ما الّذي يدعو المُتْعَبين إلى اللعب؟

الشاعر الفلسطينيّ تميم البرغوثي في حفل اختتام «كأس العالم فيفا قطر 2022»

 

استبق لعبة اختتام «كأس العالم فيفا قطر 2022»، حفل ختاميّ افتتحه الشاعر الفلسطينيّ تميم البرغوثي، متوشّحًا بكوفيّة فلسطينيّة. كان نصّ كلمة البرغوثي قصيرًا وسريعًا، استمرّ إلقاؤه نحو الدقيقة، إلّا أنّ كلّ جملة فيه كانت مفعمة بالرمزيّات الاستعاريّة والتناصّيّة التاريخيّة. واضح أنّ البرغوثي خطّط لكلّ كلمة في كلمته، إلى درجة مكّنته من طرح قراءة تاريخيّة ثقافيّة مفعمة بالدروس النقديّة.

 

لماذا الحياة؟

ما الّذي يدعو المُتْعَبين إلى اللعب؟

لهذه الأسئلة، ثمّة خلفيّة فلسفيّة غنيّة تعود بنا إلى الوجوديّة والعبثيّة، وبشكل خاصّ، إلى فترة خُطّت سطورها النقديّة في أوروبّا خلال أربعينات القرن السابق. في عام 1942، قدّم الفيلسوف الفرنسيّ ألبير كامو مقالته بعنوان «أسطورة سيزيف»، سأل فيها أسئلة مشابهة جدًّا. يفتتح كامو مقالته بمقولة حازمة: "هنالك مشكلة فلسفيّة مهمّة وحيدة، هي الانتحار؛ فالحكم بأنّ الحياة تستحقّ أن تُعاش، يسمو إلى منزلة الجواب عن السؤال الأساسيّ في الفلسفة. وكلّ المسائل الباقية (...) تأتي بعد ذلك؛ فهذه هي لعب، وعلى المرء أن يجيب أوّلًا"[1].

إن كانت جميع نشاطاتنا المرهقة والمتعبة سيزيفيّة، فلماذا نستمرّ باللعب؟ ما الّذي يدعو المُتْعَبين إلى اللعب؟

يقترح كامو في مقالته أنّ حياة الإنسان الوجوديّة في هذا الواقع الحديث فارغة من المعنى، وأنّ الإنسان كائن يبحث عن المعنى دون التمكّن منه. الإجابة عن أيّ سؤال بعد سؤال المعنى، هو لعب، بنظر كامو. كلّ فرد فينا سيزيف بنفسه، يواجه الحياة ومصاعبها، ويدفع بالصخرة إلى رأس الجبل، حتّى تعود لتسقط إلى الجهة الثانية؛ فيلحق الفرد بالصخرة إلى الأسفل ليدفعها مجدّدًا. هذه التكراريّة العبثيّة هي النشاط السيزيفيّ المتمثّل بالحياة البشريّة. ولكن إن كانت جميع نشاطاتنا المرهقة والمتعبة سيزيفيّة، فلماذا نستمرّ باللعب؟ ما الّذي يدعو المُتْعَبين إلى اللعب؟

 

ما الّذي يدعو الحزين إلى الغناء؟

هذه جملة استفهاميّة أخرى من نصّ كلمة البرغوثي موجّهة ومقتبسة من الفلسفة الوجوديّة، إذ تتواصل بشكل مباشر مع مفهوم ’المغنّي الحزين‘ في كتاب الفيلسوف الألمانيّ فريدريك نيتشه «هكذا تحدّث زرادشت»، في مقولته: "نحن نحبّ الحياة، لا لأنّنا تعوّدنا الحياة، بل لأنّنا تعوّدنا الحبّ. هناك دومًا شيء من الجنون في الحبّ (...) وأنا الّذي أكنّ مودّة للحياة، أنا أيضًا تتراءى لي الفراشات وفقاقيع الصابون، وما هو على شاكلتها من بني البشر، أكثر دراية بالسعادة. إنّ رؤية هذه الأرواح (...) لهي ما يستفزّ دموع زرادشت وأناشيده"[2]. هذا الحبّ الّذي يتحدّث عنه نيتشه على لسان زرادشت، هو ذاته الأمل والسعادة عند سيزيف كامو في جملته الأخيرة في الكتاب: "والصراع نفسه نحو الأعالي يكفي ليملأ قلب الإنسان. ويجب على المرء أن يتصوّر سيزيف سعيدًا"[3].

