هوس البحث عن صورة انتصار

حيّ الرمال في غزّة، حيث ميدان «الجنديّ المجهول».

 

في كلّ حرب أو عدوان يبحث الغزاة عادة عن صورة رمزيّة، تعكس حالات محدّدة من تقدّمهم الميدانيّ، صورة تشي بالانتصار والسيطرة، وقد تكون جزءًا من تكتيكات الحرب النفسيّة وأرشيف المعارك المصوّر.

غير أنّ التاريخ المصوّر قد لا يلبّي بالضرورة حاجة الجنود في كثير من الحروب والمعارك إلى تلك اللقطات الرمزيّة، حيث تظهر الصور غالبًا مغايرة لهوس الرغبات العسكريّة، المشحونة بارتكاب الفظائع، متجسّدة بحالات عفويّة من الصمود الشعبيّ والوجع والألم والصراخ العميق؛ ما يجعل هوس الجنود لصورة الانتصار المزعوم يزداد، ويشكّل دليلًا إضافيًّا على بشاعة جرائمهم المقترفة بحقّ الشعوب المحتلّة.

حدث هذا خلال الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وخلال فصول كثيرة من معارك الحرب الباردة، أبرزها سنوات الحرب الأمريكيّة في فيتنام، وقبلها على مدار سنوات طويلة من جرائم الاستعمار الأوروبّيّ في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة والمنطقة العربيّة.

وامتدّت دلالات تلك ’الصورة الرمزيّة‘ لتفضح حقبًا مؤلمة من البطش الديكتاتوريّ، وعنف الاستبداد، وبشاعة العنصريّة والإقصاء في أنحاء مختلفة من هذا العالم، الّذي يواصل الحياة على أنقاض الجرائم.

 

صدام حسين في «ساحة الفردوس»

في غزّة، ومع بلوغ العدوان يومه الحادي والأربعين، ما زال جنود الاحتلال يبحثون عن صورة رمزيّة، تشبه تلك الصورة القديمة لدخول الدبّابات الأمريكيّة في عام 2003 «ساحة الفردوس» في قلب بغداد؛ ليقولوا - كما قال غيرهم - انتصرنا على هذه المدينة التاريخيّة، وقوّضنا بنيتها الديموغرافيّة وملامحها المعماريّة.

لكنّهم في غزّة لن يجدوا ضالّتهم المشتهاة، لن يوفّر لهم أيّ ميدان في المدينة مجسّمات أو تماثيل ليحطّموهما أمام عدسات الكاميرات، كما حدث في ظهيرة ذلك اليوم التاسع من نيسان (أبريل) عام 2003، عندما صنع الجنود الأمريكيّون، بعد عشرين يومًا من المعارك المتواصلة، مشهدًا رمزيًّا مصوّرًا، تمثّل في لفّ أحدهم العلَم الأمريكيّ حول رأس تمثال للرئيس الراحل صدّام حسين، في «ساحة الفردوس»، قبل أن يُحَطَّم التمثال على مرأًى من كاميرات صحافة العالم، في إشارة إلى نهاية المعركة.

 ما زال جنود الاحتلال يبحثون عن صورة رمزيّة، تشبه تلك الصورة القديمة لدخول الدبّابات الأمريكيّة في عام 2003 «ساحة الفردوس» في قلب بغداد؛ ليقولوا - كما قال غيرهم - انتصرنا على هذه المدينة التاريخيّة...

في غزّة لن يكون أمامهم سوى الاعتراف بالفشل في عدم قدرتهم على تدمير روح المدينة، فهم وإن واصلوا صبّ الدمار في كلّ نافذة وبيت، فلن يجدوا أحدًا يخرج إليهم - كما صوّرت الكاميرات آنذاك في بغداد - بهتاف انفعاليّ، معلنًا بداية ’عصر الاحتلال مجددًا‘ أو نهاية ’عصر الديكتاتور‘.

