خياراتنا الموسيقيّة... أكثر من مجرّد كبسة زرّ

 

أسّست السيميائيّة الاجتماعيّة لمرحلة جديدة في البحوث الاجتماعيّة؛ إذ ابتدأت من افتراض مركزيّ أنّ كلّ محتوًى أو مضمون وخطاب صالح لأن يكون نصًّا اجتماعيًّا، وهو قابل لأن يُتناوَل بالعديد من أدوات التحليل. لا يتعلّق الأمر بالمحتويات المكتوبة أو المرئيّة حصرًا؛ إذ وصل هذا التوجّه النظريّ إلى إمكانيّة دراسة أيّ من عمليّات التبادل الرمزيّ أو اللغويّ في الفضاء العامّ.

وفقًا لذلك، يصحّ القول إنّ الموسيقى وعمليّة تبادلها، إنتاجًا وتداولًا واستهلاكًا، عمليّة تعبّر عن دلالات اجتماعيّة وسياسيّة، وهي دلالات مترابطة بالمعاني الّتي يعطيها الأفراد لهذا النوع من النصوص.

 إنّ الموسيقى وعمليّة تبادلها، إنتاجًا وتداولًا واستهلاكًا، عمليّة تعبّر عن دلالات اجتماعيّة وسياسيّة، وهي دلالات مترابطة بالمعاني الّتي يعطيها الأفراد لهذا النوع من النصوص...

ثمّة مستويان يُقتَرَحان عمومًا للتحليل، عندما يكون الحديث عن الموسيقى؛ المستوى الأوّل هو القيم والأفكار الّتي تتضمّنها النصوص الموسيقيّة أو الأغاني، بمعنى إلى ماذا ترمي؟ وعلى ماذا تحرّض؟ أمّا المستوى الثاني فيرتبط بأنماط الموسيقى الّتي يستمع إليها الناس، وما الّذي تمثّله هذه الأنماط في تخيّلاتهم العامّة، وما الصورة الّتي يعبّر عنها استهلاك أنواع معيّنة من الموسيقى في الفضاء العامّ؛ أي بالأحرى فهم السياقات المختلفة وشبكات العلاقات الّتي تحيط في عمليّة الإنتاج الفنّيّ.

 

الموسيقى وعلاقات القوّة

سعى عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو إلى تسليط الضوء على الدور الفاعل لنشوء الفنّ، أو بالأحرى فهم التحوّلات في تعريف العمل الفنّيّ، من خلال التركيز على نشوء المؤسّسة الفنّيّة. يرى بورديو أنّ نشوء المؤسّسة الفنّيّة أنتج معه تعريفًا للعمل الفنّيّ، يعتمد على شبكة من علاقات القوّة داخل الحقل الفنّيّ؛ إذ يقترن تاريخ المؤسّسات الفنّيّة بتاريخ الاستهلاك الّذي عزّزه إنتاجها الفاعل بتشكيل نوعيّة المستهلكين أو بالتحديد تشكيل ذائقتهم الفنّيّة[1].

بناءً على ما تقدّم، فإنّ فهم الفنّ أو الموسيقى عمليّة مركّبة، لا يمكن فصلها عن علاقات القوّة داخل الحقل الفنّيّ نفسه، وبالتالي فإنّ وظيفة عالم الاجتماع، كما يرى بورديو مرّة أخرى، فهم هذه الإنتاجات الفنّيّة باعتبارها مطلّة على سياقها السياسيّ والاجتماعيّ.

إنّ فعل الموسيقى يؤسّس في المكان الّذي يُحْدِث فيه مجموعة من العلاقات، وفي تلك العلاقات يكمن معنى الفعل؛ وبالتالي فإنّ ما يجب العثور عليه في معنى الموسيقى لا يتحقّق فقط من خلال تلك الأصوات المنظّمة، الّتي يُعْتَقَد تقليديًّا أنّها موادّ ذات معنًى موسيقيّ، لكن أيضًا في مكان عرض هذه الأصوات وفي سياقاتها المختلفة[2].

بهذا يمكن القول إنّ الدلالات الّتي يتضمّنها عرض قطعة موسيقيّة ما، في مكان ما، وفي سياق محدّد، لا تختلف فحسب عن الدلالات الّتي يكتسبها عرض القطعة الموسيقيّة نفسها، في سياق سياسيّ/ مكانيّ/ تاريخيّ آخر، وإنّما قد يصحّ القول، استنادًا إلى بعض المرجعيّات النظريّة، إنّ العمليّة الفنّيّة نفسها (العرض، التلقّي) تكتسب معنًى مختلفًا بالكامل، ومزايا جديدة، وفق المكان والسياق.

إنّ جزءًا من انتشار ظاهرة عسّاف لا تتعلّق في المحتوى الموسيقيّ نفسه، وإنّما في السياق الّذي عُرِضَتْ فيه...

على سبيل المثال، فإنّ ظاهرة المغنّي الفلسطينيّ محمّد عسّاف، بحسب أباهر السقّا، يمكن فهمها ضمن هذه المقاربة؛ إذ لم تكن الدلالات المترتّبة على غناء عسّاف في غزّة هي نفسها الدلالات المترتّبة على غنائه في قناة معولمة وإشهاريّة ودعائيّة كقناة الـ MBC؛[3]؛ لذلك فإنّ جزءًا من انتشار ظاهرة عسّاف لا تتعلّق في المحتوى الموسيقيّ نفسه، وإنّما في السياق الّذي عُرِضَتْ فيه هذه الموسيقى.