 

السياسيّ في الشخصيّ 

وما الّذي يأتي بشاعر مثلي إلى احتفال كهذا؟

هنا يُقْحِم البرغوثي نفسه إلى المعادلة، ويتساءل عمّا يفعله شاعر فلسطينيّ مسيّس بامتياز في حفل من هذا النوع؛ أي حفل يتعلّق بلعب الكرة. يبدو أنّه بمفهومه الثقافيّ ’سيرك‘، في إحالة إلى منهج’الخبز والسيرك‘ (باللاتينيّة: Panem et Circenses)، الّذي تستعمله الحكومات لتوفير سياسة الإلهاء المنظّم.

الشاعر السياسيّ هو التضادّ لهذا السيرك، فما الّذي يأتي بشاعر مثل البرغوثي إلى احتفال كهذا؟ مجرّد وعي الشاعر لهذا السياق، وعرضه مباشرة بعد الأسئلة الوجوديّة السابقة، هو بمثابة نشاط سياسيّ يدعو الجماهير إلى نقد ’الخبز والسيرك‘.

 

اللعب... زيارة قصيرة إلى عالَم بديل

مباشرة، بعد كشف هذا الوعي، ينتقل البرغوثي إلى مقولته السياسيّة الواضحة في سياق هذا السيرك. اللعب، أو السيرك العينيّ هذا، هو زيارة قصيرة إلى عالَم بديل.

زيارة العوالم البديلة في السياسة تتمثّل بمفهوم ’حالة الطبيعة‘، وهو مفهوم فلسفيّ استعمله معظم فلاسفة الدولة الحديثة لوصف الظروف الافتراضيّة الّتي سبقت قيام الدولة كيانًا سياسيًّا حديثًا؛ أي محاولة وصف الواقع قبل عقد العقود الاجتماعيّة. هدف هذا النشاط كان وصف الحالة الاجتماعيّة البديلة للعالَم قبل وجود القانون المنظّم. يقترح البرغوثي أنّ هذا هو دوره في سياق السيرك المذكور، أي اقتراح تفسير اللعب بوصفه زيارة لحالة طبيعة افتراضيّة.

 

محاولة فلسفيّة للعدل

ساعتان من المساواة والعدل

في هذه العبارة، يعرض البرغوثي استمراريّة فرضيّته لحالة الطبيعة، مقتبسًا من الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو، صاحب كتاب «العقد الاجتماعيّ» (1762). يدّعي روسو أنّه في حالة الطبيعة ليس ثمّة مساواة بين الفرد والآخر بسبب معطياتهم الجسديّة، لكن ثمّة وئام في حالة الطبيعة بسبب حياة البشر في الطبيعة وبانفراد. على الرغم من هذا، فظروف مفاجِئة كتطوّر مفهوم ’الملكيّة الخاصّة‘، تؤدّي إلى ولادة النظم السياسيّة القمعيّة والفاسدة، ممّا يؤدّي بروسو إلى اقتراح العقد الاجتماعيّ: "إنّ النظام الأساسيّ، بدلًا من نقض المساواة الطبيعيّة، يقيم، على العكس، مساواة معنويّة وشرعيّة مقام ما قدّرت الطبيعة أن تضعه من تفاوت طبيعيّ بين الناس، وأنّ الناس إذ يمكن أن يتفاوتوا قوّة وذكاء فإنّهم يتساوون عهدًا وحقًّا"[4].

يعرض البرغوثي استمراريّة فرضيّته لحالة الطبيعة، مقتبسًا من الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو، صاحب كتاب «العقد الاجتماعيّ» (1762)...

يوجد العديد من التحفّظات على نظريّة روسو السياسيّة، خاصّة كونها قد تؤدّي إلى دكتاتوريّة الغالبيّة، لكنّ البرغوثي لا يتحدّث عن النظم السياسيّة عند روسو، بل فقط عن حالة الطبيعة. في حالة الطبيعة الافتراضيّة هذه، ثمّة مساواة وعدل (افتراضيًّا كذلك).

ما أتساءل عنه في هذا السياق، هو ما سبق هاتين الساعتين من المساواة والعدل، فلا تدريبات الفرق متساوية، وليس تقسيم اللاعبين عادلًا، فماذا يقصد البرغوثي؟

قد يقصد ذلك ’التفاوت الطبيعيّ‘، إلّا أنّ التفاوت بين المنتخبات في نموذج البرغوثي لحالة الطبيعة ليس طبيعيًّا، بل هو تفاوت طاغوتيّ استعماريّ، وهذا هو الاختلاف المركزيّ بين نموذجيّ حالة الطبيعة.

