’خارج المكان‘... التنقيب عن ذوات سعيد المتعدّدة

غلاف كتاب «خارج المكان» (1999) بالإنجليزيّة.

 

ما الّذي يدفع رجلًا، في مواجهة شبح الفناء الّذي لا يرحم، إلى الشروع في رحلة استبطانيّة لتأريخ حياته، كما فعل إدوارد سعيد (1935 - 2003) في كتابه «خارج المكان»؟

في عام 1994، وبعد تشخيصه بسرطان الدم، بدأ سعيد بكتابة سيرته الذاتيّة «خارج المكان» (1999)، الّتي سرد فيها طفولته في القدس، مسقط رأسه، ومصر ولبنان، ومن ثَمّ مرحلة المراهقة والبلوغ في الولايات المتّحدة. توثّق المذكّرات الّتي هي بمنزلة "سجلّ لعالم مفقود أو منسيّ"[1]، بنوع من الكثافة، السنوات الّتي قضاها سعيد في هذه البلدان، فيقول: "شعرت بأهمّيّة أن أخلّف سيرة ذاتيّة عن حياتي في العالم العربيّ، حيث وُلِدْت وأمضيت سنواتي التكوينيّة، كما في الولايات المتّحدة، حيث ارتدت المدرسة والكلّيّة والجامعة"[2].

الدافع الآخر، ولعلّه الأكثر مركزيّة بالنسبة إلى سعيد، لكتابة مذكّراته، هو "الحاجة إلى جسر المسافة الهائلة في الزمان والمكان بين حياتي اليوم وحياتي آنذاك"[3]. إذ عاش المفكّر والناقد الفلسطينيّ في القاهرة حياة رفاه ولذّة، حيث وفّر له والده وديع كلّ ما يحتاج إليه من الانتساب إلى أفضل المدارس آنذاك وأفضل الثياب. ومن ثَمّ الاستجمام وقضاء أشهر الصيف في «فندق الكسوف» في ضهور الشوير في بيروت.

يظهر لنا سعيد في المذكّرات طفلًا مشاغبًا، خاضعًا لسلطة الأب والأمّ. لكن، بالنسبة إليه، ثمّة ذات أخرى تتفاعل مع عائلته وأقربائه وأصدقائه؛ الذات الّتي تُدْعى إدوارد. تتحوّل هذه الذات من إدوارد إلى ’إد‘ بعد وصوله الولايات المتّحدة. وبعد مسيرة تعليميّة وتثقيفيّة طويلة، تنبثق ذات أخرى هي أصدق وأكثر أصالة بالنسبة إلى كينونة سعيد الداخليّة. وأتساءل هنا: كيف يمكن لمجموعة من الذوات أن تكون هناك؟ وما الّذي يمكن لهذا السرد الشخصيّ أن يعلّمنا عن أنفسنا ونفتقر إلى معرفته؟ في هذا النصّ سأحاول الخوض في تطوّر الذات في مذكّرات سعيد، ومحاولة فهم علاقة الذات بالمكان والزمان.

 

القاهرة... الذات المتمرّدة

البدايات، كما يقول سعيد، تختلف عن الأصول؛ فالأصل حالة سكون تمهّد الطريق لبداية مرتبطة بعمليّة ديناميكيّة متقدّمة، تستمرّ عبر سياق الزمن، والبداية "ليست فقط نوعًا من الفعل، إنّها أيضًا إطار ذهنيّ، نوع من العمل، موقف، ووعي"[4].

وُلِد الأب في القدس في عام 1905، في ظلّ الدولة العثمانيّة، والأمّ في الناصرة في عام 1912. تزوّج وديع وهيلدا، ووُلِد إدوارد في «حيّ الطالبيّة» بالقدس في عام 1935. في عام 1947، انتقلت العائلة إلى القاهرة، حيث أقاموا هناك. التحق سعيد بـ «كلّيّة فيكتوريا»، وتلقّى تعليمه المبكّر. سكنت الأسرة في "شقّة فسيحة في الطبقة الخامسة من 1، شارع عزيز عثمان، تطلّ على ما يُسَمَّى «حديقة الأسماك»، وهي متنزّه صغير مسوّر ذو تلّة اصطناعيّة"[5].

