موسيقى المزراحيّين... خلل في الصهر الإسرائيليّ (2/2)

’Cafe Noah‘ الإسرائليّ في خمسينات القرن الماضي | Israel Film Archive

 

تهدف هذه المقالة في جزئها الثاني، إلى قراءة الموسيقى من منظور إثنيّ، أو ما يُسَمّى بالإثنيّة الموسيقيّة (Ethno-musical) من خلال علاقتها بمجتمع المهاجرين، وكيف تحوّلت إلى أداة من أدوات التحديد الإثنيّ، وفرضه بين اليهود الشرقيّين والغربيّين، ومدى تأثّر المزراحيّين بمحاولات الإدماج من قِبَل الأشكناز. كما تدّعي أنّ إسرائيل الرسميّة لم تتمكّن من تشكيل موسيقى تميّزها يمكن وصفها بأنّها ’موسيقى إسرائيليّة‘؛ لأنّها لم تأخذ الموسيقى المزراحيّة بعين الاعتبار، ولم تنظر إليها جزءًا أساسيًّا من هويّة اليهوديّ الجديد، ولم تمنح الأوطان الّتي هاجرت منه قيمة ثقافيّة. كما أظهرت مراجعة الأدبيّات أنّ منظورها إلى ذاتها دولةً قيد التكوين ترغب في أن تكون إسرائيليّة ’خالصة‘، لا شرقيّة ولا أوروبّيّة تمامًا، ساهم في فرض نوعيّة معيّنة من الأدائيّة الإثنيّة الموسيقيّة على الشعب الإسرائيليّ المصنوع عبر مؤسّسات وسياسات الدولة المُعْلَن عن إنشائها عام 1948، نتيجةً لنكبة الشعب الفلسطينيّ.

 

صعود الموسيقى المزراحيّة

يرى هورويتا[1] أنّ الموسيقى الإسرائيليّة المتوسّطيّة مثل جميع الأشكال الثقافيّة الهجينة، عمليّة مقصودة يجمع فيها الفنّانون الشرقيّون بين الذكريات والابتكارات في الحياة اليوميّة العاطفيّة والاجتماعيّة؛ فالتهجين أكثر من مجرّد نسل ثقافيّ يستنسخ بطريقة أو بأخرى الأشكال الأصليّة، بل يرتبط بممارسة معقّدة تصل بين الإثنيّة والعرقيّة والأبعاد العاطفيّة والاجتماعيّة؛ إذ أنشأها الموسيقيّون لصياغة سبل العيش، وتعزيز الهويّة الثقافيّة. على سبيل المثال، عوفر ليفي جسّد هذه الديناميكيّات مجتمعة؛ بإعلان نفسه عراقيًّا، وتركيًّا، وسوريًّا، وإسرائيليًّا، يمثّل الحدود بين الانجذاب الإثنيّ والولاء القوميّ الإسرائيليّ.

ثمّة العديد من المغنّين الشرقيّين الّذين صعدوا بعد الهجرة، مثل جو عمار وفلفل المصريّ، إلّا أنّ أوّل يهوديّ عراقيّ مهمّ هو الموسيقار عِزْرا أَهَرون[2]، الّذي وصل فلسطين في عام 1934، ورغم تبنّيه الأسلوب المصريّ الحديث في العراق، إلّا أنّه اتّجه في فلسطين إلى تكوين الأغاني العبريّة وإقامة الحفلات باللغتين، كما عُرِف باسم «أمير الأغنية الشرقيّة العبريّة»، وزعيم فرقة «نجوم الشرق».

التهجين أكثر من مجرّد نسل ثقافيّ يستنسخ بطريقة أو بأخرى الأشكال الأصليّة، بل يرتبط بممارسة معقّدة تصل بين الإثنيّة والعرقيّة والأبعاد العاطفيّة والاجتماعيّة...