 

فلا ترى فريقًا يلعب بأحذية نفّاثة مثلًا

إمكانيّة تمكّن أحد الأفراد من الأحذية النفّاثة هو ما يحوّل حالة التنظّم المدنيّ إلى حالة فاسدة عند روسو. لكنّ البرغوثي لم يختر ’أحذية كهربائيّة‘ ولا ’أحذية نوويّة‘، ولا حتّى شموليّة ’أحذية متقدّمة‘، بل اختار بشكل عيّنيّ ’أحذية نفّاثة‘، وفي هذا رمزيّة واضحة ومباشرة للحرب العالميّة الثانية. ازدهر سباق التسلّح بالمحرّكات النفّاثة في الحرب العالميّة الثانية، وأكبر مثال عليه تمثّل بتنافس بريطانيا وألمانيا، والطائرة المقاتلة «مسرشميت مي 262» الّتي أنتجتها ألمانيا النازيّة، تُعْتبَر أوّل مقاتلة اعتراضيّة بمحرّكات نفّاثة.

غياب الأحذية النفّاثة عند البرغوثي غياب التقدّم التكنولوجيّ عند بعض الشعوب على الأخرى، في حالة الطبيعة المقترحة من قبل البرغوثي.

 

وفريقًا حافيًا

هنا توقّف البرغوثي عن الافتراض، والتزم التناصّيّة التاريخيّة. إذ جلب قصّة قد تكون حقيقيّة لعرض الطرف الآخر من ’المساواة والعدل‘، المقترح في حالته الطبيعيّة، وهي غياب ’التقدّميّة‘ الثقافيّة الظاهريّة.

الفريق الحافي قد يكون ذلك الهنديّ الّذي منعته «فيفا» من المشاركة في بطولة العالَم في عام 1950، لأنّه أراد المشاركة حافيًا. كرة القدم في الهند كانت تُلْعَب في تلك السنوات بأقدام حافية، وهذا لم يكن مقبولًا على «فيفا».

طبعًا يُحكى أنّ هذه مجرّد أسطورة، وأنّ سبب عدم المشاركة كان مادّيًّا، وكون باقي الدول الآسيويّة لم تشارك، لكنّ أسطورة الفريق الحافي الّذي لم يُسْمَح له اللعب لهذا السبب، لا تزال أسطورة مثيرة أكثر للاهتمام.

 

إرث الحرب العالميّة الثانية

ولا فريقًا مسموحًا له الركض في طول الملعب وعرضه،

وآخر يحتاج لاعبوه تأشيرات ليجتازوا خطّ الوسط

في هذه العبارات، يوضّح البرغوثي نقده الأساسيّ في حالة الطبيعة الجديدة المقترحة من خلال اللعب، وهي أنّ في هذه الحالة، نعود إلى ما قبل عصر الاستعمار، وحصريّة حرّيّة التنقّل للقويّ. نعود إلى فترة تسبق الحدود وتفاضليّتها، الّتي رسمتها الاستعمارات في القرنين الأخيرين، ومثّلت من خلالها تقسيم العالَم إلى شرق وغرب، إلى جنوب وشمال، وخاصّة إلى درجات عالَم أوّل وعالَم ثالث. في حالة الطبيعة عند البرغوثي، لا يمكن للملعب وخطوطه أن تتحوّل إلى ‘ميكروكوسموس‘ أو تصغير لصورة العالَم وحدوده الدوليّة.

ربّما لا يحتاج لاعبو فريق معيّن إلى تأشيرات لاجتياز خطّ الوسط، لكنّهم طبعًا يحتاجون إلى تأشيرات للوصول إلى الفريق، لكنّ هذا كلّه يحصل خارج الملعب، في واقع يسعى البرغوثي هنا إلى محوه واستبدال حالة الطبيعة البديلة به. المثال على هذا هو طبعًا تلك الفرق الأوروبّيّة الّتي تتكوّن من غالبيّة لاعبين أفارقة.

يوضّح البرغوثي نقده الأساسيّ في حالة الطبيعة الجديدة المقترحة من خلال اللعب، وهي أنّ في هذه الحالة، نعود إلى ما قبل عصر الاستعمار، وحصريّة حرّيّة التنقّل للقويّ...

ربّما تكون رمزيّة البرغوثي لهذا النقد بعيدة، لكنّ مجرّد ذكر التأشيرات بعد ذكر إمكانيّة المساواة والعدل، ثمّ الأحذية النفّاثة والإحالة إلى الفريق الهنديّ، يوضّح الفترات التاريخيّة الّتي يحاكيها البرغوثي، وهي فترات نهاية الحرب العالميّة الثانية، وبداية نقاش الهجرات القسريّة واللجوء بشكل واضح وبارز في العالَم.

