعات الإبداعيّة اليوم، ليس في السينما وفنون الشاشة فقط، بل حتّى في الأدب والغناء والمسرح، وذلك بتعزيز من دولة الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة (من رأسماليّة)، الّتي توصّلت، من أجل إدارة مصالحها واحتياجاتها، إلى صيغ توافقيّة متقدّمة جدًّا مع شركات كبرى، مثل «نتفلكس»، تضطلع في الصناعات الإبداعيّة، والّتي تحدّد سياسات الإبداع وتوجّهاته، ومن ضمن ذلك مقولاته المعرفيّة والقيميّة.

إنّ فحصًا بسيطًا لمسار تطوّر «تلفزيون الواقع» (Reality Television) مثلًا، يكفي للكشف عن ملامح الهزيمة الصارخة لمقولة «الفنّ من أجل الفنّ»؛ فقد بات هذا النوع من الصناعات الإبداعيّة صاحب ثقل مهول في تصميم الفاترينات الإبداعيّة لدول الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة ضمن النّاظم المُعَوْلَم (من عَوْلَمَة)؛ فاترينات تصنعها برامج من أمثال «The Voice»، «Arab Idol»، «MaterChef»، «Big Brother»، وغيرها، بنسخها العابرة للّغات والثقافات، عبر أبواب تُشْرِعُها قوانين دولة الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة وسياساتها الثقافيّة، وهو عبور أميركيّ بالأساس، يحصل بخفّة ومرونة، إلّا إذا اصطدم بعناد من نوع عناد الصين، أو الاتّحاد الأوروبّيّ وكندا، وإن على نحو أقلّ من الصين، والّتي هي أيضًا تقوم بالعبور، لكن بأدوات وأنماط أخرى.

يحقّق مثل هذا النوع من الصناعات الإبداعيّة الإمتاع السريع، ويشيع تلقّي الفنون، المرفّهة تحديدًا، لكنّها تحوّل الفنّ إلى أداةٍ لتحقيق أرباحٍ معنويّة ومادّيّة، وتجتثّ منه مبدأ أن يكون غايةً، حقيقةً جماليّة قائمة بذاتها، حرّة، حيث تتحقّق شروط جمالها داخل بنيتها المغلقة؛ ينقضي الموسم، ولا بدّ من العمل على الموسم الآتي، أو البرنامج الجديد، فيُنْسى ما كان في الموسم السابق، لأنّ سؤال الأرقام يتطلّب سرعة كبيرة ونسيانًا كثيرًا. هذا ما يفسّر ربّما الضعف الفنّيّ في كثير من إنتاجات «نتفلكس» الأصليّة؛ كمّ على حساب الجودة والعمق.

«نتفلكس» ومثيلاتها من منصّات الأفلام والبرامج التلفزيونيّة، من المسبّبين المركزيّين لهزيمة «الفنّ من أجل الفنّ»، تتضافر معها في ذلك مؤسّسة «الجائزة» و«المهرجان» وفعاليّات «معرض الكتاب» و«المنحة» و«أكاديميّة الفنون»، وغيرها، وجميعها من نتاج دولة الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة وسياساتها الثقافيّة، حتّى وإن كان تنظيم وتقديم الإبداع بهذه الأشكال له جذور قديمة، إلّا أنّ كثافتها والإفراط في تنظيمها هو الظاهرة المعاصرة. يدّعي البعض مثلًا أنّ برامج الكتابة الإبداعيّة في الجامعات الأميركيّة ساهمت في تراجع فنّيّة الأدب هناك، تمامًا كما ساهمت جوائز دول الخليج وبرامجها التلفزيونيّة في تدنّي فنّيّة الشعر والرواية في المنطقة العربيّة، وكلّ ذلك بات يُسْتَخْدَم بصفته أدوات قوّة ناعمة ((Soft Power من قبل الدول الإمبراطوريّة، وكذلك محلّيًّا داخل الدول القوميّة، أو الدول الوطنيّة المنتمية إلى منطقة ثقافيّة ما.

ربّما سيلجأ البعض إلى مقولة «الفنّ البديل» في هذا السياق، لكنّه سرعان ما سيجد فئة تحمل نفس الألفاظ في تصنيفات «نتفلكس»، وهي «Alternative Movies»، كما سيجد دولة الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة، تعلن عن جوائز ومنح ومهرجانات وبرامج تعليميّة تتضمّن التصنيف نفسه، دون حرج من هذا الاستحواذ على ما ينبغي أن يكون مختلفًا عن المركزيّ، أو السائد، أو الشعبيّ، أو الخطّ العامّ؛ فطالما يجلب هذا التوجّه شرائح إضافيّة، تتلقّى وتستهلك، فأهلًا به!