 

الذائقة بوصفها موقعًا «طبقيًّا»

إنّ السؤال الشاغل لمعظم علوم الجمال وفلسفاته هو ما الّذي يجعل «الجميل جميلًا»، بمعنى محاولة فهم الذائقة الجماليّة بكونها لصيقة بسياقاتها الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا يمكن التعامل معها بكونها مفهومًا «فوق تاريخيّ»، وإنّما بكونها مرتبطة بذاتيّة المجتمعات وظروفها وتطلّعاتها.

في سياق الفنّ، فإنّ عمليّة إنتاج هذه التباينات الجماليّة واستهلاكها يمكن فهمها في سياق رأسمال اجتماعيّ وثقافيّ، كما يرى بورديو؛ إذ إنّ الفئات الاجتماعيّة تعبّر عن هويّاتها وتميّزها من خلال استهلاك أنواع معيّنة من الفنّ[4]. فعلى سبيل المثال، استهلاك أنماط معيّنة من الفنّ يعبّر عن موقع المستهلك، ويعبّر عن وجود رأسمال اجتماعيّ وثقافيّ، ويعزّز التفاوتات داخل المجتمع، وهنا يحلّل بورديو الموسيقى باعتبارها حقلًا لتمثيل التمايزات الاجتماعيّة؛ وهو ما يعني أنّ خيارات الناس الموسيقيّة يمكن التعامل معها باعتبارها نصًّا قابلًا للتحليل، ومليئًا بالدلالات، خاصّةً عندما يكون التعبير عن هذه الخيارات في الفضاء العامّ.

إذن، يرى بورديو أنّ استهلاك الموسيقى أصبح موضوعًا للتراتب الاجتماعيّ؛ بما يعني أنّ استهلاك أنماط موسيقيّة يصطلح عليها بأنّها ذات ذوق رفيع، يرتبط بطبقات اجتماعيّة محدّدة؛ لذلك، فإنّ الناس يعبّرون عن خلفيّاتهم الاجتماعيّة ومواقعهم الطبقيّة، من خلال استهلاك أنماط موسيقى معيّنة.

من هنا تأتي أهمّيّة تحليل استهلاك الموسيقى؛ باعتبارها خيارًا خاصًّا يتمثّل في تعبيرات عديدة داخل الفضاء العامّ، وهو بالتالي مزيج مركّب ومتداخل بين الذاتيّ والاجتماعيّ. هذا المزيج بالتحديد، يعبّر عنه بورديو بمفهوم الهابتوس[5]، وبالتالي فإنّ عمليّة فهم موقع الأفراد، من خلال ملاحقة أذواقهم، أقدر على التعبير من فهمها من مواقفهم وآرائهم المعلنة؛ ذلك لأنّ الذائقة هي الجزء المستتر من الرأي المعلن، كما وصفها لاروشفوكو[6].

إنّ عمليّة فهم موقع الأفراد، من خلال ملاحقة أذواقهم، أقدر على التعبير من فهمها من مواقفهم وآرائهم المعلنة؛ ذلك لأنّ الذائقة هي الجزء المستتر من الرأي المعلن...

إنّ الخيارات الموسيقيّة للأفراد، لا يمكن التعامل معها بكونها خيارات مجرّدة من سياقها الاجتماعيّ والسياسيّ، وإنّما قد تعبّر، بالإضافة ذائقة الأفراد تجاه أنماط محدّدة من الموسيقى، وطريقة استعراضها في الفضاء العامّ، عن شبكة واسعة ومركّبة من علاقات القوّة؛ ليصبح استهلاك أنماط معيّنة من الموسيقى تعبيرًا واضحًا عن موقع المستهلك أو المتلقّي من الشرائح الاجتماعيّة المختلفة؛ فتصبح عمليّة إنتاج واستهلاك الموسيقى حقلًا جديدًا لإنتاج التمايز الاجتماعيّ داخل أيّ مجتمع.

 


إحالات

[1] بيير بورديو، قواعد الفنّ (1998)، ترجمة إبراهيم فتحي (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2013)، ص 388.

[2] Rischar, Richard. "Christopher Small. Musicking: The Meanings of Performing and Listening. Hanover and London: Wesleyan University Press, 1998," (2003): 161-165.‏

[3]  أباهر السقا، "التمثّلات الجديدة في المجتمع الفلسطينيّ: التخبّط التمثيليّ والمعيارات الجديدة: ظاهرة محمّد عسّاف"، مجلّة إضافات، العدد 35 (2016).

[4]  بيير بورديو، «الذوق الفنّيّ ورأس المال الثقافيّ»، في: غبش المرايا: فصول في الثقافة والنظريّة الثقافيّة، ترجمة وإعداد وتقديم: خالدة حامد (ميلانو/ بغداد: منشورات المتوسّط، 2016)، ص 125-134.

[5]  بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، ترجمة: هناء صبحي (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2012)، ص 250-273.

[6]  فرانسوا دو لاروشفوكو، حكم وأفكار: توقيعات، ترجمة: محمّد علي اليوسفي (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2017)، ص 148-149.

 


 

نور الدين أعرج

 

 

 

خرّيج علم اجتماع من «جامعة بير زيت»، وطالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة في الجامعة نفسها.