عكست بعض الأغاني ثقافة الاحتجاج مثل أغنية إيلي لوزون «يا لها من دولة!» (Eizo Medina). بشكل عامّ، كرّست هذه الموسيقى الشرقيّة نفسها لإسماع صوت الهامش؛ فهي تعبّر عن مشاعرهم المتناقضة، والحاجة إلى الهويّة، والتمسّك بالانتماء الإثنيّ، لذا؛ حاول اليهود الشرقيّون الحفاظ على موسيقاهم بطريقتين: أوّلًا، شَكْنَزَة الأغنية الشرقيّة في سبيل الاندماج والحفاظ على الصوت الشرقيّ[3]. مثلًا، الموسيقيّون البغداديّون كانوا يُعْتبَرون مواطنين من الطبقة الثانية، ورتبتهم المنخفضة لم تسمح لهم أن يُؤْخَذوا بصفتهم كيانات اجتماعيّة تستحقّ أن يُتَفاعَل معها إسرائيليًّا. ولكنّ غربتهم ساهمت في إثراء ثقافتهم إلى جانب استيعابهم للموسيقى الأجنبيّة، والانفتاح على تقاليدها[4] من خلال الاتّصال بمغنّييها مثل صلاح الكويتيّ الملحّن، الّذي درس أمّ كلثوم، وتعلّم المقام اللاميّ من محمّد عبد الوهّاب.

تُعْتَبَر عوفرا هزا (Ofra Hza) مثالًا ممتازًا على الموسيقى المزراحيّة الشعبيّة[5]، وهي فتاة من عائلة يهوديّة يمنيّة سكنت حيًّا فقيرًا في تل أبيب، وحاولت في تسجيلاتها المبكّرة الابتعاد عن ثقافتها، والهرب من تجربة الاستشراق، حيث مثّلت إسرائيل في «مسابقة الأغنية الأوروبّيّة» عام 1983، وحصلت على المرتبة الثانية بأغنية «حيّ» الّتي تتناول ما تعتبره الحياة الأبديّة للشعب اليهوديّ. وتعمّقت أكثر في ’موسيقى الجذور‘، وسجّلت في 1983-1985-1987 ثلاثة تسجيلات سُمِّيَت «أغاني الوطن» (Shiri Moledet). أضافت التسجيلات إليها وصف فنّانةً وطنيّة جمعت بين الجانب الأيديولوجيّ من الانصهار بين الشرق والغرب، والتقليد والتحديث، وأقدم الأجيال وأصغرها. وانضمّت إلى المطربات من الأصل اليمنيّ مثل بارخا زيفيرا (Barcha Zefira) وسوشانا داماري (Soshana Damari).

كان الشرقيّون يستخدمون موسيقاهم بعد الهجرة في الاحتفالات الاجتماعيّة، خاصّة القانون والعود في حفلات الزفاف، وأصبح المغنّون اليمنيّون يتقنون الأغاني الشعبيّة العراقيّة والكرديّة، وقد ألهمهم اختلاط الأساليب في إنشاء تركيبات عرقيّة جديدة مثل النمط الكنتوريّ الليتورجيّ المقدسيّ. مع ذلك، واجه المهاجرون ما يُسَمّى ’موسيقى أرض إسرائيل‘ ذات الأصول الأوروبّيّة[6]، الّتي تميّزت كما أسلفنا بالهيكل الغربيّ، وروح أوروبّا الشرقيّة، مع إيقاعات مختارة من الشرق الأوسط. ورغم استخدام النغمات الأوروبّيّة الشرقيّة، إلّا أنّهم استخدموا أيضًا الألحان اليمنيّة والبدويّة، وحتّى المحلّيّة الفلسطينيّة. هذا يدفع إلى التساؤل عن مدى إدماج الموسيقى الشرقيّة في بوتقة الصهر الإسرائيلية، كيف كان هذا الإدماج؟ وهل تحقَّق بشكل كامل آنذاك أم لا؟

خلقتْ فكرة إدماج المجتمعات المهاجرة إسرائيليًّا معضلة في ما يتعلّق بالثقافات الإثنيّة؛ إذ حاول الأشكناز إنكار الفنّ الشرقيّ وتجاهله، إلى جانب صورتهم النمطيّة عن الموسيقى العربيّة المتجذّرة في الخطاب المهيمن في إسرائيل؛ فالموسيقى العربيّة الّتي ابتكرها طوّرها[7] فريد الأطرش، وأمّ كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ومحمّد عبد الوهّاب، وغيرهم، كان إنتاجها من خلال مزيج متطوّر من الآلات الموسيقيّة العربيّة التقليديّة مثل العود والقانون، مع الآلات الغربيّة مثل الأوركسترات السيمفونيّة. لذا؛ فالرموز العربيّة الأصيلة صيغَت في حوار مع الموسيقى الغربيّة، وهذا الخطاب حول الموسيقى العربيّة كان مفقودًا لدى الإسرائيليّين وخطابهم الصهيونيّ تجاهها.