 

«البديل» و«المستقلّ» في المركزيّ والسائد

أمام هذه الحقيقة، ليس مستغربًا أن يحتوي مسلسل «مدرسة الروابي للبنات»، وهو من إنتاجات «نتفلكس» الأصليّة، على هذا الكمّ من الأغاني العربيّة الّتي تصنّفها حركة الإنتاج الموسيقيّة، والكتابة عنها، بـ «البديلة»، بل و«المستقلّة» أيضًا، على الرغم من عدم رصانة هذين المصطلحين ووضوح ما ينطبقان عليه في الأحياز العربيّة، لكن يمكن إدراك المقصود منهما بعامّة، لأنّهما يحيلان إلى نفس العناوين الإبداعيّة غالبًا، كلّما أُجْرِيَ فحص للمقصود منهما. علمًا أنّ «البديل» متحوّل، لا ثبات فيه، ويمكن في زمن ما، ونتيجة لتحوّلات اجتماعيّة ما، أن تصير هامشيّة «البديل» مركزًا، أو العكس. يمكن الادّعاء مثلًا، أنّ الموروث العربيّ الإسلاميّ، بات هامشيًّا في الصناعات الإبداعيّة اليوم، في غالبيّة المراكز الحَضَريّة العربيّة، على عكس مركزيّته في مرحلة «النهضة العربيّة» أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ينفتح سؤال جديد حول موقع الفنون «البديلة» و«المستقلّة» ذات المضامين الرفضويّة والتحرّريّة والاحتجاجيّة، بالنسبة إلى مركزيّة دولة الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة، والصناعات الإبداعيّة المُعَوْلَمَة، وشركاتها الرأسماليّة ذات النزعات الاحتكاريّة...

نجد في المسلسل مقاطع من أغاني مثل «ما لقيت» (أمل مثلوثي، 2012)، و«مناكير» (هيا زعاترة، غنّي عن التعريف، 2013)، و«هسافر بعيد» (ميّ وليد وزيد حمدان، 2013)، و«قوم نحرق هالمدينة» (مشروع ليلى، 2013)، و«دي المدينة» (يسرا الهواري، 2013)، و«عزيزة» (ياسمين حمدان، 2014)، و«الجنينة» (زائد ناقص وميّ وليد، 2015)، و«يتميلح» (كوين جي، 2018)، و«إيمت نجوّزك يمّا» (دام، 2019)، و«بروزاك» (دام، 2019)، و«أعدني» (مريم أبو الوفاء، 2020)، و«الديب» (زيادة، 2020). هذه الأغاني، وإن كانت تعبّر عن ذائقة الجيل الجديد الّذي يسلّط المسلسل الضوء عليه، ما قد يبرّر أن تكون كلّها تقريبًا «بديلة» و«مستقلّة» تمثيلًا لثقافته ومرحلته، إلّا أنّها مضمونيًّا تعبّر عن رؤية اجتماعيّة ومقولة قيميّة من مرجعيّاتها الحرّيّات الشخصيّة، ومن ضمنها الجنسانيّة، وأيضًا النسويّة، واللّاسلطويّة، وأفكار ما بعد الحداثة.

أقدّر أنّ الجهة المنتجة للمسلسل قد أخذت أذونًا من الجهات المنتجة لهذه الأغاني وفنّانيها كي تستخدمها في المسلسل؛ وهنا ينفتح سؤال جديد حول موقع الفنون «البديلة» و«المستقلّة» ذات المضامين الرفضويّة والتحرّريّة والاحتجاجيّة، بالنسبة إلى مركزيّة دولة الحداثة القوميّة المُرَسْمَلَة، والصناعات الإبداعيّة المُعَوْلَمَة، وشركاتها الرأسماليّة ذات النزعات الاحتكاريّة، وكذلك السلطات الجديدة والمتشعّبة الناتجة عن كلّ ذلك. ألا يناقض هذا أن تكون هذه التجارب الموسيقيّة جزءًا من صناعة «نتفلكس» الأصليّة؟ ألا يمكن أن يكون هذا الأمر مؤدّيًا إلى «تنافر معرفيّ»، على حدّ تعبير ليون فستنغر (1919 – 1989) في نظريّته الشهيرة؟

 

الأسئلة الغائبة

يطرح مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» مضمونًا نقديًّا إزاء عدد كبير من الظواهر والقضايا الاجتماعيّة المؤرّقة للمجتمعات العربيّة، لكنّها تشترك فيها مع مختلف ثقافات العالم؛ التنمّر عند المراهقين، وهي الظاهرة المركزيّة المُتناوَلَة، بالإضافة إلى التحرّش، والفساد الإداريّ، والاستغلال، والذكوريّة، وقتل النساء على خلفيّة ما يُسَمّى «شرف العائلة»، والتَّشاوُف الاجتماعيّ، والتربية المحافظة للأبناء، وثقافة العيب، والهويّة الجنسيّة، وغيرها.

هذا الحَشْد من الظواهر والقضايا، الّذي يعبّر عن الرغبة في قول كلّ شيء في عمل واحد، أضرّ في معالجتها؛ إذ لم يُسْعِف في التعمّق في أيّ ظاهرة أو قضيّة منها على نحوٍ مخصوص، فكان تناولها على شكل تعليقات وملاحظات مشهديّة وحواريّة سريعة وعابرة متقافزة.

