اليمن السعيد في ذاكرة فلسطين

من أحياء العاصمة اليمنيّة صنعاء | Getty.

 

كنت طفلًا صغيرًا عندما سمعت أوّل مرّة حكاية جدّنا الأكبر محمّد خضر الحمزة (1880-1928)، الّذي عاد ماشيًا على قدميه من اليمن، تلك الحكاية الّتي بقيت تُرْوى لي كلّما جلست إلى مُعمّر في قريتنا أتتبّع حكايات الناس وخراريفهم؛ فالجنديّ العثمانيّ قويّ البنية؛ عاد من جبهة اليمن ماشيًا على قدميه إلى الشام، يحمل المدفع على كتفه «مدفع متر اليوز»، وفي طريق العودة استوقفه ضابط جريح طالبًا منه أن يحمله بدلًا من المدفع، فردّ عليه: "بل أحملك مع المدفع".

رُوِيَت هذه القصّة مع أخريات للرجل الّذي صار ضابطًا قبل أن يعود من الجبهة اليمنيّة لبلدة عقربا[1] مع انتهاء الحرب العالميّة الأولى، تاركًا خلفه أخاه حسن خضر في مكان ما على جبهات الدولة العثمانيّة، منقطعة أخباره وعلومه. لكنّ محمّد الحمزة لم يكن العائد الوحيد سيرًا على الأقدام من جبهة اليمن؛ فقد عاد غيره إلى قريتهم، وكلٌّ منهم حمل حكايته الّتي سيتناقلها الأبناء والأحفاد جيلًا بعد جيل، ممتدحين أهل اليمن، ومُثْنين على نبلهم وطيب معشرهم؛ وهو ما شكّل علاقة دافئة في الذاكرة عند سماع أيّ خبر جميل عن اليمن[2].

وفي هذه الأيّام يحضر اليمن كثيرًا فلسطينيًّا وعربيًّا وعالميًّا، في سياق حرب الإبادة الإسرائيليّة على قطاع غزّة، حيث يشهد اليمن تظاهرات شعبيّة واسعة دعمًا للفلسطينيّين، كما أنّ الحوثيّين يقومون بأفعال عسكريّة ضدّ مصالح وأهداف إسرائيليّة وأمريكيّة وغيرها، معلنين أنّها تأتي دعمًا لقطاع غزّة وقفًا للحرب عليها.

 

 يمن الأُصول والجذور

ينتسب الناس في قريتي عقربا عمومًا إلى المعالي، وبها يفتخرون، وفي نسب الجذور يتشبّث كثير من عائلات قريتنا وحمائلها بنسبهم العتيق إلى اليمن، واليمن في فلسطين لا يُذْكَر إلّا مصحوبًا بكلمة ’السعيد‘؛ هكذا عرفناه وهكذا توارث الناس حكاية نسب أجدادهم إليه: "إحنا من اليمن السعيد".

اليمن في فلسطين لا يُذْكَر إلّا مصحوبًا بكلمة ’السعيد‘، هكذا عرفناه وهكذا توارث الناس حكاية نسب أجدادهم إليه: "إحنا من اليمن السعيد"...

وقد يكون ذلك صحيحًا من طرق عدّة؛ فالفلسطينيّون الّذين نُسِبَت إليهم البلاد باعتبارهم الكنعانيّين منتسبون إلى بني السميدع بن حمير، من العرب البائدة، الّذين هاجروا من اليمن إلى فلسطين في الحقبة ما بين 3200-2900 ق.م[3].

وقد نزلت القبائل اليمانيّة في فلسطين وبلاد الشام قبل بدء الحكم الإسلاميّ، وتتابع نزولها في صدر الإسلام، وتجدّد نزول قبائل وأفراد من اليمن إلى فلسطين إلى وقت متأخّر من تاريخ فلسطين العثمانيّ، كما تروي بعض العائلات في تاريخها الشفويّ.

يروي كبار السنّ في بلدة عقربا أنّهم من نسل القبائل اليمانيّة، وخصوصًا قبيلة لخم. ولذا؛ ظلّوا طوال الوقت يمانيّي النزعة والولاء حتّى نهاية العهد العثمانيّ، ويستذكرون قصصًا لخلافاتهم مع القبائل القيسيّة في القرى المجاورة. وهي رواية تؤكّدها المصادر التاريخيّة الّتي تشير إلى نزول قبيلة لخم في عقربا، وأنّ من أبناء هذه القبيلة كان التابعيّ المحدّث محمّد بن عاصم اللخميّ[4].