 

وعندما تكون الكرة في الميدان، فالتسديد مسموح به للفريقين

قد تكون هذه العبارة أكثر عبارة لاذعة في نصّ كلمة البرغوثي، حيث من خلالها يعرض عبثيّة تضادّها؛ أي عبثيّة إمكانيّة التسديد فقط لأحد الأطراف. في السياق العالميّ، هذه الإمكانيّة تُعْتبَر منطقيّة جدًّا، بل موثّقة في ميثاق «مجلس الأمن» التابع لـ «الأمم المتّحدة». أحقّيّة منح ’حقّ النقض‘ (الفيتو) لما يُسَمّى بالدول الكبرى (روسيا، الصين، الولايات المتّحدة، فرنسا، المملكة المتّحدة)، هو أحد أبرز البنود الطاغوتيّة في ميثاق «مجلس الأمن»، حيث يمكّن مجموعة صغيرة من الدول فقط من الاعتراض على قرارات بقيّة الدول. في الواقع، ليس حقّ نقض ولا اعتراض، بل هو حقّ إجهاض للقرارات تبعًا لسلطة أفراد، ولا يختلف نهائيًّا عن الامتيازات الطبقيّة الّتي أجّجت الثورة الفرنسيّة. عندما تكون الكرة في الميدان، أي في حالة الطبيعة المقترحة عند البرغوثي، فالتسديد، والتأثير، كما إمكانيّة إجهاض القرارات والأهداف، مسموح للفريقين.

 

وفي النهاية يبقى الجميع بصحّة جيّدة،

لم يسل إلّا العرق،

ولم يَعْلُ الصراخ إلّا تطوّعا

هذه الكلمات تحمل في لبّها العديد من التناصّيّات التاريخيّة، أذكر منها اثنتين مركزيّتين تتناسبان مع باقي التناصّيّات الواردة في القصيدة. أوّلها التناصّيّة مع الحرب العالميّة الثانية مرّة أخرى، من خلال خطاب ونستون تشرشل عندما تولّى زمام القيادة رئيسًا لوزراء بريطانيا، وقال: "ليس لديّ ما أقدّمه سوى الدم والدموع والعرق". والسياق الآخر، سياق الاستعمار البلجيكيّ في كونغو، حيث اقتبس رئيس الوزراء المنتخب الأوّل باتريس لومومبا كلمات تشرتشل، في خطابه للشعب الكونغوليّ بعد استقلال بلاده من الاستعمار البلجيكيّ: "تخفق قلوبنا فخرًا بهذا النضال، نضال الدموع والدم والنار، لأنّه نضال عادل ونبيل، ولا سبيل دونه لوضع حدّ للاستعباد المهين الّذي قاسيناه"[5]. كلمات لومومبا مثل إعادة صياغة لكلمات تشرتشل، تقترح إمكانيّة سيل الدم من أجل هدف مختلف هو ردع الاستعمار، لكنّ البرغوثي يقترح واقعًا بديلًا فيه يبقى "الجميع بصحّة جيّدة"، ودون سفك دماء، واقع يكتفي بسيل العرق، والصراخ طوعًا.   

 

اقتراح لعالم لنا

ليست هذه لعبة يا سادة،

هو شيء تقترحه هذه البلاد والشعوب

هنا نرى تكرار المقترح لحالة الطبيعة، والتركيز على الحاجة إليها جوابًا عن الأسئلة الافتتاحيّة للقصيدة: "ما الّذي يدعو المُتْعَبين إلى اللعب؟"، هذه ليست لعبة يا سادة، بل هي اقتراح حالة أخرى، فيها الأمل الّذي ذكره كامو، والحبّ الّذي ذكره نيتشه، والوئام الّذي ذكره روسو. هذا الاقتراح الّذي يأتي به البرغوثي لتجديد الحوار حول إمكانيّة بناء حالة طبيعة جديدة، معادية للقوانين القهريّة المتمثّلة بالتأشيرات وحقوق النقض.

ذِكْرُ "هذه البلاد والشعوب"، هو استحضار مركّب المعنى في نظري؛ فقد يرمز أوّلًا إلى جميع البلاد والشعوب المشاركة في «كأس العالَم»، لكنّه قد يرمز إلى البلاد الّتي تستضيف المناسبة، وتحديدًا الشعوب العربيّة. إن كان هذا المقصود، فهنا نجد رمزيّة رومانسيّة بعض الشيء لفكرة السلام والوئام الّتي يقترحها العربيّ.