 

تأثير بوتقة الصهر والتثاقف[8] في الموسيقى المزراحيّة

واجه اليهود الشرقيّون صعوبة في التوفيق بين هويّتهم الوطنيّة والعاطفيّة؛ نتيجة عبورهم إلى سياق ثقافيّ مختلف، وكثيرًا ما طالب الأشكناز بإدماجهم في الثقافة الغربيّة من خلال بوتقة الصهر الصهيونيّة. لذلك؛ حافظت الموسيقى الإثنيّة على وجود مهزوم في المجتمعات المهاجرة[9]، كما كان للموسيقى دور عند كلٍّ من العلمانيّين اليهود والمسلمين؛ فالموسيقيّون العراقيّون أدّوا موسيقى عربيّة كلاسيكيّة وشبه كلاسيكيّة، وكان هناك مجتمعات مهاجرة أخرى حافظت على ممارسة موسيقيّة متفرّدة على الصعيد الدينيّ[10]، وكانت بمنزلة مقاومة لبوتقة الصهر بعد الهجرة مباشرة، كالإيرانيّين مثل برونو نيتل وأمانون شيلوه، باستخدامهما الموسيقى الفارسيّة الكلاسيكيّة. كذلك، كشف التواصل بين المهاجرين عبر الموسيقى العربيّة قدرتهم على الانفصال عن شوارع «رمات غان»، والعثور على أنفسهم في شوارع بغداد المتخيَّلة، الّتي ربّما لم تَعُدْ موجودة، فهذه الموسيقى بمنزلة إيحاء صوفيّ.

تشير التسجيلات إلى انعكاس مثير للاهتمام على التثاقف بين اليهود الشرقيّين والغربيّين، مثل استغلال الأشكناز للمطربين العراقيّين المشهورين مثل رشيد القندرجي وعبد الله فارس لتسجيل الأغاني العربيّة؛ لأنّهم يفضّلون الأغاني بأصواتهم على أصوات اليهود الغربيّين. مثلًا، لم يفرِّق رشيد القندرجي بين الجماعات الدينيّة، ولعلمه باللهجة العراقيّة كان المطرب المفضّل لليهود في حفلاتهم الخاصّة[11]. ويهود العراق في إسرائيل اليوم ينشدون مطربين عربًا عراقيّين؛ ممّا يدلّل على درجة عالية من التماهي مع العرب في ثقافتهم التعبيريّة.

على الرغم من رغبة العراقيّين في الانصهار، فهم وجمهورهم كانوا متحمّسين للهرب من تسمياتهم الضيّقة بالعراقيّة؛ من خلال احتضان الموسيقى السائدة، الّتي تربطهم بالمجتمع الشرقيّ العامّ...

من جهة أخرى، على الرغم من رغبة العراقيّين في الاندماج، فهم وجمهورهم كانوا متحمّسين للهرب من تسمياتهم الضيّقة بالعراقيّة؛ من خلال احتضان الموسيقى السائدة، الّتي تربطهم بالمجتمع الشرقيّ العامّ وتحقّق الهويّة الإسرائيليّة في آن. مثل «مهرجان السفارديم السنويّ الشرقيّ» (حَزانوت)، وهو نشيد دينيّ يمثّل تقاليد شرقيّة تعتمد على أسلوب مجانس لأوركسترا الراديو؛ فقد كانت الموسيقى السائدة القاسم المشترك أسلوبيًّا، وتضمّنت العناصر الأسلوبيّة الّتي تسهّل على موسيقيّي الأوركسترا استيعابها، مثل الزخرفة الصوتيّة العراقيّة أو الإيقاع المغربيّ، وبالتالي السماح للموسيقيّين بأداء موسيقى خاصّة بهم، من بلدان المنشأ مهما كانت مخفّفة وبسيطة.

