’عنبوسي‘... اسم عائلتي

باقة الغربيّة | Getty images

 

في صغري كرهت اسم عائلتي، كان يسبّب لي إحراجًا في بعض الأحيان، وتبعًا للمرحلة العمريّة؛ ففي الطفولة كانت ‘البوسة‘ (القبلة) حرامًا، أو مشاعر ما زالت لا يُباح بها. واسم عائلتي بشكل ضمنيّ وغير مباشر يجازف في هذه المنظومة الاجتماعيّة: ’عنبوسي‘، أو ’عنابوسي‘ أو ’عينبوسي‘. كيفما قُرِئَت أو لُفِظَت، مفاد خاتمتها ’بوسة‘؛ أي قبلة. وكان هذا أحيانًا محطّ سخرية البعض: بوسة بوسة بوسة، أثناء استراحة العاشرة والربع في باحة المدرسة. لكن، سرعان ما تحوّل الإحراج إلى عنف، أهمّ به نحو أولئك الّذين يبدون تحفّظهم أو إحراجهم.

أمّا في مرحلة النضوج، فما زال الاسم محطّ إحراج شعوري؛ فالهرمونات تبحث عن رشدها، وأنا أبحث كيف أخفي الحرج من اسم عائلتي. لكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد لكرهي اسم العائلة؛ بل كانت الحملات الانتخابيّة، وعددنا القليل الّذي لا يؤثّر في الانتخابات لصغر العائلة؛ فعائلة ’عنبوسي‘ في باقة الغربيّة من العائلات الصغيرة، مقارنة بتلك العائلات المكوّنة من بطون وأفخاذ، عائلات منيعة.

***

 

أذكر مرّة في حديث لي مع صديق عراقيّ، بعد أن شرح لي مدى صدمته عندما عرف بوجود فلسطينيّين يحملون الجواز الإسرائيليّ؛ فقلت له إنّنا نحن في الأراضي المحتلّة عام 1948 نحو المليون ونيّف، ومنّا العلماء وأصحاب الحرف و’كذاذبة‘ الخطابات الانتخابيّة والسياسيّة وغيرها، فقال: "يابا العشيرة مالتي 4 ملايين". لم تسعفني أيّ إجابة أمام هذا الاتّساع العراقيّ، لكنّي تذكّرت تلك المرحلة الّتي بدأت أهتمّ بها في الشعر، ومحاولاتي الفتيّة لفهم معانيه حتّى النهاية. مرّة سمعت أحد كبار العائلة في طلبه يد كريمة عائلة ’عريقة‘، يعرّج على موضوع النسب، وينفي الكبر وكثرة النفر شرطًا لتحقّق النبل والكرم، وكأنّه ببلاغة خجولة يعتذر ويجابه مفاهيم وتقاليد مجتمعيّة؛ فراح ينشد السموأل.

حفظت بيتَي الشعر من لاميّته، ووجدت ذلك ملائمًا لسياق إحراجي، ورحت في اليوم التالي أحدّث أولاد صفّي عنه:

تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا

فقلتُ لها إنّ الكرام قليلُ

وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا

عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ

 

لم يفهمني أحد حقًّا، لكنّي حاولت ببراءة مجازفة فرض المعاني الّتي تناسب الفترة الّتي أعيشها؛ فأنا لم أفهم معنى الجار في سياقه الجاهليّ، ولم أعِ أنّ هذين البيتين يمكن قراءتهما في سياق فقه الأقلّيّات، وأنّ السياق العامّ هو العشائر المنيعة الّتي تخوض غزواتها بتقاليد جاهليّة لتسطو على من أضعف منها، لكن، وعلى ما يبدو، كنت أخوض غزواتي وحروباتي الخاصّة بالنيابة عن عائلة لا يتعدّى أنفارها أربعمئة. الغريب أنّي لم أبحث حينذاك في آليّات تكاثر النسل والتطوّر الديموغرافيّ، أو حتّى مشروعيّة الزواج بغير امرأة. كلّ ما همّني هو الكرم، وأنّ جارنا الآتي من ديار بئر السبع أو النقب أصلًا سعيد وراضٍ بجيرتنا، وأنّ كرمنا هو ما نبديه ونبذله من عطاء وسخاء كفّ، ولكنّي كنت أخوض غزواتي الدفاعيّة أمام نفسي على ما يبدو.

