العمود المُعَظَّم

عدسة: علي بو خليفة

سهيل كيوان

مدخل إحدى القرى عمود كهرباء شهير، تعود شهرته لكثرة تورّطه في حوادث الطرق، فالعمود يقف وسط الطريق، ولا يمرّ شهر حتّى يفاجئ سيّارة عابرة ويصدمها! في العقود الأخيرة، قتل العمود، وفق إحصاء رسميّ، تسعة أشخاص من أبناء القرية وأكثر من ضعفهم من الوافدين إليها الذين يفاجئهم العمود بوقوفه وسط الشارع، وتورّط بمئات الحوادث التي أسفرت عن مئات الجرحى، وبلغ إجمالي ضحاياه حوالي ثلاثين إنسانًا فقدوا أرواحهم في العقود الثلاثة الأخيرة، ومئات الجرحى، عدا عن الخسائر المادّيّة الكبيرة.  

أطلق أهل هذه القرية الوادعة عليه لقب 'العمود المعظّم'، لأنّ قضيّة العمود تطفو على السطح قبيل كلّ انتخابات محلّيّة، واحدًا من الأهداف الكبيرة للمرشّحين الذين يعدون بتخليص الناس من أذاه، إذ يجب مقاومته والانتصار عليه ونزعه من مكانه للتخلّص من مخاطره، وذلك في حال فوزهم، ويشترك بهذا المعارضون والمؤتلفون، القوائم الحزبيّة والعائليّة. لكن بعد 35 عامًا، لم يتحرّك العمود من مكانه! فهو ما زال يمارس عدوانيّته وساديّته كلّما طاب له الأمر، فلا يكاد يمرّ شهر دون أن يهاجم سيّارة، ولا يمرّ عام دون ضحيّة أخرى من ضحاياه.

ورغم المناشير الكثيرة والبيانات المندّدة بالعمود وتصرّفاته، فإنّه لم يتزحزح من مكانه، بل، وبكلّ وقاحة وفي تحدٍّ واضح، أعلن أنّه لن يتحرّك من مكانه طالما أنّ أهل البلدة لم يحرّكوه بأنفسهم!

عندما وقعت الضحيّة الأخيرة للعمود، ذهبت لتقديم واجب العزاء وسماع قصّة العمود الذي يعتدي على الناس الآمنين!

في بيت العزاء، وعندما ذكرت عمود الكهرباء، وقف أحدهم فجأة وقال لي بغضب: رجاء لا تقل عمود كهرباء... بل قل العمود المعظّم... هكذا نسمّيه في قريتنا، ومن يحترم عمودنا نحترمه.

وما لبث أن راح بعضهم يتمتم ويردّد: نعم إنّه العمود المعظّم... قال خوري القرية: 'بلا شكّ إنّه عمود عظيم، وإلّا فما السرّ الذي يبقيه هكذا وسط الشارع دون أن يتزحزح من مكانه منذ عقود، رغم كثرة ضحاياه! وأيّد كلامه شيخ القرية ومدير المدرسة ورئيس المجلس البلديّ وكلّ الحضور دون استثناء!

 لقد بات العمود المعظّم من معالم البلدة، وهو مثل النيل لدى قدامى الفراعنة الذي يجبي منهم ضحيّة في كلّ عام... ويظنّ الناس أنّ النور سيختفي من القرية إذا أزيح العمود من مكانه... أو أنّ لعنة ستحلّ بالبلدة إذا ما جرؤ أهلها على نقله من وسط الشارع إلى حافّته مثلًا، بل إنّ أحد المهندسين الذي رسم خطّة لنقله أصيب بمرض غريب، وما زال العمود صامدًا راسخًا في مكانه رغم أنّه بات هرمًا وعلاه الصدأ، بل قادرًا على مهاجمة العابرين. الآن يفكّر أهل البلدة بجدّيّة في إقامة تمثال على شكل عمود إلى جانب عمودهم المعظّم، تخليدًا وإكبارًا وإجلالًا له، وقريبًا سيصبح لديهم بدلًا من عمود واحد عمودان...