يوميّات فقيه حنبليّ: تسونامي فلسطين عام 1068

 

«شذرات» ابن البنّاء

يُرَجَّح أنّ أوّل ذكر مسجّل وصلنا للزلزال الّذي ضرب البحر الأبيض المتوسّط، ومدنًا فلسطينيّة عام 1068، ورد في يوميّات الفقيه ابن البنّاء الحنبليّ (369-471ه/ 1006-1078م)، واسمه المعروف به أبو عليّ الحسين ابن أحمد ابن عبد الله ابن البنّاء البغداديّ.

وصلتنا هذه اليوميّات بفضل مستشرق نابهٍ هو جورج مقدسيّ، الّذي عثر على قسم من اليوميّات في «المكتبة الظاهريّة» في دمشق وسمّاه «شذرات»، ونشرها في مجلّة متخصّصة تصدرها «جامعة لندن» على حلقات بين عاميّ 1956-1957، وسيتنبّه مقدسيّ لاحقًا، إلى أنّ يوميّات ابن البنّاء هي أقدم يوميّات خاصَة مكتشفة في التاريخ الإنسانيّ قاطبة، وذلك بالطبع يتوقّف على تعريف اليوميّات.

صدرت اليوميّات العربيّة الّتي تضمّ ما خطّه ابن البنّاء ما بين شهري شوّال 460ه/ 1068م وذي الحجّة 461ه/ 1069م، بفضل أكاديميّ نابه هو الدكتور أحمد موسى الّذي اعتنى بها، وصحّح كلمات قرأها مقدسيّ خطأً.

ارتبط ابن البنّاء بعلاقة وصداقة مع تاجر ثريّ من بغداد، ينتمي أيضًا إلى الحنابلة، يرد ذكره كثيرًا في اليوميّات، هو أبو عبد الله ابن جَرْدَة، واسمه كاملًا محمّد بن أحمد بن الحسن المتوفّي عام 476ه/ 1083م، وقُدِّرَت ثروة ابن جَرَدَة بما يزيد عن ثلاثمئة ألف دينار، كما يخبرنا ابن الجوزيّ في كتابه «المُنْتَظَم في تاريخ الملوك والأمم» ()، ومن الواضح أنّ هذا المبلغ كان كبيرًا في ذلك الوقت، ما مكّن صاحبه من بناء مسجد ومدرسة للبنات، وتقديم الصدقات.

 

خبر زلزال الرملة

نقف في ما وصلنا من يوميّات ابن البنّاء على متانة العلاقة بينه وبين ابن جَرْدَة، الّذي كان بحكم تجارته ومكانته على تواصل مع العديد من الأمصار في ذلك الزمن، مثل فلسطين، والجزيرة العربيّة، وإحدى طرق التواصل تلك هي الرسائل الّتي كانت ترده من التجّار، ومن الواضح أنّها لم تقتصر على المعاملات التجاريّة، وإنّما أيضًا كانت تتضمّن أخبارًا عن تلك الأمصار. ومن المرجّح أنّ هذه الرسائل الّتي كان ابن جَرْدَة يُطْلِعُ عليها صديقه ابن البنّاء، كما يُعْتَقَد، هي مصدر الأخبار عن تلك الأمصار الّتي تظهر في يوميّات الفقيه الحنبليّ، مثل خبر الزلزال الّذي ضرب فلسطين يوم الرابع والعشرين من رجب 460ه [28 أيّار (مايو) 1068م] حسب تأريخ ابن البنّاء.

وصل خبر الزلزال إلى بغداد يوم الخميس، الخامس من شوّال 460ه [6 آب (أغسطس) 1068م]، ويورده ابن البنّاء على النحو الآتي:

"ورد الخبر في يوم الخميس إلى دار الشيخ الأجلّ ابن جَرْدَة، في كتب من التجّار بأنّه حدث بفلسطين والرّملة زلزلة عظيمة في الرابع والعشرين من رجب في هذه السنة، أَذْهَبَتْ جميع دورها إلَا دارين، وهلك نحو خمسة عشر ألف نسمة، وانصدعت الصخرة الّتي ببيت المقدس بنصفين، ثمّ التأمت، بإذن الله تعالى. وغار البحر يومًا وليلة، ونزل الناس إليه يلتقطون منه، وعاد عليهم فأهلك جماعة".

يُفْهَم من الخبر أنّ الزلزال الّذي ضرب مدنًا فلسطينيّة وصل بغداد، بعد نحو ثلاثة أشهر من وقوعه، حسب ما سجّل ابن البنّاء. ويتّضح أنّ الزلزال كان مدمّرًا وضرب البحر، ومدنًا في السهل الساحليّ كالرّملة، وأخرى في فلسطين الداخليّة، كالقدس، وهذا يشير إلى شموليّته.

