التعذيب في سجون إسرائيل

Getty Images, 2005

 

في الـ 23 آذار (مارس) 2023، قرّر الأسرى الفلسطينيّون في السجون الإسرائيليّة تعليق إضرابهم عن الطعام، بعد إعلانهم التوصّل إلى تفاهمات معيّنة مع مصلحة السجون، رغم أنّ مصلحة السجون كانت هدّدت بكسر الإضراب وقمعه قبلها بيوم، وتنكر أنّها توصّلت إلى اتّفاق ما مع قيادات الأسرى.

لم يتّخذ الأسرى قرارهم بخوض الإضراب إلّا بعد سلسلة من التعليمات الّتي أطلقها بن غفير المسؤول المباشر عن السجون. ومنذ تولّيه منصب وزير الأمن القوميّ، كان من الواضح أنّه يستهدف السجون والأسرى والمحرَّرين منهم أيضًا وعائلاتهم، من خلال سلسلة قوانين أطلقها – مثل الإبعاد للمحرَّرين، وقانون الإعدام - وجملة تعليمات تخصّ السجون وظروف معيشة الأسرى داخلها. هذه الإجراءات القمعيّة جعلت الأسرى يهدّدون بداية بإعلان الإضراب، ثمّ إعلان الإضراب فعليًّا يوم 2023.3.22.

 

المنع هو القاعدة

تُعرّف إسرائيل الأسرى السياسيّين بـ ’السجناء الأمنيّين‘، وقد سنّت عددًا من الأنظمة والتعليمات الّتي تُعرّف ’السجين الأمنيّ‘، وكيف يجب التعامل معه، وظروف اعتقاله وسجنه. ويمكن القول إنّ التعليمات تشمل ممنوعات وتقييدات أكثر ممّا تشمل حقوقًا، بل إنّ قائمة الممنوعات والتقييدات هي القاعدة، ومنها منع الاتّصال والتواصل مع العالم خارج جدران السجن؛ فالهواتف ممنوعة. كما تُحَدَّد نوعيّة الزائرين وعددهم وحصرها على الأقارب من الدرجة الأولى؛ ممّا يعني أنّ أسيرًا محكومًا لسنوات سينقطع عن العالم الخارجيّ والبشر، ولن يتعرّف على أفراد العائلة المولدين بعد سجنه، خاصّة إن كان للأسير قريب ذو درجة أولى سجين سابق، فالاحتمال الأكبر أن يُمْنَع من الزيارة، وعليه تقديم طلبات خاصّة لإتاحة ذلك، إن حصلَت على الموافقة.

تُعرّف إسرائيل الأسرى السياسيّين بـ ’السجناء الأمنيّين‘، وقد سنّت عددًا من الأنظمة والتعليمات الّتي تُعرّف ’السجين الأمنيّ‘، وكيف يجب التعامل معه، وظروف اعتقاله وسجنه...

أمّا الزيارات فتجري من خلف زجاج حاجز أو شبك مكثّف، حيث تمنع التواصل المباشر واللمس. إضافة لخضوعها للمراقَبة، وتكون من خلال سمّاعة هاتف معلّقة من كلا جانبَي غرفة الزيارة، إحداها للأسير والأخرى للعائلة، يتناوب أفرادها الزائرون على استعمال السمّاعة وسماع صوت الأسير. والعدد الأقصى للزائرين هو ثلاثة. كما يمنع خروج الأسير أو المعتقل خارج جدران السجن، سواء لعمل أو لمشاركة في حدث مهمّ كزواج أو جنازة، ولمدير السجن الحقّ في إقرارها في حالات نادرة. والكتابة والتراسل محدودان؛ حيث تحدّد الأنظمة عدد الرسائل الخارجة من السجن، لا بل تحدّد عدد الأوراق الّتي يكتبها الأسير ولون القلم؛ فالأحمر والأسود ممنوعان، والقلم المائيّ ممنوع، وهو ممنوع على المحامين الزائرين أيضًا.