وإلى وقت قريب، كان الزجّالة والقوّالة الشعبيّون يفتخرون بأصولهم اليمنيّة في أعراس القرية، ومن ذلك قولهم في العتابا افتخارًا بقدم معرفتهم في فنون الشعر والأدب:

بِساحِةِ الْفَنِّ إِحْنا اللّي صُلْنا وجُلْنا

مِنْ أَرْضِ جْدودِ الْعَرَبْ أَصِلْنا وْفَصِلْنا

وعَ  هَالْبَـلَدْ مِنِ الْيَمَنْ لَمّـا وِصِلْـنا

عَلَّمْنا أَهِلْها نَظْمِ الشِّـعِرْ وْقولِ اْلأَدَبْ

 

 وعن هذه القرابة القديمة الجديدة، يروي بعض معمّري السنّ في عقربا أنّ مجموعة من الشباب الّذين ذهبوا إلى الحرب في اليمن أيّام الدولة العثمانيّة، تركوا الجيش والتحقوا بأقاربهم، وأقاموا عند أبناء عمومتهم، فوجدوا من الترحاب وحسن الاستقبال ما أقعدهم هناك، فصاروا في اليمن من أهلها كما كانوا قبل هجرة أجدادهم إلى فلسطين. وفي جزء من بيت عتابا ما يشير إلى ذلك:

يا نَفْسي بْأَهْلِ الْيَمَنِ تْوَلَّعْتي

هَذولَ عِزِوْتي، وْعِزِّ لَصْحاب

 

غربة بلاد اليمانيّ

ارتبط اليمن السعيد بحكايات الناس وأشعارهم بالبُعْد الجغرافيّ، رغم قُرْبِه القلبيّ والفخر بالانتساب إليه. ومن بُعْدِه الجغرافيّ في المتخيّل الشعبيّ أنّهم تصوّروه مكانًا ينقطع فيه مَنْ بلغه عن موطنه الأصليّ، وأنّ مَنْ وصله وبلغ أرضه نجا من الملاحقة لعلوّ جباله ووعورة دروبه وبُعْد مسافته. فوُصِفَت تلك البلاد النائية في شعر الناس وحكاياتهم بأنّها: ’بلاد اليماني‘، وأنّها سبيل الهاربين من قيود المجتمع الّذين يتمرّدون على منعهم من الزواج من حبيباتهم؛ ولذا يتوعّدون بخطفهنّ والهرب بهنّ إلى تلك البلاد، فنسمع قولهم في الدلعونا:

تُحْصُد في الشُّبْرُق تُحْصُدْ في الشُّبْرُقْ

دبّوسِ الذهب عَ الصَّدْرِ بْيُبْرُقْ

واللهِ لاخُـْذ حَـبـيبـي وَاهْرُبْ إمْـشَــرِّقْ

وإلّا عَ بـلادِ اليمـاني مـا يعـرفـونـا

 

وقولهم:

نَسَّمِ الْهَوى الْغَربي مِنِ إِمْغَرِّبْ

وْقَلْبي ما بُعْذُرْ غيرِ لِمْجَرِّبْ

واللهِ لأوخِذْها وأظلّ مِتْغَرِّبْ

لَوْ عَ بْلادِ اليَماني ما يِعِرْفــونـــا

 

بل إنّ الشعر الشعبيّ الدارج في القرية يقول بوضوح للمحبوبة الّتي ستغادر مع زوجها؛ هربًا إلى ’بلاد اليماني‘، بأنّ والدها وأهلها سيعجزون عن اللحاق بهم في تلك البلاد البعيدة:

حُطّي يَدِّكْ بْيدّي وْعَ بْلادِ الْيماني

بيكِ المِسْعَدْ شو بِقْدَرْ يْساوي 

بْنِرْعي غَـنَـمْ سَـوا، وُبِنْدُقّ القَهاوي

مِن خــوفِ الْأَهِـــــلْ لا يِعِـرْفــونــا

 

ثمّ إنّ الذاكرة الشعبيّة لحمائل عقربا السبع، الّتي ينتسب بعضها إلى اليمن السعيد - كما يقولون - أنتجت مثلًا شعبيًّا دارجًا يرتبط بأصولهم، ويعبّر عن بُعد المسافة وانقطاع الخبر عن تلك البلاد، وذلك حين قالوا للفتاة الّتي ستتزوّج في مكان بعيد عن قريتها وأهلها: "طلعت قُرعتك عَ تُهامة"، وتهامة جبال في أطراف اليمن السعيد.