الخبر الّذي وصل عن طريق التجّار إلى ابن جَرْدَة، ومنه إلى ابن البنّاء، يشير إلى مدى التدمير الكبير الّذي ضرب مدينة الرّملة، وهي أهمّ حاضرة في فلسطين آنذاك، إلى درجة أنّ جميع منازلها دُمِّرَت إلّا دارَيْن، وقد يشتمّ المرء، وبعد كلّ هذه القرون، المبالغة في رسائل التجّار وتهويلهم، وقد يكون ثمّة سبب لديهم لذلك لا نعرفه، أو هو النزوع لدى الّذين يصابون بالكوارث إلى تعظيمها، وربّما يشمل ذلك العدد الّذي ذُكِرَ لمَنْ قضوا ضحيّة الزلزال.

يتّضح أنّ ابن البنّاء لديه الاستعداد لتصديق الروايات الّتي تحمل سمات ذات طابع شعبويّ، خاصّة إذا كانت على تماسّ مع الدين، فهو يتلقّى خبر انقسام صخرة قبّة الحرم القدسيّ والتئامها بإيمان وتسليم، والّذي يمكن الوقوف على ما يشبهه في يوميّاته، رغم أنّ التراث الشعبيّ حول الصخرة قوبِلَ بانتقادات فقيه مثل ابن قيّم الجوزيّة (1292-1335) وابن تيمية (1263-1328).

 

المبالغة والالتباس

قد يكون ما ذُكِرَ في الخبر عن انزياح مياه البحر أوّل إشارة - على الأقلّ في المدوّنات العربيّة - إلى ما يُعْرَفُ في عصرنا بـ «التسونامي»، واستمرّ غور الماء مدّة يوم وليلة، إلى أن نزل الناس ليجمعوا ثرواته كالأسماك مثلًا، ولأنّهم بدون دراية عن طبيعة «التسونامي»، فإنّهم لم يحسبوا أنّ البحر سيعود مرّة أخرى ويغرق جماعة منهم.

قد يبدو السؤال مشروعًا بالنظر إلى ما ذكرنا حول المبالغة في الأخبار، عن الناس الّذين نزلوا البحر "يلتقطون منه"؛ مَنْ هؤلاء الناس؟ وما عددهم؟ هل كان عدد مَنْ هلكوا وتشرّدوا كبيرًا؟ ومَنْ هم الّذين يفكّرون باستغلال غور البحر ليلتقطوا خيراته، في حين أنّ آخرين يُفْتَرَض أنّهم مشغولون بعمليّات الإنقاذ، وتفقّد الأقارب، وتدبّر مأوى للمشرّدين؟

بالطبع لا إجابة في يوميّات ابن البنّاء، ولا لدى الإخباريّين العرب الالحقين الّذين أوردوا خبر «التسونامي»، الّذي لم يكن معروفًا بهذا الاسم الحديث.

يورد ابن البنّاء خبرًا آخر يؤرّخه في يوم الثلاثاء، الحادي عشر من جُمادى الأولى 460ه (17 آذار [مارس] 1068)، عن زلزلة عظيمة ضربت الجزيرة العربيّة والشام، ويذكر أنّها أصابت مدينة النبيّ وأثّرت في مسجده، ما جعل الناس يتوبون، كما يذكر ابن البنّاء، فتوقّفوا عن "قبيح الفِعال، وكسروا الملاهي، وأراقوا الخمور، ونُفِيَ أمير المدينة المعروف بمحنّط الفواجر". امتدّت الزلزلة إلى "وادي الصفا والمروة، وخيبر ووادي القرى وتيماء وتبوك وأَيَلَة"، ويفصّل ما حدث لهذه المواقع.

يذكر ابن البنّاء أنّ نفس الزلزلة ضربت الرملة، "ثمّ أقبلت الرملة، وهلك خمسة عشر ألف نفس؛ ولم يبق فيها – على ما حُكِيَ - إلّا دارين. وزالت الصخرة المقدّسة ببيت المقدس عن مكانها، ثمّ رجعت وأنهت في تلك الساعة، بعد ما أخذت في شرقيّ الحجازة (الحجاز) وأكثر الشام، إلى أن أنهت الرملة"، ويكمل: "واستطود البحر مسيرة يوم، وصعد البحر فأخرب الدنيا، ثمّ عاد وقد نزل الناس إلى أرضه يلتقطون ويفتّشون؛ ما هلك منهم إلّا مَنْ كان قريبًا من الساحل".

يذكر ابن البنّاء أنّ بغداد تأثّرت بهذه الزلزلة: "وقد كان عندنا في هذا اليوم بعينه، في جُمادى الأولى، زلزلة يسيرة، وهي تلك بعينها".

السؤال الّذي يبرز بقوّة، هل ابن البنّاء في هذه المقاطع من يوميّاته يتحدّث عن نفس زلزلة شهر رجب (أيّار [مايو])، أم أنّ زلزلة أخرى، سابقة، وقعت في جُمادى الأولى (آذار [مارس])؟ قد يظلّ الالتباس موجودًا، خصوصًا بوجود التشابه في الخبرين لديه، في ما يتعلّق بتدمير منازل الرملة، وعدد الضحايا، وكذلك بانقسام صخرة القدس.