إلّا أنّ بعضهم سعى إلى تذكير أبناء بلده الأصليّ بموسيقاهم قبل الهجرة، وقد استفادوا من الحنين إلى الماضي في صياغة الأغنية النوستالجيّة. لا يقتصر الضياع بين الحنين والاندماج على اليهود العراقيّين فحسب، فاليهود المغربيّون مثلًا كانوا يؤدّون الرقصة الجماعيّة الريفيّة الأمازيغيّة المعروفة باسم ’أواش‘ (Awash)، الّتي تتكوّن من العناصر الموسيقيّة والشعريّة والرقصيّة والسلوكيّة، كأن يرقص الرجال والنساء أثناء الغناء، معًا أو فرادى، أمام جمهور مختلط في الهواء الصيفيّ الطلق، عبر تسجيل صوتيّ موحَّد يمتاز بصخبه وارتفاعه. هذا الحفل إلى جانب غناء الرايات هما الحدثان الوحيدان من الأنشطة الثقافيّة الأمازيغيّة الّتي لا يزال يهود البربر يؤدّونها في إسرائيل[12]؛ فالهجرة المغربيّة إلى إسرائيل بين عامي 1955-1963، أضافت إليها ثقافيًّا رغم فشلها في أن يُعْتَرَف بها حتّى اليوم، وعاشت الجاليات المغربيّة في إسرائيل وسط صراع كبير، بين الحاجة إلى الحفاظ على تفرّدها الثقافيّ التقليديّ من جهة، واستعدادها للاندماج في أسلوب الحياة الجديد في إسرائيل من جهة أخرى. كذلك الفلسطينيّون الّذين عانوا من المحو الإسرائيليّ لثقافتهم[13]؛ فقد فرضت الحكومة الإسرائيليّة رقابة عليها، وصادروا الشرائط والمنتجات الموسيقيّة للفنّانين، واعتبروا الشعراء والملحّنين إرهابيّين. ومن أبرز الفنّانين الفلسطينيّين الّذين جمعوا بين الموسيقى الشعبيّة العربيّة والبوب والروك الغربيّ مصطفى الكرد.

 

بين الاسيتعاب والانفصال

يجادل هيرشبيرغ[14] بأنّ الوضع الموسيقيّ الإسرائيليّ كان مقسَّمًا بين الاستيعاب والانفصال، والمحاولة الأولى لرصف الثقافتين كانت لدى المغنّية براشا زيفيرا، أوّل عازفة للأغنية العربيّة واليهوديّة من أصول يمنيّة. وهذا يقود إلى التساؤل عن طبيعة الأيديولوجيا الّتي حكمت الملحّنين الشرقيّين من الجيل الأوّل، ويمكن تقسيمها إلى  أقسام[15]:

أوّلًا؛ القوميّة الجماعيّة: شكّل ألكساندر بوسكوفيتش هذا النهج المبنيّ على إعجابه باللهجة اليمنيّة النقيّة، الّتي يمارسها مغنّون مثل زيفيرا وداماري، في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي؛ إذ رأى أنّه يجب على الموسيقى الشرق أوسطيّة أن تختلف عن موسيقى الشتات اليهوديّ، ويجب إدماجها في موسيقى شرق البحر الأبيض المتوسّط. ولأنّ الوجود اليهوديّ المتجدّد جزء لا يتجزّأ من الماضي التوراتيّ في المجتمع الاستعماريّ الناشئ، يجب تجنيد الملحّن للجماعة، ويجب تجنّب التعبير عن المشاعر الشخصيّة.

ثانيًا؛ القوميّة الفرديّة: قدّمها إريك ستيرنبرغ.

ثالثًا؛ القوميّة الشعبيّة: من تأسيس مارك لافري.

رابعًا؛ العالميّة: ظهرت بعد الإعلان عن إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، وتجديد الروابط مع الغرب. انضمّ مؤلّفو الجيل الثاني إلى الآباء المؤسّسين أوائل الخمسينات، كما تبنّى العديد من الملحّنين الإسرائيليّين النهج العالميّ، الّذي سيطر على الموسيقى الغربيّة في خمسينات القرن الماضي.