كذلك تحدّد السلطات الاستعماريّة قائمة المشتريات والطعام؛ فأغلب الفاكهة الموسميّة والطازجة لا تصل السجن، وهناك من الأسرى المحكومين لسنوات، مَنْ لم يذق طعم البطّيخ والكرز وغيرهما من الفاكهة لسنوات طويلة. وإن تحدّثنا عن الكتابة فلا بدّ من الحديث عن الكتب، وهنا قائمة الممنوعات أطول كثيرًا من قائمة المسموحات؛ فغالبيّة أنواع الكتب ممنوعة، مثل كتب السياسة والدراسة ممنوعة، والكتب الّتي تحمل صورًا لسياسيّين وأعلام خاصّة فلسطينيّة، وتلك الّتي جلدتها سميكة ممنوعة منعًا باتًّا، والكتب الضخمة ممنوعة، وتقريبًا يُسْمَح فقط بالروايات.

تطول قائمة الممنوعات لتشكّل القاعدة، وتتحوّل إلى جزء من منظومة القهر. ويخوض الأسرى إضرابات عن الطعام؛ أحيانًا لتحصيل أحد الأمور من قائمة الممنوعات، ويُعَدّ هذا إنجازًا لمن يعيش حياته أو سنين طويلة من عمره في هذه الظروف.

 

العيش في حيّز أقلّ من ثلاثة أمتار

إضافة إلى كلّ الممنوعات والتقييدات السابقة، لا تتورّع «مصلحة السجون» عن الاستمرار في انتهاك حقّ الأساس للمعتقلين والأسرى والمساجين، في حيّز معيشيّ أدنى. وتنتهك هذا الحقّ كما فعلت على مدار سنوات، بل جاء قرار «المحكمة العليا» الصادر في آخر كانون الأوّل (ديسمبر) 2022، في القضيّة المعروفة بملفّ رقم 1892/14، المتداول في المحاكم منذ 2014، جاء صادمًا؛ حين أتاحت المحكمة للدولة الاستمرار في سجن الأسرى في حيّز 3.5 متر للفرد، خمس سنوات إضافيّة لغاية 2027.

هذا القرار هو عمليًّا إقرار لاستمرار معيشة الأسرى بظروف لاإنسانيّة قاسية ومهينة، تمسّ الكرامة، وتعرّض حياتهم أحيانًا للخطر؛ إذ يتحوّل حجم الزنزانة – وظروفها – إلى شكل من أشكال التعذيب. وكان الملتمسون في الملفّ المذكور قد طالبوا المحكمة بإلزام الدولة رفع الحدّ الأدنى إلى 4.5 م (شاملًا مرحاضًا وحمّامًا) على الأقلّ، حلًّا مؤقّتًا إلى حين رفعه أكثر من ذلك، ضمن خطّة بعيدة المدى.

بيّن الالتماس أنّ الأسير يضطرّ إلى قضاء ساعات يومه في السرير، دون قدرة على الحركة أو الوقوف، ولا يستطيع عدد من الأسرى في الزنزانة على التحرّك في الوقت ذاته؛ بسبب حجم الزنازين الضيّق، وبيّن أنّ هذا الاكتظاظ يخلق حالة من الضغط والاختناق، ويضرّ بصحّة الأسرى، وهو ما تؤكّده تقارير الدفاع العامّ سنويًّا، الّذي يزور ممثّلوه السجون، وكان آخرها في عام 2020، الّذي أكّد أنّ هذا الاكتظاظ فيه انتهاك حقّ الأسير في العيش في حيّز لا يقلّ عن الحدّ الأدنى، وأنّ هذا لا يمسّ فقط بحقوق المعتقلين، وكرامتهم، وصحّتهم، وخصوصيّتهم، بل إنّ فيه انتهاكًا لالتزام الدولة بالامتناع عن العقاب القاسي، اللاإنسانيّ المهين، الّذي يشكّل أحد مبادئ القانون الدوليّ العرفيّ. ويبعد كلّ البعد عن المعدّل المتّبَع في الدول الغربيّة، المتراوح بين 6 و12 مترًا للسجين.