وهم في غزّة لن يستطيعوا أيضًا تمرير تلك البدعة المزيّفة؛ في أنّهم جزء من تحالف دوليّ لنشر مفاهيم الديمقراطيّة الغربيّة في الشرق، أو لنشر مفاهيم ’الديمقراطيّة الأمريكيّة‘ على الأقلّ، المستقاة من تجارب أمريكا الفاشلة في حروبها حول العالم، الّتي تجسّدت بوضوح متجدّد في سذاجة الادّعاء الاستعماريّ التقليديّ والمزعوم، منذ أكثر من عشرين عامًا، حين تباهى الرئيس الأمريكيّ الأسبق، جورج بوش الابن، بمهمّة ’مقدّسة‘ لنشر رسالة الديمقراطيّة في العالم، فوصل جنود المارينز إلى المنطقة، وسقطت معهم خطابات الديمقراطيّة المزعومة، وحلّت معهم  الفوضى الاستعماريّة الممنهجة، وعفونة مستنقعات الطائفيّة، والفساد السياسيّ، ومتاهات الحروب الأهليّة.

في غزّة، يختلف الأمر كلّيًّا، ويختلف السياق السرديّ للحدث، رغم تشابه أطماع القوّات الغازية في كلتا الحالتين في السيطرة، وفي هوس البحث عن صورة ملائمة تشير إلى حالة من ’الانتصار‘.

 

ميدان «الجنديّ المجهول»

ففي ميدان «الجنديّ المجهول»، في قلب هذه المدينة الّذي حاولوا الوصول إليه بالقصف التدميريّ الممنهج، وبهدير الدبّابات الثقيلة وناقلات الجنود المصفّحة، سيحاولون تسجيل مرورهم في صورة عاجلة، يلتقطونها بعد بلوغ اثنين وأربعين يومًا من ضجيج الإبادة الجماعيّة؛ كي يشيروا من خلالها إلى تلك الرغبة المشوّهة في قدرتهم على إعادة احتلال المكان، غير أنّ تلك الصورة ’المتوقّعة‘ والملتقطة على عجل، لن تمنحهم تلك الرمزيّة المشتهاة، ولن تمثّل أيّ شهادة ميدانيّة، توثّق رغبتهم في انهيار المدينة.

في غزّة، في ميدان «الجنديّ المجهول»، وإن هبطوا، من دبّاباتهم ومركباتهم العسكريّة المصفّحة، فلن يكون أمامهم أيّ فرصة من النجاة من الحقيقة؛ فهم - وإن وصلوا قلب المدينة - لن يشاهدوا سوى بلاغة التاريخ تصفع وجوههم، بكلّ ما حملته سنوات الاحتلال والحصار الطويلة من بؤس واضطهاد وغضب.

هنا، في هذا المكان المشرع على الذكريات، تتّخذ القاعدة الرخاميّة العتيقة لتمثال «الجنديّ المجهول» صفة معنويّة بالغة الدلالة، فالتمثال الّذي أقامته بلديّة غزّة قبل أكثر من ستّين عامًا، وتحديدًا في عام 1957، بعد عام من ذكرى العدوان الثلاثيّ على مصر؛ تخليدًا لتضحيات الجنود العرب عمومًا، والمصريّين على وجه الخصوص في فلسطين، وذلك من خلال نحت مجسّم لجنديّ عربيّ في وضع الاستعداد، يشير ’آنذاك‘ بسبّابته اليسرى نحو الشمال في اتّجاه القدس، ويحمل في يده اليمنى بندقيّته القتاليّة. التمثال الّذي دمّرته إسرائيل عندما احتلّوا المدينة في عام 1967، ظلّ إرثه الوطنيّ والمعنويّ راسخًا في الذاكرة، من خلال القاعدة الرخاميّة الثابتة على مرّ الأزمنة.

 

نصب الجنديّ المجهول في مدينة غزّة، المُنْشَأ عام 1957، والمدمّر إسرائيليًّا عام 1967.

 

الرمزيّة هنا اتّخذت مسارًا آخر؛ فحين هوت كتلة التمثال الأسمنتيّة بين أيديهم في حزيران (يونيو) 1967، الّتي هشّموها بانفعال جنود عابثين، بقيت قاعدة الرخام ’الأصليّة‘ لتشهد على سنوات الاحتلال، دون انكسار أو هزيمة، بل على العكس تمامًا، ظلّت منتصبة بكبرياء خفيّ أمام مبنى «المجلس التشريعيّ»، الّذي جعلوه مقرًّا لحاكم غزّة العسكريّ، وقاعدة لجنود الاحتلال، محاطة بأبراج عسكريّة، مدجّجة بكاميرات المراقبة والمدافع الأوتوماتيكيّة الرشّاشة.