كانت الاتّجاهات الأيديولوجيّة الأربعة الموجّه الأساسيّ للآباء المؤسّسين للموسيقى الإسرائيليّة، بين عامَي 1930 و1960. مثلًا، أغاني الذاكرة لمايكل وولب، وكذلك تسيبي فلايشر الّتي حاولت تجسيد رؤية شرقيّة في أغانيها بناء على قصائد كتبها شعراء عرب كلاسيكيّون ومعاصرون، مثل جبرا إبراهيم جبرا. ويتّفق بينسكي[16] مع هذه الرؤية ببحثه الثقافيّ، في التفاعل بين العمليّات الاجتماعيّة الظاهرة على المشهد العرقيّ في إسرائيل وعمليّات التغيّر الموسيقيّ؛ فالمجتمعات المتعدّدة الإثنيّات تعيش اليوم تجربة معقّدة على المستوى التثاقفيّ، وصل حدّ الاستيعاب التامّ لدى المعظم. في الوقت نفسه، يرى أنّ ثمّة ثلاثة أنماط للذوق الموسيقيّ في إسرائيل: أوّلًا، الموسيقى التقليديّة للمجموعة المؤكِّدة فرادةَ الهويّة العرقيّة. ثانيًا، المزيج التقليديّ والحداثيّ المحتضن لجوانب ثقافيّة مختلفة. وثالثًا، تلاشي الذوق التقليديّ والتعلّق بأنماط موسيقيّة جديدة لا علاقة لها بالمرء عرقيًّا.

لذا؛ لا يمكن إنكار تأثّر الهويّات الذاتيّة بالهويّات الخارجيّة على المستوى الموسيقيّ، بحيث أصبحت الصورة الذاتيّة أكثر قدرة على استيعاب الهويّة الخارجيّة، وهذا حدث بخاصّة عند اليهود الشرقيّين، اليمنيّين تحديدًا؛ فكان المزيج بين الثقافة الإسرائيليّة العامّة والثقافة العرقيّة في مجال الموسيقى سبيلًا لتشكيل مفهوم الفنون الجميلة العرقيّة، في ما ظلّت الهويّة العرقيّة للملحّن متحفّظة من حيث أصلها الأسلوبيّ.

صحيح أنّ إسرائيل الرسميّة أبدت نوعًا من التقبّل للتنوّع الموسيقيّ الإثنيّ، مع ذلك لا يزال الموسيقيّون العراقيّون يواجهون صعوبة في قبول أعمالهم، دون التحوير على طابعها الإثنيّ الخاصّ؛ وبالتالي المسّ بهويّتهم الأصليّة.

 

خاتمة

يوجد إجماع واضح في الأدبيّات على وجود صراع إثنيّ في السياق الثقافيّ الموسيقيّ، علمًا أنّ هذا الصراع ليس استثناء، وقد كشفنا في الجزء الأوّل من هذه المقالة، أنّه ناتج عن صراعات كبيرة نقلته من الأطراف إلى البؤرة، ثمّ إنّه لا يتعلّق بإثنيّة مهاجرة واحدة، بل طال الإثنيّات بشقَّيها المهاجر والأصلانيّ الفلسطينيّ. والادّعاء الجوهريّ للمؤسّسة الصهيونيّة، الّتي هدفت إلى احتكار الموسيقى، رغبتها في خلق موسيقى إسرائيليّة خالصة، إلّا أنّ مساعيها تعرقلت في حبك هذا المشروع لطبيعة المجتمع الإسرائيليّ الاستعماريّ، الّذي شكّل موسيقى هجينة لا يمكن الجزم بأنّها تُعْتَبَر إسرائيليّة فعلًا.

الإدماج لم يغيّر من تعريف الموسيقى الّتي يقدّمونها؛ لأنّها أساسًا موسيقى ’هجينة‘، وهذا قد يكون سببًا من عدّة أسباب أدّت إلى تزايد الشروخ والصدوع بين المجموعات الصهيونيّة المهاجِرة الشرقيّة والغربيّة...

مع ذلك، قد لا تكون هذه النتيجة جديدة بحثيًّا، إلّا أنّها تؤكّد صحّة الادّعاء الأساسيّ لهذه المقالة البحثيّة، وتساعدنا على الوصول إلى نتائج جديدة؛ فالأصلنة الموسيقيّة المستحيلة لم تكن ظاهرة وقتذاك على أنّها مستحيلة، استخدمتها الثقافة الإسرائيليّة الغربيّة المهيمنة لإقناع المجموعات الشرقيّة بالاندماج، والتخلّي عن انتماءاها الإثنيّة، دون إيجاد بديل حقيقيّ متفرّد، لكنّ المجموعات الّتي قرّرت الاندماج - ولو نسبيًّا - لم تأخذ غياب البديل بعين الاعتبار إلّا بعد مرور فترة زمنيّة طويلة. من الواضح أنّ الإدماج لم يغيّر من تعريف الموسيقى الّتي يقدّمونها؛ لأنّها أساسًا موسيقى ’هجينة‘، وهذا يمكن تفسيره على أنّه سبب من عدّة أسباب أدّت إلى تزايد الشروخ والصدوع بين المجموعات اليهوديّة المهاجِرة، الشرقيّة والغربيّة.

