سياسةٌ بطعم المهاهاة والزّجل

استقبال الأسرى الفلسطينيّين في غزّة بالأغاني

لم تغفل الأغنية الشّعبيّة أيّ جانب من جوانب العيش الرّيفيّ، كما أنّها خاطبت الأحداث والمتغيّرات السّياسيّة حتّى خارج نطاق القرية بتفاصيل حياتها البسيطة، لذا تعدّ الأغنية الشّعبيّة أحد أهمّ الرّوافد في صياغة التّاريخ الفلسطينيّ؛ بمسمّيات الأشخاص والأماكن والأحداث الّتي توظّفها.

اختلف الّلحن من قرية لأخرى، ومن منطقة لمنطقة ثانية، كما أنّ المضامين والكلمات الّتي ترتّبت عليها أغنية ما، تغيّرت تبعًا لتغيّرات تكنولوجيّة واقتصاديّة، فمرّة كانت الفلّاحة تغنّي للفرس الّتي ستقلّ العروس لبيت زوجها الجديد، وفي مرحلة لاحقة اسْتُبْدِلَت الفرس 'بالتّاكسي'.

سيُعنى المقال بتناول أغانٍ من فترات ومحطّات تاريخيّة مختلفة في تاريخ الشّعب الفلسطينيّ، منها ما كان على أرضه وآخر خارجها، والّتي كان من الطّبيعيّ توثيقها في الأغنية الشّعبيّة، إذ شغلت حيّزًا كبيرًا من حياة النّاس، لذا فهي تعدّ وثيقةً تاريخيّة اجتماعيّة، يمكن من خلالها الوقوف على طبيعة حياة وطريقة تفكير مؤلّفيها، لا سيّما الفلّاحون.

أغنية الثّورة

ومع بساطة العيش، إلّا أنّ الفلّاح وسرّه الّذي اكتنزه في أرضه كان أوّل الحاضرين في ساحات الثّورة والمعارك ضدّ الاستعمار على أشكاله، فهو الأدرى بأرضه، والخسارة له ستكون مضاعفة، اقتصاديًّا ومعنويًّا. لذا فإنّ قيادات الثّورة عام 1936 كانت في غالبيّتها من أبناء القرى، وعليه، فإنّ الأغنية الرّيفيّة كانت هي أيضًا في الطّليعة، ومن أهمّ مميّزاتها الّتي جعلتها تُحْفَظُ وتُرَدَّدُ على كلّ لسان، سهولة الّلحن وبساطة الكلام، والّذي في الوقت ذاته، يعبّر عن النّاس ويخاطب الجماهير كافّة.

ولم يستغن الثّائر عن صوت المرأة الشّجيّ، وهو الّذي كانت تحفزّه الكلمة واللّحن و'الزّلغوطة'؛ إذ تقول كلمات المحوربة، والّتي قيلت في أحداث ثورة 1936:

صَبايا طُلّي من الشّبّاتْشْ

طُلّي وشوفي فْعالِنا

وِانْتِنْ غَواتْشِنْ شَعَرْتْشِنْ

وِاحْنا غَوانا سْلاحِنا

باروداتي حَبّوباتي

يِحْلالي طَكْعْ زْنادِها

وِانْ ما كَتَلْناكْ يَالْعَدو

يِحْرَمْ عَلَيِّ احْنِيِّها

فكانت تُقال المهاهاة ردًّا على ذلك:

اسْمَ الله عَليكُمْ شَبابٍ مْلاحْ

تِتْباروا بِالْمَعارِكْ بْعُقْدِ رْماحْ

وِيشْ تُطُلْبوا عَالْعَشا يا عْيوني

صيصانْ مَقْلِيِّة بْزيتْ طْفاحْ

ويجدر الإشارة إلى أنّ هذه المهاهاة لم تُحْصَر في هذه المناسبة، إذ أنّها لا زالت تقال في الأعراس، وذلك للفخر بشباب العائلة وفتوّتهم.