يمكن ملاحظة أنّ ابن البنّاء بدا أكثر تحفّظًا عند ذكر حجم تدمير منازل الرّملة، ويبدو أنّه شكّك في أن تكون جميع منازل المدينة دُمِّرَت، إلّا دارين.

 

بين الحاضر والماضي

الإخباريّون الّذين نقلوا خبر زلزلة الرّملة العظمى، يتحدّثون عن حدث واحد وقع في شهر جُمادى الأولى، أو بدون ذكر الشهر، ولم يتطرّقوا إلى زلزلة وقعت في شهر رجب، حسب جورج مقدسيّ، الّذي يؤكّد أنّ كلّ مَنْ ذكروا تلك الزلزلة، جاؤوا بعد ابن البنّاء، ومنهم: ابن الجوزيّ في كتابه «المُنْتَظَم» ()، وكتابه «شذور العقود» ()، وهو مخطوط في «دار الكتب المصريّة»، والبنداريّ في كتابه «زبدة النصرة» ()، وسبط ابن الجوزيّ في «مرآة الزمن» ()، وهو مخطوط في «المكتبة الوطنيّة» في باريس، والذهبيّ في «دول الإسلام» ()، واليافعيّ في «مرآة الجنان» ()، وابن كثير في «البداية والنهاية» ()، والعينيّ في «عقد الجُمان» ()، وهو مخطوط في «دار الكتب المصريّة»، وابن العماد الحنبليّ في «شذرات الذهب» ().

في عام 2009، أعلنت بيفرلي غودمان، وهي عالمة جيولوجيا وآثار من «جامعة حيفا»، أنّها اكتشفت أنّ فلسطين تعرّضت إلى «تسونامي» في الزمن القديم، وحدّدت ذلك في منطقة قيساريا على البحر المتوسّط، وأكّدت أنّ عملها ما زال مستمرًا، لإثبات نظريّتها، وفي عام 2016، بدت غودمان أكثر ثقة، وهي تعلن أنّه خلال الـ 2500 سنة الماضية ضرب فلسطين 14 «تسونامي»، مشيرة إلى «التسونامي» الّذي سُجِّل قبل 800 عامًا، ولعلّها تقصد «تسونامي الرملة»، الّذي أوّل مَنْ ذكره ابن البنّاء.

خصّصت «مجلة ناشيونال جيوغرافك» في عددها لشهر أيّار (مايو) 2020، مساحة للحديث عن غودمان ونشاطها البحثيّ، الّتي أثبتت مع فريقها موجات تسونامي الّتي ضربت سواحل فلسطين طوال آلاف الأعوام.

حسب غودمان، فإنّه نتيجة لدراستها، طوّر الاستعمار الإسرائيليّ عام 2014 ما سمّتها: "أوّل خطّة استباقيّة لمواجهة تسونامي".

تقول غودمان إنّ البشر باتوا يغيّرون معالم سواحلهم تغييرًا غير مسبوق؛ ولمعرفة عواقب ذلك "علينا أن نعمل بسرعة أكبر، وبمزيد من الباحثين والعلماء"، وهي تعتقد أنّ الأدلّة القديمة المدفونة تحت الماء قد تنقذ أرواحًا، وبخاصّة في أماكن تفتقر إلى سجلّات مكتوبة.

لكن ما فات غودمان على ما يبدو، وجود مدوّنة عربيّة واسعة ومتعدّدة، وثّقت يوميّات فلسطين والمنطقة، وقد جاءت كما رأينا على ذكر ذلك التسونامي الّذي ضرب البلاد قبل 800 عام، ووثّقه ابن البنّاء في يوميّاته، لكن ماذا نفعل إن كان المستعمِر لا يعرف العربيّة؟

 


مرجعيّة

- «يوميّات فقيه حنبليّ من القرن الخامس الهجريّ: تعليقات ابن البنّاء الحنبليّ لحوادث عصره»، قابله على أصله وعلّق عليه جورج مقدسيّ، نقله إلى العربيّة وأعاد مقابلة النصّ على أصله واعتنى به أحمد العدويّ (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر 2020).

- ابن قيّم الجوزيّة، المنار المنيف في الصحيح والضعيف (جدّة: مجمّع الفقه الإسلاميّ 2007-2008).

- ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (الأوقاف السعودية 2004).

- مجلّة ناشونال جيوغرافيك (بالعربيّة 2020).

 


 

أسامة العيسة

 

 

 

كاتب وصحفيّ فلسطينيّ وُلِدَ عام 1963، عَمِلَ في عديد الصحف الفلسطينيّة والعربيّة، وصدر له أكثر من 10 كتب منها رواية «مجانين بيت لحم» (2013)، و«الإنجيل المنحول لزانية المعبد» (2022).