يُنْظَر عادة إلى الاستشراق[17] على أنّه فرض بناء تمثيليّ، ومنح الثقافة المهيمنة الحقّ في تعريف الآخر وتمثيله. كانت هذه الجزئيّة واضحة على مرّ السنوات في إسرائيل، وتمثّلت في نظرتها الدونيّة النمطيّة إلى الشرق. ما يستحقّ أن يُناقَش، من وجهة نظري؛ استنادًا إلى مراجعة الأدبيّات والنتائج أعلاه، هو القيمة المضافة إلى الشرقيّ الّذي يتخلّى عن شرقيّته وهويّته، كالموسيقيّين مثلًا ومحاولات إدماجهم. هل أدّى هذا الإدماج إلى خلق موسيقى إسرائيليّة أصيلة؟ من الواضح أنّه عزّز عمليّة الشرذمة والتشتّت، لا العكس. كيف يمكن تعريف هذا التركيب المعقّد من الإدماج دون وجود مادّة للإدماج فيها؟ ما الّذي يعنيه للمؤسّسة الصهيونيّة والأشكناز وجود إثنيّات مُدْمَجَة في ما لا يمكن الإدماج فيه لأنّه غير موجود أصلًا؟ قد لا تكون مجرّد "هيمنة غير واعية بهيمنتها" كما لدى كمرلينج[18]، بل هيمنة غير واعية بنتائج هيمنتها وكأنّها هيمنة من أجل الهيمنة، دون وجود أفق بَعديّ[19] أو تصوّر ماورائيّ.

 


إحالات

[1] Horowitz, A. Israeli Mediterranean music: Straddling disputed territories. Journal of American Folklore, (1999), 112(445), p.p 450-463.

[2]   Warkov, E. Revitalization of Iraqi-Jewish instrumental traditions in Israel: The persistent centrality of an outsider tradition. Asian music, (1986), 17(2), p.p 9-31.

[3] على المستوى الأدبيّ مثلًا، ثمّة العديد من القصائد الّتي وثَّقت إنكار الموسيقى المزراحيّة ومحاولة إلغائها، كما كتب إيلي إلياهو في قصيدته «تحت الأرض»:

“Baghdad

Is Dead and no longer exists,

Only the music that my father

Heard in the nus stations of disgrace,

When he waited in Underground parking lots,

[4] Warkov, E. Revitalization of Iraqi-Jewish instrumental traditions in Israel: The persistent centrality of an outsider tradition. 

[5] Regev, M. Musica mizrakhit, Israeli rock and national culture in Israel1. Popular music, (1996). 15(3), p.p 275-284.

[6]  Horowitz, A. Israeli Mediterranean music: Straddling disputed territories.

[7]  يمكن النظر إلى دور الموسيقى في المقاومة خلال تلك الفترة التاريخيّة، خاصّة حرب 1967 الّتي تُرْجِمَت فيها الأغاني السياسيّة مثل «Your Jerusalme» (Lakh Y’ryshalayim) الّتي سعت إلى إحياء ما يُسَمّى ’ذكرى العودة‘ إلى البلدة القديمة في القدس، وعكست الهيمنة الأيديولوجيّة للصهيونيّة. وكذلك مقابلها الموسيقيّ العربيّ الفلسطينيّ عليها مثل أغاني فيروز. للاستزادة: Al-Taee, Nasser. "Voices of peace and the legacy of reconciliation: popular music, nationalism, and the quest for peace in the Middle East." Popular Music 21.1 (2002): 41-61.