تبدأ من هنا حياة سعيد وعائلته، فيروي في المقدّمة: "تخترع جميع العائلات آباءها وأبناءها، وتمنح كلّ واحد منهم قصّة وشخصيّة ومصيرًا، بل إنّها تمنحه لغته الخاصّة"[6]. في مطلع هذا التصريح الّذي يذكّرنا بتولستوي في رواية «آنا كارنينا»، ندرك أنّ ما يلي سيكون بمنزلة تأريخ وسرد لملحمة عائليّة فلسطينيّة. إنّ الادّعاء المركزيّ في هذه السطور الافتتاحيّة أنّ جميع العائلات وأفرادها يخترعون أنفسهم؛ أي أنّ الذات والهويّة تعتمدان على عوامل خارجيّة من أجل وجودهما وتكوينهما. علاوة على ذلك، قد تكون هذه العوامل اعتباطيّة أو حتّى متناقضة.

في مشهد القاهرة النابض بالحياة الغنيّ ثقافيًّا، بدأ شغف إدوارد سعيد بالموسيقى والأوبرا بالتطوّر، حيث كانت هذه المدينة الصاخبة تعجّ بالحياة الثقافيّة...

خلال الأعوام الّتي قضاها في مصر، عاش سعيد حياة مترفة. في مشهد القاهرة النابض بالحياة الغنيّ ثقافيًّا، بدأ شغف سعيد بالموسيقى والأوبرا بالتطوّر، حيث كانت هذه المدينة الصاخبة تعجّ بالحياة الثقافيّة، وكانت العاصمة المصريّة مركزًا حقيقيًّا للتعبير الفنّيّ والثقافيّ. في هذه البيئة الديناميكيّة، ترسّخ تقدير سعيد العميق للموسيقى ونما. كان المشهد الثقافيّ المزدهر في القاهرة، بتقاليدها الموسيقيّة المتنوّعة، وثقافة السينما المفعمة بالحيويّة، بمثابة أرض خصبة للصحوة الفكريّة والفنّيّة الّتي أصبحت في ما بعد عنصرًا محدّدًا في حياة سعيد وعمله.

 إلّا أنّ نمط الحياة هذا أدّى إلى تطوير الذات الّتي يصفها بالجانحة، كما يقول في فقرة سأقتبسها بعد قليل. وكان هذا التطوّر جزئيًّا استجابة لأسلوب الحياة الصارم الّذي كان مفروضًا عليه، وخاصّة من قِبَل والده. في الوقت نفسه، كانت علاقته بوالدته رعائيّة، ولكنّها أيضًا قمعيّة ومقيّدة، وتتميّز بعناصر الإكراه والدعم. أدّت هذه الديناميكيّة المعقّدة دورًا محوريًّا في تعزيز الشعور الأوّليّ بالعزلة لدى الشابّ سعيد. في هذا السياق، حدث أوّل لقاء لسعيد مع السلطة، سواء مع سلطة والده أو النظام المدرسيّ، وهو ما أصبح ممكنًا بفضل القوى الاستعماريّة، فيقول لنا الآتي: "هكذا أمسيت جانحًا، أنا إدوارد، مرتكب المخالفات الّتي تستحقّ العقاب، من خمول وتسكّع، الّذي يتوقّع دائمًا أن يُقْبَض عليه متلبّسًا بفعل محظور يستدعي الاحتجاز بعد الدروس، أو بعد ذلك حين كبرت، صفعة قويّة من المعلّم. وقد منحتني «إعداديّة الجزيرة» اختباري الأوّل لنظام مُحْكَم أنشأه البريطانيّون مهمّةً كولونياليّة. كان الجوّ جوّ طاعة عمياء يؤطّرها إذعان بغيض عند المعلّمين والتلامذة على حدّ سواء. ولم تكن المدرسة مثيرة بقدر ما هي مكان للعلم، ولكنّها زوّدتني بأوّل اتّصال مديد مع السلطة الكولونياليّة، من خلال الإنجليزيّة القحّة لأساتذتها وللعديد من التلامذة"[7].

