نقد الصهيونيّة... فوضى الكتابة والنشر

غلافا كتابي روحي الخالدي وخالد الحروب

 

روحي غير الّذي عرفناه

نشرت «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» و«المكتبة الخالديّة» في القدس (2020)، مخطوطة غير منتهية، أنجزها المفكّر محمّد روحي الخالدي قبل وفاته في سنة 1913، على شكل كتاب بعنوان «السيونيزم أي المسألة الصهيونيّة - أوّل دراسة علميّة بالعربيّة عن الصهيونيّة»، حرّرها وقدّمها المؤرّخ الفلسطينيّ وليد الخالدي.

خيبة الأمل الّتي أصابت الباحث الفلسطينيّ د. خالد الحروب، بعد قراءته هذا الكتاب، دفعته إلى كتابة مقاربة نقديّة منطلقًا من إحساسه بمسؤوليّة علميّة ومسؤوليّة وطنيّة أيضًا؛ فصدر له كتابه «النقد الناعم للصهيونيّة والرواية التوراتيّة في كتاب روحي الخالدي (السيونيزم)»، (الدار الأهليّة، 2021).

كتاب الحروب صغير الحجم، يقع في 96 صفحة (بالفهرس والمراجع)، كتبه مؤلّفه في عجالة ليصدر بالتزامن مع الكتاب الصدمة «السيونيزم»، حيث يعبّر الحروب عن دهشته من غياب المفكّر محمّد روحي الخالدي...

كتاب الحروب صغير الحجم، يقع في 96 صفحة (بالفهرس والمراجع)، كتبه مؤلّفه في عجالة ليصدر بالتزامن مع الكتاب الصدمة «السيونيزم»، حيث يعبّر الحروب عن دهشته من غياب المفكّر محمّد روحي الخالدي بالقول: "في كتاب ‘السيونيزم‘ فإنّنا نُدْهَش لغياب ذلك الباحث الدقيق الّذي تعرّفنا عليه، وعوضًا منه نرى كاتبًا متسرّعًا، لا يدقّق في المعلومة، ويأخذ من الآخرين من دون النسبة إليهم، ويكتب ببرود وغياب حماسة مثيرة في موضوع هو أخطر الموضوعات على وطنه، ولا يندمج في كثير من جوانبه نقدًا وتحليلًا بالشكل الّذي عهدناه فيه ونتوقّعه منه. في ‘السيونيزم‘ هناك روحي خالدي آخر غير الّذي عرفناه في السابق" (ص 13).  

يشتمل التحليل النقديّ للمؤلّف على العناوين الآتية: نسخ كتاب نجيب نصّار من دون توثيق؛ تبنّي الرواية والجغرافية التوراتيّة لفلسطين؛ روحي الخالدي وكتاب هرتسل ‘الدولة اليهوديّة‘؛ أخطاء تاريخيّة؛ حيرة وتساؤلات غير ختاميّة.

 

كتابا نصّار وهرتسل

يفجّر الحروب مفاجأة من العيار الثقيل، وهي أنّ كتاب روحي الخالدي «السيونيزم»، هو نقل ونسخ من كتاب «الصهيونيّة: ملخّص تاريخها، غايتها وامتداداتها حتّى سنة 1905»، الّذي نُشِرَ عام 1911، للأديب والصحافيّ الفلسطينيّ نجيب نصّار، الّذي هو ترجمة لبعض الأجزاء من الموسوعة اليهوديّة، بتصرّف وبتلخيص، مع إضافات نقديّة وسجاليّة من قِبَل نصّار، حذفها الخالدي في عمليّة النسخ، ودون الإشارة والتوثيق إلى أنّ النصّ والاقتباسات المطوّلة أُخِذَتْ من نصّار أصلًا، قائلًا: "فإنّنا أمام نصّ منسوب إلى روحي الخالدي، يتضمّن نصّ نصّار بشكل شبه كلّيّ، بينما لا يشير إليه على الإطلاق" (ص 28)؛ أي أنّ نصّ روحي الخالدي ابتلع نصّ نصّار ونُسِبَ إليه؛ وبذلك يرفض المؤلّف وصف مخطوطة روحي الخالدي، كتاب «السيونيزم»، بأنّها أوّل نصّ كُتِبَ بالعربيّة عن الصهيونيّة بشكل منهجيّ. والصحيح موضوعيًّا وتاريخيًّا، أنّ هذا "التوصيف ينطبق على نجيب نصّار" (ص 29).

الخلل العلميّ الأكبر في الكتاب  - المخطوطة يكمن في أنّ ما نُقِلَ عن نصّار، مع حذف تعليقاته، هو أصلًا منقول عن الموسوعة اليهوديّة، وهذا أدّى إلى تسرّب مقتطفات طويلة من تلك الموسوعة، الّتي تطرح الرؤية التوراتيّة والصهيونيّة إلى كتاب الخالدي الّذي بين أيدينا. ومن هنا يستنتج بعض مَنْ قرأ نصّ «السيونيزم» أنّ روحي الخالدي يقرّ بأحقّيّة اليهود في فلسطين ووجودهم التاريخيّ فيها بكونه سابقًا على العرب، وهو المضمون الّذي يعود أساسًا إلى الموسوعة اليهوديّة (ص 37). ويعدّد الحروب بعض الأمثلة الواردة في الكتاب، الّتي تنقل الرواية التوراتيّة. ومنها القول إنّ لفظ «صهيون» يُطْلَق على القدس الشريف وما حولها.