 

سجون «الشباك» وحالة الاستثناء

التعذيب ممنوع وفق القانون الدوليّ مطلقًا، دون أيّ استثناء، وتحت أيّ ظرف من الظروف. وقد ضُمِّن في العديد من الاتّفاقيّات والمعاهدات الدوليّة، والصكوك المهتمّة بحقوق الإنسان، على رأسها «اتّفاقيّة مناهضة التعذيب». ويُذْكَر منع التعذيب في أثناء الاعتقال في «قواعد نيسلون مانديلا» - قواعد «الأمم المتّحدة» النموذجيّة الدنيا للتعامل مع السجناء (القاعدة 1)؛ وفي «بروتوكول إسطنبول - دليل التقصّي والتوثيق الفعّالين للتعذيب»، وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيّة أو المهينة.

وقد أكّدت المادّة رقم 2 من الاتّفاقيّة لمناهضة التعذيب، أنّه على كلّ دولة طرف أن تتّخذ "إجراءات تشريعيّة أو إداريّة أو قضائيّة فعّالة، أو أيّ إجراءات أخرى؛ لمنع أعمال التعذيب في أيّ إقليم يخضع لاختصاصها القضائيّ. لا يجوز التذرّع بأيّ ظروف استثنائيّة أيًّا كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أم تهديدًا بالحرب أم عدم استقرار سياسيّ داخليّ، أم أيّة حالة من حالات الطوارئ العامّة الأخرى مبرّرًا للتعذيب. لا يجوز التذرّع بالأوامر الصادرة عن موظّفين أعلى مرتبة أو عن سلطة عامّة لتبرير التعذيب".

إسرائيل لم تسنّ حتّى اليوم أيّ قانون يمنع التعذيب، ما يتيح لمحقّقي «الشاباك» استغلال الفجوة القانونيّة، واستمرار استعمال أساليب تحقيق قاسية لاإنسانيّة...

لكنّ إسرائيل لم تسنّ حتّى اليوم أيّ قانون يمنع التعذيب، ما يتيح لمحقّقي «الشاباك» استغلال الفجوة القانونيّة، واستمرار استعمال أساليب تحقيق قاسية لاإنسانيّة؛ مُدّعين أنّها لا تصل حدّ التعذيب، أي مايسمّونه بلغتهم ’أساليب خاصّة‘. وكما نعلم من المعتقلين، الّذين كانوا عرضة للتعذيب والمعاملة القاسية والمهينة، أنّ هذه الأساليب الخاصّة ما هي إلّا ضرب من ضروب التعذيب؛ من تحقيق متواصل في غرف التحقيق، وتهديدات، وتقييد موجع لساعات طويلة، ومنع نوم مقصود لأيّام، ووضع المعتقل بزنازين لا تصل الحدّ الأدنى من المعايير الإنسانيّة، تتميّز بالتبريد المرتفع إلى درجة يصفها الكثير من المعتقلين بأشبه بالثلّاجة. تُضاف إليها الروائح الكريهة، وعدم وصول الضوء والإضاءة المستمرّة، والقذارة وعدم التهوية، وما إلى ذلك.

تتحوّل هذه الظروف مجتمعة، يُضاف إليها التحقيق القاسي، إلى نوع من أنواع التعذيب. ويستعمل المحقّقون ما يسمّونه ’تحقيق الضرورة‘، في الحالات الّتي يدّعون أنّها خطرة وأنّ هدف التحقيق إنقاذ حياة بشر، أو حماية أمن الدولة. وإذا جرت مقاضاة هذا المحقّق، واستدعاؤه للمثول أمام المحكمة بتهمة جنائيّة، فإنّه يحقّ لمحاميه من قِبَل الدولة استعمال هذه الحجّة. ولو اقتنعت المحكمة بالحديث عن ’تحقيق الضرورة‘ يحقّ لها أن تعفيه من المسؤوليّة الجنائيّة؛ ليسري عليه الاستثناء المذكور في «قانون العقوبات الإسرائيليّ» لعام 1977 (بند 34 ي. أ).  