ونلاحظ تعابير القتال والسّلاح في الأغنية الشّعبيّة، بل إنّ أغاني الأعراس وطقوسها اليوم، والّتي تمتدّ عادةً لأكثر من أسبوع، لا تبخل في توظيف هذه التّعابير، مثال ذلك:

مِنْ دَقّ عَ البابْ كِنْ رَنِّ بْخَنْجَرُه

وِافْتَحي يا مِرْيَمِ الْعَريسِ وْعَسْكَرُه

مِنْ دَقّ عَ الْبابْ كِنْ رَنِّ بْسيفُه

وِافْتَحي يا مِرْيَمْ الْعَريسْ مَعْ ظيفُه

وقد كانت تغنّى هذه الأغنية في استقبال العريس في الزّفة، أو الزّيانة، كما تُسمّى في بعض مناطق فلسطين، وتحديدًا شمالها. وعند الوصول لبيت والد العروس كانت النّساء تغنّي:

وْشو طَلَبْ بَيِّكْ تَنْأَدّي قولُه

طَلَبْ ميتينْ بَرودِة وِالْفَرِدْ مَعْ طولُه

وْشو طَلَبْ بَيِّكْ عَروسْ يا مْليحَة

طَلَبْ ميتينْ بَرودِة لَغَزِّة وْأَريحا

والسّلاح للقتال، لكن الأهمّ من ذلك للعربيّ، قديمًا وحديثًا، أنّه من رموز الكرم والشّجاعة، فدائمًا كان السّلاح حاضرًا للدّلالة على أنّ الضّيف في حماية المضيف، أو كما يستعمل في المحكيّة الفلسطينيّة: المعزّب، وأنّ كلّ ما يقدّمه المضيف لضيفه هو جود وكرم وبذل من دون خوف. 

ومع حلول النّكبات والنّكسات، نجد هذه التّعابير تحضر بقوّة أكبر، فهي تخدم أكثر من معنى تلائم السّياق، مثل الكرم والمقاومة والبسالة وغيرها…

ما بين النّكبة والنّكسة

ثمّة فترات لم تصلنا منها أغانٍ تراثيّة كثيرة، وذلك لأنّها كانت ضاجّة بالمتغيّرات والأحداث السّريعة، وعليه لم يكن هناك وقت كثير لنظم الأغاني والخوض بها وحفظها وتناقلها، مع وجود استثناءات.

بعد نكبة 1948 وتهجير الفلسطينيّين، والإبقاء على قسم قليل منهم ضمن أراضي 48، شعر الفلسطينيّ هناك أنّه منفيّ في وطنه، وأنّ الامتداد الجغرافيّ مع محيطه العربيّ ولّى وأزل، لذا كانت محاولات التّسلّل لمناطق الضّفة الّتي كانت تحت سيطرة الجيش الأردنيّ كثيرة. عادة، كان يُقبض على المتسلّلين ويعتقلون في السّجون الأردنيّة، أو يسلّمون للسّلطات الإسرائيليّة، وعند عودة المحتجز إلى بلده وأهله، كانت تردّد الأغنية التّالية:

تَعوا* عِنْدي وْهَنّوني يا كُلّْ أَهْلي

رَوَّحْ قَنْديلْ الْعيلِة مِنْ سِجْنِ الرَّمْلِة

تَعوا عِنْدي وْهَنّوني بْشالْ وْحَطّة

رَوَّحْ قَنْديلْ الْعيلِة بَقى بْشَطَّة**

تَعوا عِنْدي وْهَنّوني يا كُلِّ النّاسِ

رَوَّحْ قَنْديلْ الْعيلِة بْظَرْبِ الرَّصاصِ

[* تّعوا: تعالوا. ** شَطَّة: اسم أحد السّجون الإسرائيليّة في فلسطين].

في هذه الفترة أيضًا لا ننسى أنّ جزءًا مهمًّا من الحسّ الجماهيريّ، لا سيّما بعد النّكبة، يرتبط بشخص الزّعيم الرّاحل جمال عبد النّاصر، فكُتِبَتْ له القصائد وحُوِّلَتْ كلمات بعض الأغاني للتّعبير عن الفخر به وتأييده. فمن مآثر السّتّ بدريّة يونس، وهي سيّدة ضريرة من قرية عرعرة، وسط فلسطين، وكانت أكثر النّساء حفظًا، بل ونظمًا، للأغاني والقصائد الشّعبيّة، من مآثرها:

وِالدِّنْيا تْلالي / مِنْ قِبْلِة وِشْمالي / وِالْعالَمْ يِهْتِفْلَكْ / يا جَمالْ يا غالي

مَصِرْ وِالْجَزائِرْ / تِهْتِفْ عَبْدِ النّاصِرْ / رَدِّ الْعَدو خاسِرْ / بَنى السَّدِّ الْعالي

مْلوكْ الْهِنْدِيِّة / بَعْثَتْلُه بَرْقِيِّة / يا نِهْرو تْمَنّالُه / وَدّالُه تَحِيِّة