يحاول الخالدي أيضًا أسلمة النصّ التوراتيّ، بإيراد السلام على الأنبياء بعد ورود أسمائهم في النصّ الأصليّ. وبحسب الحروب، "مشكلة هذا ‘السلام‘ أنّه يضفي مسحة دينيّة إسلاميّة على نصوص أو ادّعاءات توراتيّة، ويمنحها شرعيّة دينيّة غير مباشرة، بما يزيح النصّ من أصله التوراتيّ، ويقولبه بشكل جديد كأنّه من كتابة الخالدي نفسه" (ص 38).

وينتقد الحروب إسقاط روحي الخالدي جغرافيّة النصّ التوراتيّ على فلسطين، دون أدنى دليل علميّ. والأخطر في مخطوط روحي الخالدي قوله إنّ "الهيكل هو المسجد الأقصى!"، ووصفه علاقة هرتسل بفلسطين بأنّها "أرض أجداده الأقدمين"! (ص 42)؛ وبذلك ربط بين قبيلة بني إسرائيل القديمة «المُتَخَيَّلَة»، ويهود اليوم، وهذا ما كان تفنيده من قِبَل علماء الإنثروبولوجيا.

يفنّد الحروب ما أشار إليه وليد الخالدي في مقدّمة الكتاب - المخطوطة إلى أنّ روحي الخالدي رجع إلى كتاب هرتسل «الدولة اليهوديّة»؛ فيقول: "الاقتباس وبالكيفيّة الّتي وردت في نصّ روحي الخالدي لا نجده في كتاب هرتسل" (ص 56). يبدو أنّ روحي الخالدي لم يطّلع "على كتاب هرتسل سواء في ترجمته الفرنسيّة أو أيّة لغة أخرى" (ص 59).

 

النقد الناعم لوليد الخالدي

كما يطرح الحروب تساؤلات عدّة في غاية الأهمّيّة، وهي: لماذا أغفل روحي الخالدي بشكل تامّ أيّ دور للدول الأوروبّيّة الكبرى، في دعم الحركة الصهيونيّة، وتأييد عودة اليهود إلى فلسطين؟ ولماذا يكتب عن الصهيونيّة ببرود لافت؟ هل بالإمكان القول بأنّ برود الخالدي في تناوله الصهيونيّة مباشرة، قاده إلى التعبير عن نوع من إعجاب غير مباشر، ومبطّن، تسلّل إلى نصّه في عدد من المواضع؟ لماذا لم يستشعر روحي الخالدي الخطر الحقيقيّ المتمثّل في الصهيونيّة وجهودها الاستعماريّة الّتي استهدفت فلسطين؟ ما سرّ غياب الإشارة إلى تجربة روحي الخالدي في فرنسا (وأوروبّا) خلال السنوات الخمس عشرة الّتي قضاها هناك، واستثمارها بحثيًّا، وخلوّ الكتاب - المخطوطة من أيّ مصادر فرنسيّة أو تقارير أو خطابات لها علاقة بالصهيونيّة؟

يفنّد الحروب ما أشار إليه وليد الخالدي في مقدّمة الكتاب - المخطوطة إلى أنّ روحي الخالدي رجع إلى كتاب هرتسل «الدولة اليهوديّة»؛ فيقول: "الاقتباس وبالكيفيّة الّتي وردت في نصّ روحي الخالدي لا نجده في كتاب هرتسل"...

فـ "الخالدي في نصّه فإنّه يبدو كمستشرق معتدل في تناوله الناعم للصهيونيّة، مؤيّد للحقّ العربيّ والإسلاميّ في فلسطين بوضوح" (ص 76).

خيرًا فعل خالد الحروب في نقده لمخطوط كتاب روحي الخالدي؛ فقد التزم الموضوعيّة والمنهج العلميّ، لكنّه كان ناعمًا في نقده لمحرّر الكتاب المؤرّخ الفلسطينيّ وليد الخالدي، حين أهدى كتابه "إلى وليد الخالدي... المؤرّخ والمعلّم تقديرًا واحترامًا"، مع أنّه يتحمّل بجانب «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة»، مسؤوليّة إخراج هذا المخطوط إلى النور بهذا المستوى المتدنّي، فكان الأولى بالمؤرّخ وليد الخالدي أن يدقّق المخطوطة، ويضيف إليها بعض حواشٍ، ويصحّح ما علق بها من أخطاء، ويوضّح بعض الفقرات الكارثيّة، إن أراد نشرها!

 


 

أحمد الدبش

 

 

 

كاتب وباحث في التاريخ القديم. له مجموعة مؤلّفات حول التاريخ التوراتيّ، منها «بحثّا عن النبي إبراهيم»، و«كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، و«يهوديّة الدولة: الحنين إلى الأساطير».