وعمليًّا، يكون الالتفاف باستعمال هذه الحجّة على قرار «المحكمة العليا» لعام 1999، في الملفّ الّذي اعتُبِر سابقة قضائيّة في حينه؛ كونه منع بوضوح استعمال بعض أساليب التحقيق الّتي اتّبعها محقّقو «الشاباك» ضدّ فلسطينيّين، في قضايا تعتبرها الدولة "تمسّ بأمنها" - ومن ضمنها القرفصاء بالوضعيّة المسمّاة ’الضفدع‘، ووضعيّة ’الشبح‘، و’الهزّ‘. ورغم أنّ القرار أكّد أيضًا أنّ استثناء "الحاجة/ الضرورة" المضمَّن في قانون العقوبات، لا يمكن أن يشكّل مصدرًا قانونيًّا يعتمده محقّقو «الشاباك» مسبقًا لاستخدام أساليب التعذيب المذكورة، ولا يشكّل أساسًا لتعليمات موجّهة - مسبقًا - لمحقّقي الأمن تخوّلهم استعمال هذه الأساليب؛ بمعنى لا يمكن للمحقّق أن يأخذ إذنًا مسبقًا من مسؤوليه باستعمال هذه الأساليب، إلّا أنّ القرار أكّد، في الوقت ذاته، أنّ بإمكان محقّق «الشاباك» أن يستعمل هذا الاستثناء للدفاع عن نفسه؛ أي أنّ القرار أبقى لهم ثغرة يحتمون بها. 

 

معاقل تعذيب 

ليس صدفة أنّ إسرائيل لم تسنّ، حتّى اليوم، قانونًا يمنع التعذيب بوضوح، ويجرّم مرتكبيه والمسؤولين عن إعطاء الأوامر بتنفيذه، رغم أنّها تعهّدت بذلك حين وقّعت «اتّفاقيّة مناهضة التعذيب». إنّ عدم سنّ قانون يدين التعذيب والمعاملة القاسية ويجرّمه، يتيح للمحقّقين ومصلحة السجون استمرار اعتقال الموقوفين والأسرى، في زنازين لا تفي بالحدّ الأدنى المطلوب، واستمرار التحقيق معهم في ظروف لاإنسانيّة قاسية.

لكنّ الحكومة الحاليّة لم تكتفِ بالوضع القائم، بل قدّمت مؤخّرًا مقترح قانون يعطي حصانة لرجال الأمن حتّى بعد إنهاء خدمتهم، ويحميهم من أيّ عقاب قانونيّ. كما قدّمت حكومات إسرائيل المتتالية مقترح قانون يستثني زنازين معتقلات «الشاباك»، حتّى من الحدّ الأدنى للمعيشة داخل الزنازين، وجُدِّد المقترح على التوالي بين 2020-2022. هذا الاستثناء يجعل من حجم الزنازين وظروفها أدوات تعذيب وضغط أثناء التحقيق.

إنّ عدم سنّ قانون يدين التعذيب والمعاملة القاسية ويجرّمه، يتيح للمحقّقين ومصلحة السجون استمرار اعتقال الموقوفين والأسرى (...) والتحقيق معهم في ظروف لاإنسانيّة قاسية...

وفي ظلّ سياسات الحكومة الحاليّة، ووزارة بن غفير وسلطته على السجون، الّتي بدأها بتطبيق سلسلة من التقييدات، إضافة إلى تقديم عدد من مقترحات القوانين قبل بعضها ضدّ الأسرى، تتحوّل السجون إلى معاقل تعذيب، لا تفي بالحدّ الأدنى المطلوب من حقوق الأسرى والمساجين، وتتحوّل حياة الأسرى إلى جحيم، وليس صدفة أن أطلقت الحركة الأسيرة نداءها الأخير لنصرة قضيّتها، وبدأت إضرابها المفتوح.

 


 

جنان عبده

 

 

 

محامية وفنّانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.