الذاكرة الشعبيّة لحمائل عقربا السبع (...) أنتجت مثلًا شعبيًّا دارجًا يرتبط بأصولهم، ويعبّر عن بُعد المسافة وانقطاع الخبر عن تلك البلاد...

يقولون في القرية إنّ مجموعة من الشباب قصدوا تلك الجبال أيّام الدولة العثمانيّة، فانقطعت أخبارهم هناك إمّا موتًا وإمّا طاب لهم المقام فأقاموا، والتشبيه هنا بأنّ الفتاة الّتي سيكون نصيبها بالزواج بعيدًا عن قريتها ستنسى وينقطع خبرها، تمامًا كأولئك الرجال الّذين ذهبوا إلى جبال تهامة.

ويُعَبّر عن ذلك أيضًا في الغناء الشعبيّ الّذي يصف الحرب على اليمن من قِبَل العثمانيّين ’الترك‘، والّتي سيق الشباب من القرية إليها مجبرين من غير رغبة منهم. ولذا نجد الشعر يصف اللوعة والبكاء وتنمي بعد اقتيادهم للحرب:

أنا لأعِنْ عَنّي بَعِدْ عَنّي

عا حَبيبي في تُهاما لبعيـد عَنّي

حَرب التُّرك حِيدي عَنّي

دخيلك تغيّر لونّا ولونَ لحباب

 

صلابة السيوف اليمانيّة

ارتبطت السيوف اليمانيّة في أذهان الشوام عمومًا، وأهالي قرى فلسطين خصوصًا، بأنّها سيوف صلبة ومتينة، ولذا، كان الواحد منهم يفتخر بأنّ سيفه يمانيّ الصناعة، فيُقال ’مهنّد يمانيّ‘. بل إنّ من عادات الرجال في قرى منطقتنا حمل الخناجر، حتّى أنّهم كانوا يعيبون على الرجل الخروج من بيته بلا خنجر على وسطه، وأفخر خناجرهم اليمانيّة الّتي تأتي بخاصّة للرجال الفُتوّات. ومن أمنيات الفتيان في القرية كما وثّقت في سيرة الشهيد حمزة البلهوان (1950-1983) أن يكبر ويتحزّم بخنجر يمانيّ، ويزهو به أمام أقرانه.

ونسمع في الدلعونا الشعبيّة على لسان الفتاة العاشقة ألمها وحنينها لغياب محبوبها وسفره لبلاد الشام:

 حَنيني يا يُمّـا حَنيني

سـافَرْ حَبيبي ونَصيبي

حَنيني لَمَحْبوبي بِالشام

يِتْمَخْتَرِ بْسيفُه اليَماني

 

وقد بلغ الأمر أن تكون ممدوحة لدى الفلّاحين تلك الأدوات الّتي تُصْنَع في اليمن، مثل الشاعوب أو الدقران الّذي يُسْتخدَم في درس قشّ القمح على البيادر؛ فاليمانيّ من هذه الأدوات صلب متين، عزيز على صاحبه. ولعلّ أطرف حكاية تُرْوى في عقربا حتّى اليوم عن أحد الجنود الّذين كانوا في جبهة اليمن، فلمّا قرّر العودة إلى قريته اشترى شاعوبًا يمانيًّا، وحمله إلى فلسطين؛ فالجنديّ خضر يوسف أبو لحية عاد إلى قريته ماشيًا على قدميه من اليمن، وفي يديه شاعوب القمح اليمانيّ، وقد تحرّز عليه طوال حياته، ومنع إعارته لأيٍّ كان حالفًا على ذلك يمينًا؛ لأنّه من ذكرى اليمن السعيد. بل أوصى أيضًا كما يقول أحفاده: بحفظ هذا الشاعوب. وفي ذلك كان يُقال:

شاعوبي مَحْلوف عَليهْ ما بَعيرُه

جاني مِلَفلَفْ مِنْ بِلادَ اليَماني

 

مشيًا على الأقدام

 في سيرة الرجال الّذين عادوا إلى قرية عقربا من اليمن السعيد، هناك إجماع على عودتهم مشيًا على الأقدام، وهذا طبيعيّ في تلك الفترة لانعدام المواصلات. من حكايات هؤلاء الرجال العائدين مشيًا على أقدامهم قصّة طريفة للجنديّ ناصر صبّاح (1878-1979)، وكان من جملة أبناء القرية الّذين ساقهم القدر إلى اليمن السعيد مع الجيش العثمانيّ. لمّا غادر اليمن أخطأ الطريق فوجد نفسه في منطقة تسكنها السَّعادين (القردة)، فكاد الرجل يموت خوفًا منها؛ إذ أحاطت به باستغراب مصدرة صوتًا جماعيًّا، وفجأة تقدّم نحوه كبيرهم، فأشار إليه ثمّ مشى أمامه كأنّه يرشده إلى الطريق، وبهذه المساعدة من السَّعادين نجا الرجل من الموت، وواصل طريقه إلى قريته، فوصلها نهاية الحرب العالميّة الأولى. وحتّى اليوم يتناقل أحفاده قصّته، وعموم أهالي البلدة.