لسبب ما، هويّة الشاعر الفلسطينيّة تأخذني إلى اقتباس آخر من قصيدة فلسطينيّة أخرى اقترحت كذلك واقعًا بديلًا، وهي قصيدة رفيف زيادة «نحن نعلّم الحياة، سيّدي»، في مقولتها: "نحن، الفلسطينيّين، نعلّم الحياة، بعد أن احتلّوا آخر سماء. نحن، نعلّم الحياة، بعد أن بَنَوْا مستوطناتهم وجدار الأبارتهايد خاصّتهم بعد آخر سماء".

البرغوثي يقترح في قصيدته واقعًا بديلًا، فلسطينيًّا بكوفيّته، ليعلّم إمكانيّة الحياة الأخرى، يغيب عنها احتلال السماء، وتخلو من الجدران.    

 

بل لم تزل تقترحه البشريّة على نفسها منذ كانت،

حلم عمره ساعتان وعمره الأبد،

يقترب كلّما حاولوا إبعاده

هذه العبارات مركّبة، كونها تواصل السابقة، لكنّها تشمل البشريّة كافّتها فيها، ممّا يدلّ على كونها تقترح إمكانيّة أخرى لقراءة الحالة المقترحة. هل حقًّا لم تزل البشريّة تقترح حلم الحياة البديلة الأفضل؟ ربّما، فلطالما اقترح الأدب بدائل سرديّة لواقع مختلف، لكنّ الحلم الّذي عمره ساعتان وعمره الأبد، وفق البرغوثي، قد يحيل إلى مفهوم أدبيّ من قلب الموازين، يكون عادة في سياق السيرك الّذي ذكرته سابقًا، أو في السياقات المهرجانيّة – الكرنفاليّة. مفهوم ’الكرنفال الأدبيّ‘ عند الفيلسوف اللغويّ ميخائيل باختين، يشير إلى أسلوب يرمز إلى إفساد النظام المحصور بوقت معروف منذ البداية.

البرغوثي يقترح في قصيدته واقعًا بديلًا، فلسطينيًّا بكوفيّته، ليعلّم إمكانيّة الحياة الأخرى، يغيب عنها احتلال السماء، وتخلو من الجدران...

باختين يدّعي أنّ الفوضى والفكاهة والسخرية في الأدب، تكون أداة لتغيير الموازين، كما في الكرنفال الشعبيّ الّذي فيه تتبدّل أدوار الشعب والحاكم، فيخوض الشعب تجربة تنكّريّة فيها يشعر بأنّه سيّد الموقف. هذه الكرنفالات التنكّريّة الشعبيّة، كانت أداة بيد السلطات للتنفيس عن الشعوب، ومنها الفرحة والمتعة بالضبط كما ’الخبز والسيرك‘. هي أحلام سريعة، كمباراة كرة القدم، عمرها ساعتان أو يومان، لكن قبل بدايتها، نعرف بالضبط ساعة نهايتها، وهكذا هو حلم حالة الطبيعة المقترح عند البرغوثي. ربّما نحلم به، ونسعى إلى وِصاله، لكنّه حلم يستمرّ فقط لساعتين.  

 

هذا الّذي يدعو المُتْعَبين إلى اللعب،

وهذا هو الفوز الحقيقيّ في نهاية المطاف

هذا هو الحلم الكرنفاليّ، هذا جواب البرغوثي عن السؤال الأوّل في نصّ كلمته، هذا معنى الحياة وسبب استمرار سيزيف بدفع الصخرة، هذا ما يجعل سيزيف سعيدًا، هذا الصراع نحو الأعالي الّذي يكفي لملء قلب الإنسان.

أيقصد هنا البرغوثي أنّ ساعتَي اللعب هما الفوز الحقيقيّ، أم إمكانيّة تخيّل قلب الموازين وإعادة تشكيل خارطة العالم السياسيّة من جديد؟ أيقصد أنّ الفوز الحقيقيّ هو نشوة العرق والصراخ، أم إمكانيّة تخيّل حالة طبيعة سبقت الاستعمار؟

 


إحالات

[1] ألبير كامو، أسطورة سيزيف، ترجمة: زكي حسن، (بيروت: مكتبية دار الحياة، 1942)، ص 11.

[2] فريدريش نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة: علي مصباح، (بغداد: منشورات الجمل)، ص 87-88.

[3] ألبير كامو، أسطورة سيزيف، ص 143.

[4] جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ الحقوق السياسيّة، ترجمة: عادل زعيتر، (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، ص 55.

[5] باتريس لومومبا، خطاب الدموع والدم والنار، 30 يونيو 1960، عن صفحة الهامش – لا ثقافة بلا اشتباك. https://al-hamish.net/7805/.

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».