ولي منفاي

منفى القلب الدّاخليّ | باتريشيا بوست

للمرأة النّضرة سمة الخمر المعتّق، هي امرأة لم تبدأ حياتها بولادتها الّتي نعرفها، بدأت مع رسم الجنّة، وما الشّجر والأنهر هناك سوى تضاريس أجرّب تخيّلها.

كلّما فاضت عليّ الرّؤيا وجدتني أصف أكثر، ويَصْدُقُ وصفي ولا يَصْدُقُ، كما يبزغ الحلم ولا يبزغ.

أبدأ من رسم الجنّة، ومع الجنّة كان الضّدّ، كانت النّار تندلع منها. اندلعت من أوّل نشوة عبرتها، وتندلع... وهناك امتزجت الصّرخات بالصّرخات والهمسات بالهمسات، وباتت الأرض حبلى بالرّبيع والكسل. كسل يؤطّر الحلم كلّما طار طير من جبل إلى جبل، وما حطّ في رحلته على أصغر التّفاصيل في الخارطة.

*****

مقدّمة قد لا تصلح للكتابة الأدبيّة البارزة في عصرنا، لكنّها كتابة تحتاج حالة من الكذب، نموذجيّة، لا يتجنّب فيها الكاذب كذبته، ولا يراوغ حين يقولها.

هذه الكذبة الجديدة المكتوبة بقفزات العصفور، لا تحتاج أنثى عاديّة، تحتاج امرأة صاغت نفسها بنفسها، وباتت هي مصدرًا وكذبة ومجازًا. وهي الواقع حين تحتاج الكتابة للغرور، كأن تقول للثّغر أنت ثغر، وأن تصف الابتسامة بابتسامتها، دون إضافات من قبيل: إذا ابتسمت أزهرت خدود الحديقة.

*****

يجرّب هذا النّصّ أن يذهب إلى مكان ما، يعرف كاتبه جيّدًا، أين يريد الوصول به وعبره، لكنّه يطيل الصّمت فيه، حتّى تستقيم الحكاية وتستريح اللّغة قليلًا، كي تقترب الأنثى من النّصّ بهدوء مشيتها، وتبتعد أيضًا بذات الهدوء، لأصرخ صرخة الصّوفيّ في هذا النّصّ: 'ابتعد قليلًا لأراك'...

تبتعدين إلى أقصى ما يستطيع الثّلج أن يترك القلب دافئًا في صقيع المدينة الغريبة.

*****

ليست المدينة أكثر من محطّة جديدة يئنّ فيها العمر بانتظار حافلة تقلّ السّنوات الباقية، سنوات مجهولها كمعلومها، وحاضرها كقادمها، لذا تكتفي الأيّام بصناعة نفسها باحتراف الرّواية، أي بواقعيّة مفرطة، وبحساسيّة الشّعر.

المدينة تقتسم اللّحظات بين القلب والرّوح، وتدور بينهما لتلمّ فتات النّظر على الذّكريات. الوحدة واللّيل تفصيل مهمّ للخلود إلى السّرير، حيث لا يسعف ارتخاء الجسد، رخاوة روح، تخرج لتسكن مرآة في الغرفة، تقتسم ذاكرتي معها.

*****

مذ مضيتِ قبل سنوات في الجامعة واسترحتِ تحت شجرة تعجبكِ لما تشكّل لكِ من عزلة عن المحيط، تذهبين إليها بين حين وآخر.

تذهبين إلى تلك الشّجرة، وهناك إن مسّتك الشّمس، كنت تمسكين أطراف خيوطها فتبرد وتطير معك كطيّارة ورقيّة بيد طفل يلعب. هذا أنت حين تهربين من الحياة إلى حياتك.

هناك في ذاك الظّلّ وتلك الشّجرة، لم يكن ثغري ناي الكلام، ولا يدك كمنجات السّلام، كنّا أبناء البعد أكثر، لكنّي ورغم ذلك، كتبت يومًا في يوم ميلادي: عرس للبنفسج وحدائق للسّنديان، تلويحة امرأة بمنديلها للكمنجات.

لم أعرف من كانت تلك المرأة، ولم تعرف المرأة أنّي كتبت منها لغة وجع مزمن.

كان ميلادي السّادس والعشرين، وكنت حينها أضاجع دمشق بأناة لأستجلب صرختها مرّة تلو المرّة، ولم أحاول غوايتها في أيّ مرة، فكلّ من أتاها كاتبًا، أغواها، وقد اعتادت، وأبقت التّاريخ جالسًا على ركبتيه أمام جلالها، وكلّ شاعر يقف حولها مثلما أوقف أفلاطون فلاسفة الجمهوريّة.

كتبت لدمشق، كما لم أكتب لمدينة، لا لكثرة النّساء اللّاتي عرفتهنّ فيها، ولا لقبلات جميلة سرقناها في الشّوارع المواربة بتواطئ الشّمس.

كتبت لدمشق، لأنّ في متحفها قصائد كثيرة لم أكتبها، ونثر جميل نثرته على شجر كثيف في الحديقة، ربّما نبت الآن، وربّما فتاة ممّن عرفتهنّ انتبهت، فاستظلّت بنثري، لتقطفه، وتكذب على نفسها، أنّي كنت هناك معها يومًا أكتب عن عينيها.

*****

رغم ما كتبت وصغت ونثرت، إلّا أنّ امرأة في البعيد الآن، ربّما في دمشق أو أيّ مكان له عيون الحبّ، تقرأ ما نسجت بأنفاسي، وأقصد ما داعبت أصابعي شفتيها.