في الفقرة السابقة، تظهر ديناميّات الانضباط والعقاب الّتي تنعكس من خلال علاقات القوّة في المدرسة. كما أنّ في مذكّرات إدوارد سعيد الأصليّة باللغة الإنجليزيّة، يستخدم علامات الاقتباس عندما يشير إلى نفسه باسم إدوارد. يُعَدّ استخدام علامات الاقتباس هذا اختيارًا أسلوبيًّا متعمّدًا يسلّط الضوء على وجود ذوات مختلفة في سرده. ومن خلال وضع إدوارد بين علامتَي تنصيص؛ فإنّه يخلق انفصالًا بصريًّا ولغويًّا بين شخصيّته العامّة وهويّته الداخليّة الأكثر تعقيدًا؛ وهذا يؤكّد فكرة أنّ الهويّة ليست فرديّة بل متعدّدة الأوجه، ولها جوانب وشخصيّات مختلفة.

 

أعوام الاغتراب في الولايات المتّحدة

في عام 1951، وبعد طرده من «كلّيّة فيكتوريا»، انتقل سعيد إلى الولايات المتّحدة والتحق بمدرسة «مونت هرمون» في ماساتشوستس. تميّزت هذه الفترة بالمحوريّة، لا فقط بسبب الشعور بالغربة والتفكّك الثقافيّ، ولكن أيضًا بتطوّر الذات الأخرى والصحوة الفكريّة.

شعر سعيد كأنّه غريب وسط البيئة ذات الأغلبيّة الأمريكيّة، حيث كان يتصارع مع الانقسام الثقافيّ الّذي زاد من وعيه بتراثه العربيّ. وسط التحدّيات، يعترف سعيد بالفرص التعليميّة القيّمة الّتي توفّرها المدرسة، والّتي أرست الأساس لمساعيه الأكاديميّة اللاحقة.

أثّر فهْم سعيد التدريجيّ لحجم النكبة وآثارها العميقة، إلى جانب اكتشاف الروابط التاريخيّة لعائلته بالقدس، بشكل كبير في إحساسه المتطوّر بالهويّة...

كان لهذه الفترة التحوّليّة أيضًا دور حاسم في التشكيل المعقّد لهويّته فلسطينيًّا وعربيًّا وأمريكيًّا؛ وهو ما مهّد الطريق لعمله المؤثّر في قضايا الهويّة والثقافة.

من المهمّ الإشارة إلى أنّ  سعيد شهد أحداثًا تاريخيّة مهمّة خلال حياته، بما في ذلك حريق القاهرة، الّذي شمل سلسلة من أعمال الشغب في عام 1952. وعلى مسار موازٍ، أثّر فهْم سعيد التدريجيّ لحجم النكبة وآثارها العميقة، إلى جانب اكتشاف الروابط التاريخيّة لعائلته بالقدس، بشكل كبير في إحساسه المتطوّر بالهويّة، رغم جميع تعقيداتها: "ولقد امتلكني هذا الشعور المقلق بتعدّد الهويّات - ومعظمها متضارب - طوال حياتي، ورافقته ذاكرة حادّة أنّي كنت أتمنّى بشكل محموم لو أنّنا جميعًا عرب كاملون، أو أوروبّيّون أو أمريكيّون كاملون، أو مسيحيّون أورثوذكسيّون كاملون، أو مسلمون كاملون، أو مصريّون كاملون، وما إلى ذلك"[8]. وقد أدّت هذه الاكتشافات السياسيّة، الّتي سهّلتها إلى حدّ كبير مساعدة عمّته نبيهة الثابتة للاجئين الفلسطينيّين أثناء وجودها في القاهرة، دورًا محوريًّا في تشكيل الأساس الّذي بُنِي عليه التزامه بالدفاع والكتابة عن القضيّة الفلسطينيّة.