ثمّة حكايات كثيرة، وذكريات لا حصر لها، لم يُكْتَب لها التدوين، وبقيت حبيسة صدور الرواة عن اليمن السعيد، وذكريات مَنْ عرفه وبلغ ترابه الوفيّ...

وفي جزئيّة من حكاية جدّنا محمّد الحمزة في اليمن، أنّه زار يومًا إحدى القرى اليمنيّة، فكان من جملة مَنِ التقى بهم في تلك القرية عجوز يمنيّ معمّر، فلمّا عرف أنّ ضيفهم من قرية عقربا قضاء نابلس، سأله: هل تعرف كم طاقة (شبّاكًا صغيرًا) في القبّة وسط قريتكم عقربا؟ الأمر الّذي تعجّب منه محمّد الحمزة؛ إذ كيف يعرف هذا العجوز اليمنيّ قرية عقربا وتفاصيل قبّة مسجدها؟ ويومها قال له العجوز: إنّ عدد طاقات القبّة ثمانٍ، وحين تعود إلى القرية تأكّد منها؛ الأمر الّذي ظلّ لغزًا إذ لم يعرف جدّنا يومذاك سرّه؛ وهو ما جعل البعض يتحدّث عمَّنْ رحل إلى اليمن، وبقي هناك مسحورًا بجميل طباع أهل اليمن وشهامتهم.

ختامًا؛ ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمّة حكايات كثيرة، وذكريات لا حصر لها، لم يُكْتَب لها التدوين، وبقيت حبيسة صدور الرواة عن اليمن السعيد، وذكريات مَنْ عرفه وبلغ ترابه الوفيّ، فضلًا على حكايات الّذي بلعتهم تلك الحروب هناك وانتهى أمرهم، وكما قيل فيهم: "لا هم طالوا عنب الشام ولا بلح اليمن". ولعلّ هذه السطور تدفع غيري لتتبّع حكاياتنا، وذكريات الأجداد عن اليمن السعيد، الّذي يشكّل حالة وفاء نبيلة لفلسطين ونضالها لأجل الحرّيّة.

 


إحالات

[1] عقربا: بلدة فلسطينيّة تتبع محافظة نابلس، وتبعد عنها 18 كم، وتقع في شفا الغور في السفوح الشرقيّة لسلسلة الجبال الوسطى، وتمتدّ أراضيها شرقًا حتّى نهر الأردنّ، وقد بلغ عدد سكّانها حسب التعداد العامّ للسكّان والمساكن والمنشآت عام 2017: 10,024 نسمة. وتتكوّن البلدة من سبع حمائل، والجزء الأكبر من أهالي هذه البلدة مغتربون، خاصّة في الأردنّ.

[2] هذه وما بعدها من معلومات وقصص سُجِّلَت في مقابلات شفويّة من: 1- الحاجّ حسن أحمد أبو ناصر (1919- 2013)، مقابلة بتاريخ: 16\3\2012. 2- الحاجّ عادل عبد العزيز أبو طربوش (1919- 2014)، مقابلة بتاريخ: 14\3\2012. 3- الحاجّ سلامة محمّد نجم (1921-2013)، مقابلة بتاريخ 17/1/2009.  4- الحاجّ أسامة خضر محمّد الحمزة (1955-2018)، مقابلة بتاريخ: 15\7\2017. 5- الحاجّ نوّاش عايش أسمر الحمزة (1947-2023)، مقابلة بتاريخ: 15\7\2017.

[3] هاني حسين أبو الربّ، تاريخ فلسطين في صدر الإسلام، (القدس: منشورات بيت المقدس، الطبعة الأولى 2002)، ص 16.

[4]  مرجع سابق، ص 168، 404.

 


 

حمزة العقرباوي

 

 

حكواتيّ فلسطينيّ، يهتمّ بجمع الموروث الشعبيّ وما يرتبط بالحياة اليوميّة في فلسطين، من أمثال وأهازيج ومعتقدات وقصص شعبيّة. ينظّم جولات معرفيّة لربط الإنسان بالجغرافيا الفلسطينيّة عبر القصص. يكتب المقالة الثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.