***

 

في الثانويّة، فالجامعة، بدأ الاهتمام بالتاريخ، رحت أنقّب أكثر عن أصول العائلة، وكأنّي ما زلت الطفل المحكوم بهكذا تقاليد، حتّى وصلنا مرّة من صديق في العائلة زار أرشيف «المحكمة العليا الإسرائيليّة»، ووجد وثيقة بخطّ اليد يذكر شخصيّة اسمها «فصاحة إبراهيم العنبوسي»، وقد ردّت سندًا إلى شخص ما في القرن الثاني عشر الميلاديّ في القدس.

صديق آخر وجد بعض الشيوخ الأجلّاء المنسوبين إلى عائلة عنبوسي، والمدفونين في مقبرة «مأمن الله» المقدسيّة من العصرين المملوكيّ والعثمانيّ.

وكان تاج العزّ بين كلّ هذه الإفادات والإثباتات، وحقيقة لا أعرف لمَنْ أثبت ومَنْ أجابه، ما جاء في كتاب الموسيقيّ واصف جوهريّة ومذكّراته المقدسيّة، الّذي قرأت من مذكّراته في أثناء دراستي في القدس، حيث بدأ عالمي هناك يتّسع لحدود القرية الّتي خضت غزواتي بها، وعشت سحر العمر الأبديّ المقدسيّ منذ ذلك الحين.

يروي جوهريّة حول مسير أحد الشعانين من بيت لحم إلى القدس: "وتكون الجهات الواقعة على ضفّتَي هذه الطريق ملآنة من المتفرّجين من نساء وأولاد، وخاصّة على جبل صهيون يكونون منذ الفجر؛ حتّى يتمكّن الواحد من حجز مقعد على الأرض يتسابق عليه؛ ليشاهد هذا المهرجان القوميّ. وأمّا الرجال فتكون في مقاهي باب الخليل «قهوة المعارف»، و«قهوة بلور» الّتي كانت مقامة في الزاوية العائدة لوقف العنابوسي، والقهوة المعلّقة المعروفة بـ «قهوة البنك» لأنّها كانت مستعملة بنكًا. واختصارًا، يصل الموكب قريب الظهر، ويدخل من الثغرة المفتوحة بسور المدينة، الّتي فُتِحَت عند دخول جلالة إمبراطور ألمانيا غليوم في عام 1898، فيزور القدس، ويصلّي، وبعد الصلاة يتوجّه إلى مقام النبي موسى، ويلتحق بالفوج الأوّل الّذي سبقه بعد ظهر نهار الجمعة."   

كانت السعادة تنفض كلّ جوانبي، الآن لديّ أطروحة كاملة، لكلّ من يبدي الاستغراب من اسم العائلة، سأسرد له كلّ هذا، وكأنّ ثمّة مَنْ يهتمّ للتوجّهات العاجيّة الأكاديميّة في أيّامنا، أو يأبه بطريقة كتابتها الروبوتيّة أحيانًا.

***

 

مع عصر الفيسبوك البائد، والإنستجرام الّذي يلفظ أنفاسه تارة هنا وتارة هناك في أمريكا، كنت أزداد فخرًا بأعدادنا في هذه العائلة، لا أدري لماذا مجدّدًا، وكأنّي أعرف أحدًا خارج بلدتي الّتي تطوّقها حدّ الاختناق سياسات إسرائيل الاستعماريّة. لكنّ اسم العائلة شيء لا يعترف بحدود الاستعمار، يصل الضفّة والأردنّ وبلاد الشام. وجدت قرية جنوبيّ نابلس تحمل اسم العائلة ’عينبوس‘، وقالوا في سبب التسمية إنّها ’عين ماء يابوس’، و’يابوس’ من أسماء القدس. شيء يعود في التاريخ حتّى المماليك في القدس، القدس.

شيء يطلّ علينا من بطاقة هويّة مخضّبة بالدماء لشابّ يحمل اسم عائلتي، استشهد قبل أيّام في نابلس، شيء يتعدّى الفخر، حتّى الصمت والخجل من كلّ حروباتي التاريخيّة البائدة، وأبيات الشعر كلّها.

 


 

آدم عنبوسي

 

 

 

طالب دكتوراه في قسم «دراسات الشرق الأدنى» في «جامعة برينستون». مهتمّ بالتاريخ الاجتماعيّ والسياسيّ الفلسطينيّ، وعلاقات اللجوء وتقاطعات الصحّة والسياسية، وتاريخ المذياع (الراديو) في السياق الفلسطينيّ.