يتحدّث سعيد عن هذه الفترة من العزلة الشديدة بنبرة حزينة، لكنّه يتساءل أيضًا إن كانت هذه الفترة من الاغتراب قد ساهمت في تطوّر ذاته، فيقول: "ثمّ إنّ بحثي عن الحرّيّة، وعن تلك الذات المتوارية خلف ’إدوارد‘ والمطموسة به، ما كان ليبدأ أصلًا لولا تلك الصرامة. لذا؛ عليّ أن أنظر إليه بما هو حدث سعيد على الرغم ممّا أورثني من وحدة وتعاسة لفترات طويلة جدًّا"[9]؛ أي أنّه بالرغم من مَقاسي الاغتراب، نجح سعيد في اكتشاف ذاته المستقلّة والناقدة، خاصّة في وقت لاحق خلال أعوام دراسته الجامعيّة، والدراسات العليا في «برينستون» و«هارفارد».

 

الخروج عن المكان

ولّدت هويّات سعيد المتعدّدة الأوجه، الّتي شكّلتها تجاربه في بيئات مختلفة، إحساسًا مستمرًّا بـ "الخروج عن المكان". قادته هذه الحالة إلى العيش في عوالم تتأرجح على حافّة التلاشي، وهي ظاهرة شهدها بشكل مباشر، وشكّلت بشكل أساسيّ تصوّره للزمان والمكان.

يساهم هذا الشعور السائد بالنزوح، الداخليّ والخارجيّ، بشكل كبير، في خوف سعيد من عدم القدرة على العودة إلى جذوره في فلسطين أو القاهرة أو لبنان. في ظلال الموت، يشرع سعيد في مهمّة توثيق هذه الديناميكيّات المعقّدة في مذكّراته، ويؤرّخ بشكل فعّال اضطراب هذه الأحداث والطبيعة المفكّكة للأزمنة.

تُعَدّ المذكّرات، إذن، موقعًا تكون فيه معالجة أنماط مختلفة للوجود في العالم، وتصبح هذه السرديّات ذات وظيفة مهمّة، وهي تنظيم إحساسنا بذاتنا.

مثل التنقيب الأثريّ، يكشف سعيد طبقة بعد طبقة من الذات المتشابكة مع التاريخ والسياسة والثقافة والعائلة...

مثل التنقيب الأثريّ، يكشف سعيد طبقة بعد طبقة من الذات المتشابكة مع التاريخ والسياسة والثقافة والعائلة. في هذه العمليّة، يكون التنقيب عن ذوات متعدّدة؛ فهنالك إدوارد الطفولة في القدس والقاهرة ولبنان، ثمّ هناك إِدْ الأعوام التكوينيّة في الولايات المتّحدة. وأخيرًا، وتحت كلّ هذا، هناك الذات الحقيقيّة في مركز كيان سعيد. هذا التعدّد في الذوات يجعل من الصعب، بل من المستحيل، على سعيد أن يشعر بأنّه في بيته في مكان واحد، ويجعلنا هذا ندرك أنّ الذات ليست مفهومًا ثابتًا بطبيعته، بل هو شيء زئبقيّ، مشروط وتابع لما يحيط به من مكان وزمان، يُبْنى ويُفَكَّك بنفس القدر والسهولة. ولهذا الأمر، بالطبع، تداعيات عديدة. ولكن هل ينبغي ألّا يشعر المرء أبدًا بأنّه في بيته في مكان واحد محدّد، مرتبطًا بفكرة عدم وجود مكان للعودة إليه أبدًا في نهاية المطاف، كما يصرّح سعيد في اعتناق هذا الشرط المتشكّك المتمثّل في شعوره الدائم بكونه "في غير مكانه"؟

 


إحالات

[1] إدوارد سعيد، خارج المكان: مذكّرات، ترجمة: فوّاز طرابلسي (بيروت: دار الآداب، 2000)، ص 19.

[2] مرجع سابق، ص 19.

[3] Edward Said, Beginnings: Intention and Method (New York: Columbia Univesrity, 1985), pp. 22.

[4] إدوارد سعيد، خارج المكان: مذكّرات، ص 21.  

[5] مرجع سابق، ص 47.

[6] مرجع سابق، ص 25.

[7] مرجع سابق، ص 70.

[8] مرجع سابق، ص 27 – 28.

[9] مرجع سابق، ص 357.

 


 

أمير نصّار

 

 

 

طالب ماجستير في «الأدب الإنجليزيّ» في «جامعة تل أبيب». يكتب أطروحته في موضوع العودة في السيرة الذاتيّة، حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة» من الجامعة نفسها.