المدن المنسيّة

إدوارد هوبر

 

في المدن المنسيّة يصحو الإنسان على تحدّيات بسيطة، كمعنى ضوء الشمس على سريره، وجدوى انتظاره للردّ على إحدى الرسائل، يتابع أخبار منحة ما، ويلقي نظرة خاطفة على أخبار السياسة العالقة، وينسى أن يحمي نفسه من البرد لأنّ نشرة الطقس ضاعت بين كلّ ذلك. أبيات من الشعر ملقاة على مواقع التواصل تحرّك أعصابه قليلًا، يتذكّر جدول اليوم، وهو سيكون نسخة من الانتظار أيضًا.

عندما تحيا في المدن المنسيّة تحتفل بداية العام بأكثر من ثلاثمئة نسخة من أيّام ملوّنة بالانتظار، لعلّه يكون اللون الأصفر نفسه الذي طغى على لوحات فان غوخ في انتظار أن يدرك، أو يكون منعدم اللون، كالماء.

عندما تقضي أربعًا وعشرين ساعة في مدينة الظلال، تصير تحلم أحلامًا عملاقة أشبه بالأساطير، عصيّة على التحقيق، لأنّ خيط الواقع والوهم قد التحما... وأحيانًا تصاب بانسلاخ حادّ، وتصير أحلامك مثل حلم طائر نورس بسيط في أن يعود إلى مأمنه قبل رحيل الدفء عن الأرض. وما بين قطبي الأحلام هذين، يتراوح القلب ويتعذّب، ولا يستقرّ أبدًا، ويصير الزمن مؤجّلًا بعض الشيء، لأنّ الظروف غير ملائمة لتحقيق ما نريد، والجميع يعزّونك بتجاربهم التي لا تختلف جوهريًّا عن تجربتك؛ فالجميع قد حصل على مؤونته السنويّة من مخدّر الانتظار، وها هو ينتظر...

أيكون الأمر أنّنا عبرنا إحدى لوحات إدوارد هوبر التي عكست أبطالًا وحيدين ومنسيّين في حياة المدينة الموحشة، تلك التي تعيد للذهن شكوكًا كثيرة حول الحضارة والتقدّم وكلّ التكنولوجيا المتصاعدة؟ ليس الفنّ وحده ما ينجو من فخاخ التقدّم، ثمّة مدن تشبه هذه اللوحات أيضًا، لكنّها، خلافًا للوحات هوبر، لا تعكس بطلًا وحيدًا، إنّما سيولًا من البشر الذين يحدقون في وجهة بعيدة، منتظرين أن يلوح ضوء جديد من خلف جدران المدينة.

في المدن التي نسيها العالم كي يورثها هامش التاريخ، يحيا بشر أيضًا، لهم ملامح الإنسان العاديّ، ولهم عاداته وأخطاؤه وتقلّباته، ولهم أمجاده، يذهبون إلى الجامعات والمدارس، لكنّهم أقلّ حرّيّة إذا استدعى الأمر رقصة حرّة، وأكثر خجلًا إذا أراد أحدهم أن يصرخ، أو يغنّي، أو يعترف بحبّه. وهم أيضًا محكوم عليهم بأن يناموا ساعات أطول كي يعتادوا قليلًا من الموت المؤجّل، ويحملون في أعينهم، بشكل مزمن، تلك البقعة السوداء التي تحدّث عنها جيرار دي نرفال، التي تصيب من يحدق في الشمس أو المجد طيلة الحياة كلعنة، ونضيف في حالتهم التحديق في حدود مفتوحة وحرّة، لا أكثر.

وفي تلك المدن يتشابه الناس كثيرًا كي ينسجموا في مشهد الانسحاب الرتيب، ويتناقلون الثقافة نفسها والتفاعل نفسه على مواقع التواصل، يضخّمون القضايا الصغيرة ذاتها كي يشعروا بما يودّون لو يشعرون به حقًّا منذ زمن؛ التفاتة حنونة وصادقة لا غير، دون جدوى... ويتسلّون بالتنبّؤ بحروب قادمة على الدوام، لأنّ ذلك التأهّب من فَقْد الحياة بات محفّزهم الأكبر على فعل شيء، وتجرّع مزيد من الانتظار.

المدن المنسيّة قد تحمل عبء القضايا أيضًا، كالمجنون الذي استمرّ بالركض دون أن يدرك إلى أين في آخر قصيدة كتبها نيتشه، وقد تسقط وتنهض دون يد ألف مرّة... وهي أيضًا تقاتل ولا تلقي بنفسها تحت عجلات قطار العالم الذي نسيها ليسحقها. المدن المنسيّة التي تسكن وطنًا عظيمًا لن تصنع من يأسها سوى بساط عملاق ستخطو فوقه أقدام أهلها نحو حرّيّتهم، وهم يبتسمون لأغنية بسيطة، فتحطّ على أكتافهم فراشات التعب حينذاك.

ولهذه المدن المنسيّة أسماء كثيرة حتمًا...كتلك التي لمدينتنا الصغيرة؛ غزّة.

* اللوحة للفنان ألما تادما بعنوان: التوقعات

 

 

آية رباح

 

طبيبة وكاتبة من غزّة، تخرّجت في كلّيّة طبّ فلسطين عام 2017. فازت بعدّة مسابقات للقصّة القصيرة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وتنشر المقالات والقصص في مواقع ومجلّات فلسطينيّة وعربيّة.