[8] يُقْصَد بالتثاقف في هذا السياق: التكيّف الانتقائيّ مع الآخر بتحديد العناصر الأسلوبيّة للموسيقى الشرقيّة، دون تحديد العناصر الغربيّة في الموسيقى التقليديّة للجماعة. للاستزادة، انظر: Katz, Ruth. "The singing of Baqqashôt by Aleppo Jews. A study in musical acculturation." Acta Musicologica (1968), p.p 65-85.

[9] Shiloah, A., & Cohen, E. (1983). The dynamics of change in Jewish Oriental ethnic music in Israel. Ethnomusicology, (1983), 27(2), p.p 227-252.

[10] Bohlman, P. V., & Slobin, M. (1986). Music in the Ethnic Communities of Israel: Introduction. Asian music, (1986). p.p 1-8.

[11]  Warkov, E. Revitalization of Iraqi-Jewish instrumental traditions in Israel: The persistent centrality of an outsider tradition. 

[12] Elmedlaoui, M., & Azaryahu, S. The ‘‘Aḥwash’’Berber singing ceremony shift from Morocco to Israel: An ethno-musicological Approach. Études et documents berbères, (2014), 33(1), p.p 171-186.

[13] Al-Taee, N. Voices of peace and the legacy of reconciliation: popular music, nationalism, and the quest for peace in the Middle East. Popular Music, (2002), 21(1), p.p 41-61.

[14] Hirshberg, J. The Vision of the East and the Heritage of the West: Ideological Pressures in the Yishuv Period and their Offshoots in Israeli Art Music during the Recent Two Decades. (2005), Min-Ad, p. 4.

[15] للحصول على معلومات تفصيليّة عن هذه المناهج، انظر: Hirshberg, Jehoash. "The Vision of the East and the Heritage of the West: Ideological Pressures in the Yishuv Period and their Offshoots in Israeli Art Music during the Recent Two Decades." Min-Ad 4 (2005)

[16] Benski, T. Ethnicity and the shaping of musical taste patterns in an Israeli urban community. Social Forces, (1989), 67(3), 731-750.

[17]  يمكن النظر في السياق الموسيقيّ إلى: Saada-Ophir, Galit. "Mizrahi subaltern counterpoints: Sderot's alternative bands." Anthropological Quarterly (2007): 711-736.

[18] باروخ كمرلنغ. تأسيس دولة: الهيمنة وتقلّصها في المجتمع الإسرائيليّ مهاجرون مستعمرون مواليد البلد. ترجمة: هاني العبد الله (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2011).

[19] يمكن القول بأنّها ’هيمنة إيكاروسيّة‘ مستقاة من أسطورة إيكاروس ابن الحِرفيّ اليونانيّ ديداليوس الّذي شارك في إيجاد المينوتور؛ ما أدّى إلى أن غضب الملك منه، وقرّر حبسه في متاهة (تختلف نُسَخ القصّة من حيث التفاصيل). صنعَ ديداليوس أجنحة له ولابنه إيكاروس، ونصحه ألّا يطير عاليًا لكيلا يقترب من الشمس فيذوب الشمع الّذي صُنِعَت منه الأجنحة، وألّا ينخفض كثيرًا فيصل إلى البحر ويغرق. لكنّ إيكاروس نسي نصيحة والده ووصل إلى الشمس فذابت الأجنحة، وسقط في البحر فغرق قرب جزيرة إيكاريا، الّتي سُمِّيَت بهذا الاسم نسبة إلى هذه الأسطورة. الرابط بين الهيمنة أعلاه وهذه الأسطورة مصطلح ’Icarus Paradox‘؛ أي فشل الأعمال فجأة بعد فترة من نجاحها، والفشل يحدث من نفس العناصر الّتي أدّت إلى نجاحها الأوّل، كذلك مصطلح ’Icarus Complex‘ الّذي يصف الشخصيّة المفرطة الطموح. هذان المصطلحان شبيهان بحال بوتقة الصهر وأساليب الهيمنة الّتي طالت الموسيقى وأنحاء الحياة، لطالما كانت إسرائيل مفرطة الطموح حول ما تعنيه الأصلنة بعامّة والموسيقيّة بخاصّة، إلّا أنّ هذا الإفراط في الأمل بالعثور على جذور نقيّة هو السبب ذاته الّذي أدّى إلى اتّساع الصراع مع المجموعات المهاجِرة.

 


 

دنيا الطيّب

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مدينة بيت لحم، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت». صدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.