بدا ثبات قاعدة التمثال الرخاميّة كأنّه يمنحنا - بعفويّة لا تُنْسى - درسًا يوميًّا خاصًّا حول دلالات التاريخ والمستقبل، نحن أبناء غزّة الّذين وُلِدْنا في الأحياء القريبة من الميدان، وكنّا نزرع خطواتنا كلّ صباح في الطرقات المحيطة بقاعدة التمثال، ومبنى «المجلس التشريعيّ»، و«مركز رشاد الشوّا الثقافيّ»، و«مركز الثقافة والنور»، في ذهابنا المبكّر إلى المدارس.

على مدار كلّ سنوات الاحتلال المشحونة بالاضطهاد والغضب، وما تلا ذلك من تحوّلات سياسيّة ظهرت في منتصف تسعينات القرن الماضي مع إنشاء «السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة»، الّتي أعادت آنذاك - بتعليمات من أبو عمّار - بناء تمثال «الجنديّ المجهول»، على صورته وحجمه السابقين قبل التدمير في عام 1967، مرورًا بـ «انتفاضة القدس والأقصى» عام 2000، وأحداث صيف 2007 المأساويّة، وما شهدته من اقتتال داخليّ فلسطينيّ، وتحطيم مجموعة راديكاليّة التمثال، وما نجم بعد تلك الأحداث عن ظهور حالة مؤسفة من الانقسام السياسيّ؛ اكتسب الميدان خصوصيّة رمزيّة في الوعي الغزّيّ؛ فكان المساحة الملهِمة الّتي دأبت على احتضان الاعتصامات والفعاليّات الشعبيّة، وظلّ المكان الّذي يشكّل نقطة الالتقاء المركزيّة في «شارع عمر المختار»؛ الشارع المركزيّ والشريانيّ، الواصل بين غرب غزّة عند «دوّار الميناء»، وشرقها عند «ميدان فلسطين» و«المستشفى المعمدانيّ»، الّذي تعرّض لمجزرة بشعة؛ جرّاء قصف الطائرات المغيرة لساحته الداخليّة، خلال الأسبوع الثاني من عدوان الإبادة؛ وهو ما تسبّب في مئات من الشهداء والجرحى من النازحين من الأحياء القريبة.

قبل أن يهبط الشارع - الشريان، المطلّ على «ميدان فلسطين» نحو محطّة قطارات غزّة، الواقعة عند بداية «حيّ الشجاعيّة»، الّتي دمّرها الاحتلال أيضًا في عام 1967، منهيًا بذلك سنوات طويلة من التواصل الجغرافيّ المشبع بالحكايات والذكريات، بين غزّة والقاهرة، عبر رحلات القطارات اليوميّة.

 

الخوف من التقويم الغزّيّ

يبحثون الآن، مرّة أخرى، عن صور ’ملائمة‘ في أحياء غزّة، ولعلّ صورة ’ممكنة‘ لجنود محتلّين في ميدان «الجنديّ المجهول»، بكلّ ما يحمله من دلالات في قلب المدينة، يصطفّون من خلالها بغطرسة مقصودة، مع علَم دولة الاستعمار في أيديهم بالقرب من الدبّابات والمجنزرات، بعد قيامهم على مدار الأسابيع الماضية بمختلف أشكال التدمير، ترضي غرور أوهامهم بانتصار لحظيّ على حركة التاريخ.

ولعلّ ما قاموا به قبل أيّام عدّة، عندما حاولت مجموعة من جنود الاحتلال صناعة مشهد ’رمزيّ‘ على بقعة صغيرة من شاطئ غزّة الشماليّ، حيث رفعوا علَم الاستعمار، وغنّوا، والتقطوا الصور كي يقولوا: "وصلنا إلى شاطئ غزّة، وصلنا غزّة!"، كان أشبه بمقدّمات هزليّة في وسط حالة من الدمار الشامل، ذلك الّذي صنعوه حولهم باندفاعهم الهستيريّ، حيث شكّل الغناء الخافت - غناؤهم - والعلَم والصورة والفيديو القصير، مفردات دخيلة وهامشيّة، مقحمة بعنوة الفولاذ القاتل على اتّساع مشهد البحر والشاطئ، بامتدادهما العميق في مكوّنات التاريخ والحاضر والهويّة.