وممّا يلفت في المسلسل، أنّ المرجعيّة النسويّة والليبراليّة والرفضويّة الّتي يدّعي استناده إليها، لم تؤدّي به إلى طرح أيّ سؤال، ولا حتّى بتعليق أو ملاحظة، حول سياسات قطاع التربية والتعليم وواقعه التنظيميّ، في الأردنّ خاصّة وفي المنطقة العربيّة عامّة، مثل «فصل الإناث عن الذكور في المدارس»، وهو نتاج وتعبير ذكوريّ ومحافظ، وكذلك حول مؤسّسة «المدرسة الخاصّة»، وهي نتاج وتعبير طبقيّ وتكرّس منظومة الامتيازات، كأنّ كلّ ذلك واقع محتّم ينطلق منه المسلسل. واللّافت أيضًا أنّ «السِّجال المجتمعيّ» المنهمك بخطاب المسّ بالهويّة الوطنيّة والكرامة القوميّة، والخلل في تمثيل الواقع، وخدش الحياء العامّ، مقابل خطاب الحرّيّات والحقوق، سِجالٌ تسقط منه هذه الأسئلة هو كذلك.

ألا ينبغي أن يندرج «الحقّ في التعليم» مثلًا، جودته والمساواة في إتاحته وظروفها، ضمن خطاب الحرّيّات والحقوق، وتحديدًا في مجتمعات يسود فيها الفقر وغلاء المعيشة، وتُعَدُّ الطبقيّة من اللّاعبين المركزيّين في هَنْدَسَتِها، وما يترتّب على ذلك من ديناميكيّات ورسم مواقع وتحديد أدوار للأفراد والشرائح المجتمعيّة؟

ألا يتعارض مبدأ «فصل الذكور عن الإناث في المدارس» مع المنطلقات النسويّة واللّيبراليّة، وأيضًا مع التوجّهات التربويّة الحديثة المستندة إلى سلسلة من الدراسات العلميّة في مختلف مجتمعات العالم؟

ألا يتعارض مبدأ «فصل الذكور عن الإناث في المدارس» مع المنطلقات النسويّة واللّيبراليّة، وأيضًا مع التوجّهات التربويّة الحديثة المستندة إلى سلسلة من الدراسات العلميّة في مختلف مجتمعات العالم؟ جاء في مقالة للباحث جاد قعدان حول هذه المسألة، وتحديدًا في ما يرتبط بظاهرة التنمّر: "الأطفال الذكور الّذين قضوا وقتًا كبيرًا مع الجنس نفسه أصبحوا عدوانيّين أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبعضهم كان عرضةً لمشاكل سلوكيّة صعبة. إضافةً إلى ذلك، وجدت دراسة أخرى ارتفاعًا في نسبة المضايقات والاستئساد في المدارس المفصولة. يدّعي الباحثون أن وجود الجنس الآخر هو بمثابة عامل مهدّئ يقلّل من العنف والمضايقات في المدرسة".

وجاء في مقالة قعدان أيضًا: "تشير دراسات عدّة إلى أنّ التلاميذ والتلميذات الّذين يكتسبون الصراحة في الحديث عن أجسامهم والتغييرات البيولوجيّة الّتي تطرأ عليها في مراهقتهم، هم أقلّ عرضةً للعلاقات الجنسيّة والحمل المبكرين، وهي دلائل ينبغي أن تشجّع مدارسنا ومؤسّساتنا التربويّة على تكثيف مشاريع التثقيف الجنسيّ وتسريع عمليّة شرعنة الحديث عنه بشكل صريح، بعيدًا عن الخجل والخوف والارتباك، وبشكل علميّ ومهنيّ".

صحيح أنّه ليس من واجب عمل فنّيّ ما، ولا من مسؤوليّاته الخوض في كلّ هذا، وصحيح أنّ مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» ممتع ومتقن فنّيًّا، إلّا أنّه أراد الدخول، محايدًا، منطقة نقد اجتماعيّ، وتناول حشد من الظواهر والقضايا، دون التطرّق للبنى التحتيّة المركزيّة المولّدة لها.

يبدو أنّ هذه المنطقة مريحة لكلّ أطراف «السِّجال المجتمعيّ» في حالتنا المُتَناوَلَة، وهي تمثّل أرض حيادٍ يقفون عليها جميعًا؛ لذلك ربّما أعفوا أنفسهم من السؤال عمّا جاء أعلاه: الصانع الفنّيّ للمسلسل، والمُساجِل المحافِظ الرافض له، وكذلك المُساجِل العلمانيّ- الليبراليّ المدافع عنه، حيث تلتقي «الطبقيّة» مع «المحافظة» مع «العَلْمَنَة- اللّبرَلَة»، ليغدو السِّجال أصلًا فَضْلَةً لا عُمْدَةً يمكن الاتّكاء عليه بصفته «تنشيطًا حَضَرِيًّا/ عُمْرانيًّا».

 

 


علي مواسي

 

 

شاعر وكاتب. يعمل محرّرًا لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس اللغة العربيّة وآدابها. ينشط في عدد من الأطر والمبادرات الثقافيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (الأهليّة، 2016)، وكتاب من تحريره بعنوان "الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48" (مدار، 2018).