وْأَجوا اسْرائيلِيِّة / تا يِسْحَبوا الْمَيِّة /  شَبابِكْ سورِيَّة / رَدَّتْهُمْ طَوّالي

يا روسْيا طاعَتْلُه /  وْطَيّاراتْ بَعْثَتْلُه /  بِالصّاروخْ رَسْمَتْلُه /  يا جَمالِ الْغالي

بْسيفَكْ ضَرَبْنا /  وِبْجيشَكْ حارَبْنا /  يا مْحَرِّرْ عَرَبْنا / مِنْ قِبْلِة وِشْمالي

وِالْعالَمْ جَمَعْها /  وْسُمْعِتْنا رَفَعْها / وِالْعِدا أَخْضَعْها /  وْحَقَّقِ الْأَمالي

 الأغنية الفدائيّة

بعد هزيمة عام 1967 واستقرار الموجة الثّانية من الّلاجئين الفلسطينيّين بدول ومخيّمات اللّجوء، وفلسطيني أراضي 48 في بلداتهم، ومع تصاعد المقاومة الفلسطينيّة إثر تأسيس منظّمة التّحرير، بدأت ذاكرة الفلسطينيّ البسيط وأمله بالعودة إلى أرضه يستعيدان الرّوح، فكانت كلّ المناسبات تعجّ بالأغاني الّتي تحفّز الفدائيّين والجيوش العربيّة الّتي احتلّت إسرائيل أراضيها على المقاومة والتّحرير:

عَ الميدانْ يا فِدائي عَ الميدانْ

وَالله عانْ اللّي حَرّروا الْجولانْ

عَ غَزِّة يا فِدائي عَ غَزِّة

وْنِرْكَبْ خيلْ وما نِرْضى بِالْمَذَلِّة

وِبْعَياقَة الْجيشِ السّوري بْعَياقَة

وَالله عانْ اللّي حَرّروا باقَة

 مِصْطَفّي الْجيشِ السّوري مِصْطَفّي

وَالله عانْ اللّي حَرّروا الضّفِّة

وْعَالْأَقْصى يا فِدائي عَالْأَقْصى

وَالله عانْ اللّي حَرَّروا الصَّخْرَة

ومن المحطّات التّاريخيّة الّتي تأثّر العالم كلّه بها، الثّورة الإيرانيّة، أو ثورة الخميني، وقد تأثّرت الجماهير العربيّة، ومن ضمنها الفلسطينيّة، بهذه الثّورة، على أكثر من صعيد، وظهر هذا التّأثّر حتّى في بعض تفاصيل الحياة اليوميّة والبسيطة. من سمات ذلك التّأثّر مثلًا، أنّ الّلون الأسود، والّذي كان رمزًا للحداد، أصبح لون كلّ المناسبات، وذلك لأنّ الفلسطينيّات تيمّنّ باللّباس النّسائيّ الإيرانيّ، لا سيّما الأجيال الشّابّة، ما لاقى استهجانًا كبيرًا لدى النّساء المتقدّمات في السّنّ. وقد انسحب تأثير الثّورة الإيرانيّة على الأغاني أيضًا، لذا نجد أنّ الأغنية الأخيرة: 'يا فدائي عَ الميدانْ'، اسْتُبْدِلَتْ فيها كلمة فدائي بكلمة خميني خلال سنوات الثّورة الأولى.

ربّما رأت الفلسطينيّة في حينه أنّ الثّورة الإيرانيّة مشروع تحرّريّ سيعيدها لوطنها ويعيد وطنها إليها، وسيسرّع من استعادة حكم العرب والمسلمين لفلسطين.

حاولت في هذه المقالة أن أعرض أغانيَ تصوّر المعرفة والثّقافة السّياسيّة لدى الفلسطينيّين على المستوى الشّعبيّ، من خلال الأغنية الشّعبيّة الشّفويّة، وقد اخترت نماذج من فترات ومحطّات تاريخيّة مختلفة، جاءت متنوّعة في شكلها، فالغناء الشّعبيّ كما يظهر أعلاه مقسّم لعدّة أقسام، مثل الأغنية والمهاهاة وأنواع الزّجل، كالمحوربة وغيرها.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأغنية الشّعبيّة لا زالت تتغيّر وتتبدّل، خاضعة في كثير من الأحيان لعوامل الحداثة، فلا زال الفلسطينيّ، وتحديدًا المرأة، يصدح بكلمات جديدة تلائم روح الحدث، يرفقها بلحن معروف ومعهود، وكلّ أغنية هي خلجات نفسه وحلم متجدّد بحقّ العودة وإنهاء الاحتلال.