إضافة إلى تلك الحالة من الأداء المتقشّف والمرتبك، لم تعكس تلك الصور ’المفتعلة‘ سوى مزيج من القلق ونشوة مزيّفة، تخفي الكثير من التوتّر والخوف؛ الخوف من هدير رمال غزّة وهوائها؛ الخوف من ’التقويم الغزّيّ‘ الّذي لم يستسلم على مرّ التاريخ لأيّ غزاة عابرين.

كلّ تلك الصور الملتقطة على عجل، والمدفوعة برغبات ساديّة في الاحتلال والتدمير والسيطرة، لا يمكنها أن تصنع على الأرض واقعًا دائمًا من حضور الغزاة، بقدر ما تشير إلى دلالات مغايرة، تفصح دون قصد عن حاجة الجنود الماسّة إلى أيّ رافعة معنويّة...

فكلّ تلك الصور الملتقطة على عجل، والمدفوعة برغبات ساديّة في الاحتلال والتدمير والسيطرة، لا يمكنها أن تصنع على الأرض واقعًا دائمًا من حضور الغزاة، بقدر ما تشير إلى دلالات مغايرة، تفصح دون قصد عن حاجة الجنود الماسّة إلى أيّ رافعة معنويّة؛ قد تتمثّل في ابتكارهم صورة فوريّة تشير إلى ملامح مستقرّة بعض الشيء، وثابتة قدر المستطاع، في وجوه جامدة، تظهر عبر صور عاجلة، تمنحهم بعضًا من ثقة بأنّهم ’انتصروا‘، كما حدث سابقًا في سرديّاتهم الاستعماريّة في عام 1967، وما قبله من معارك.

غزّة المهدّمة حاليًّا بقذائف الاحتلال المجلوبة حصرًا من مستودعات الذخيرة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وغزّة المفرغة قسرًا من أهلها، وغزّة الحقيقة الّتي تتنفّس الآن غبار البارود والفسفور الأبيض وحطام البنايات والأمكنة، لن تكون يومًا صورة ملائمة لجنديّ فوق دبّابة أو بالقرب من مجنزرة عسكريّة في قلب المدينة، يريد لنا أن نصدّق أنّه في حالة انتصار!

تاريخ غزّة القديم والحديث والمعاصر، لا يكفّ عن الظهور بعفويّة من بين الأنقاض؛ ليفصح عن طبيعة غزّة الديناميكيّة الّتي لم تُخْلَق إلّا للحرّيّة، منذ أن نشأت المدينة قبل آلاف الأعوام، وما زالت أسطورة يوميّة للصبر والغضب والحياة.

شهدت منطقة ميدان «الجنديّ المجهول» في مدينة غزّة، واحدة من أشرس المعارك خلال غزوها، إلى جانب معارك حصار «مستشفى الشفاء» القريب من الميدان من جهة الغرب، واقتحامه الهزليّ أخيرًا رغم دمويّته، ومعركة حصار «مستشفى الأطفال» و«مستشفى العيون» في «شارع النصر»، من جهة شمال الميدان.

إنّ غزّة كما تحفظ التاريخ جيّدًا وتصنعه بثبات، تتقن أيضًا فنّ تذكّر التفاصيل وعدم النسيان، جيلًا بعد جيل.

 


 

إيهاب بسيسو

 

 

أكاديميّ وشاعر ومهندس معماريّ فلسطينيّ من غزّة. حاصل على الدكتوراه في الإعلام الدوليّ من «جامعة كارديف» في ويلز. شغل منصب وزير الثقافة الفلسطينيّ، ورئيسًا «للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة»، وهو  يعمل الآن نائبًا لرئيس «جامعة دار الكلمة» للاتّصال والعلاقات العامّة.