ثلاث دودات في مشرحة: نضال الفقعاوي (1/ 3)

نضال الفقعاوي (في الوسط)

 

منذ فترة ليست قريبة، يعيش الكتّاب الشباب في غزّة ظروفًا قاسية، في ظلّ حالة التجاهل والتهميش، وانعدام الفرص والنوافذ، وشحّ الموارد والإمكانات، والحصار الثقافيّ والمعرفيّ المفروض، عدا المنظومة المجتمعيّة الّتي تحيط خاصرة الطاقات الأدبيّة الشابّة بحزام التقاليد والموروث، وحيّز اليقين، والرفض المطلق لأيّ إرادات تفكير جديدة وحداثيّة. ربّما هي حالة مذهلة من الخراب الروحيّ والفكريّ والمعرفيّ، الّتي تأخذ بالشعراء والفنّانين بشكل أكثر خصوصيّة؛ لأنّهم الأكثر انكسارًا على مدار سنين مضت؛ لهذا بدت الحاجة ملحّة لديهم للتمسّك بإرادة الرفض، ليس المكانيّ منه فحسب، بل الواقعيّ أيضًا.

وإن كان انعدام الخيارات بالنسبة إليهم يمثّل إعدامًا للأفق الظاهر وغير الظاهر، بل إنّه يُعَدّ تمسّكًا غير محسوب بخيار "انعدام الخيار" نفسه، فالشعر كان دومًا المكان الأرحب، الّذي يستوعب بمعناه الواسع طاقات الرفض والتمرّد لديهم، بوصفها واحدة من سمات الخطاب الشعريّ الحيّ والمعاصر، تتحكّم في عمليّة إنتاج الدلالة النصّيّة في قصائدهم، ما داموا يملكون القدرة على رؤية العالم رؤيةً فاحصة واعية من بعيد.

وقد آثرنا أن نختار ثلاثة شعراء غزّيّين، برؤًى وتطلّعات متباينة، رغم تجاورهم في أماكن إقامتهم، وكانوا قد حازوا على جوائز ثقافيّة وإبداعيّة في حقل الشعر، من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"؛ لإجراء حوارات خاصّة معهم، ستُنشر على التوالي في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، هم: نضال الفقعاوي، وأنيس غنيمة، وحامد عاشور.

 

*****

 

"ظهيرة: قصائد في عربة الإسكافيّ"، مجموعة الشاعر نضال الفقعاوي (1985)، من مدينة خان يونس، والحائزة على جائزة الكاتب الشابّ الّتي تمنحها "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، وهي أرفع الجوائز الثقافيّة الفلسطينيّة المعنيّة بجيل الشباب، قال فيها محكّمو اللجنة إنّها تقدّم صوتًا شعريًّا حرًّا ولافتًا، بلغة سليمة تتمتّع بغنًى إيقاعيّ وعمق تأمّليّ، واشتغال على الموضوعات الهامشيّة الّتي لا يلتفت إليها كثيرون.

كلماتي قليلة،

أيّها الشيطان

وأيّامي، منذُ آدمَ

تعرِفُها خطيئةً خطيئة

شجرتي بلا ثمار

وأحبُّها

وخطوتي بلا وجهةٍ واضحة

وأخطوها

فماذا تريد؟

من بين عطايا الربّ

يا وريثي... سأهديك النسيان...

 

 

فُسْحَة: لديك طفل اسمه آدم، أتيت به وسط غابة الآثام هذه؛ لتخلّصه من آثامك أم لتورّثه إيّاها؟ هل حقًّا كنت تبحث فيه طوال الوقت، عن شيء ما فيك، إن لم يكن هذا النسيان؟

نضال: في ما يخصّ البحث، صدقًا لا أدري إن كنت حقًّا أبحث في آدم، عن شيء ما فيّ أم لا، لم أفكّر في ذلك قطّ، ولم أخطّط له يومًا، والّذي أعرفه - تمام المعرفة - أنّني لا أريد أن أخلّصه من الآثام، أنا لست ملاكًا، ولا أريد لأحد صفة الملاك... أيضًا، لا أريد أن أورّثه إيّاها، أردت – ليس إلّا - أن أذكّره بالفضيلة العظمى؛ النسيان!

الحقّ أنّني أردت له اسمًا، يذكّره بأمّه الأرض/ التراب، وينسيه خطيئة السماء، وبوصفٍ أدقّ؛ أردت له أن ينغمس - كلّما ناداه منادٍ - في معناه، أردت له أن ينشغل بالمرادف - مرادف اسمه ومرادفه - عن الدلالات.

 

فُسْحَة: قصيدتك مهجوسة بالهجر والانزواء، والتخفّف من أعباء اللحظة الثقيلة... أرثاء ذلك أم طموح شعريّ؟ في مثل قولك: في الليل/ أكدّسُ قتلاي في أكياسٍ كبيرةٍ/ أعقِدُها بكفّة يدي/ وأحملها مثل لصٍّ نادمٍ/ إلى حاوياتٍ فارغةٍ لمذبحٍ مهجور.

نضال: لا، ليس رثاء، لطالما كنت راغبًا عن رثاء مَن ذهبوا، لطالما وجدتني مهجوسًا بالحياة والأحياء، حتّى وأنا أبتهل وحيدًا "في مقابر الأسلاف"، حتّى وأنا أغرق في التمنّي، قلت: "يا ليت لي صمت من ذهبوا ...".

ليس رثاء إذن، بل طموح شعريّ، لا يتأتّى إلّا بالانزواء، باعتباره تفاديًا للرعب النافر في الوجوه، وملجأً قصيًّا عن بلادة الأحياء الأموات.

 

آدم

 

فُسْحَة: من بين كلّ محاولاتك للانسحاب والركون إلى "عربة الإسكافيّ" - مهجعك الشعريّ - ربّما ثمّة محاولة للبقاء خارجًا، في حُمّى الظهيرة؛ للدفاع عن أصواتٍ تخرج مغلوبة من رنين معدنها... أودّ لو أسمعها بصوتك أنت.

نضال: الصوت في كلّ شيء، هذا ما يؤرّقني!

ففي ما يرى آخرون، أنّ الشعر صورة، وأنّ "الحياة شجرة صور" - نسيت مَن قال هذا - إلّا أنّني، وإن وافقتهم جزئيًّا، منحاز للصوت في كلّ شيء، في الكائنات، والشعر، والأشياء. أجدني في القصائد، ألهث مع حمار، وأنبح مع كلاب، وأسمع بوضوح تامّ صوتًا مرعبًا يصدح في مذبح مهجور!

الصوت صوت اصطكاك، في الذهاب إلى الحياة صباحًا، وفي الإياب آخر النهار، هو الضرورة الأولى لشعريّة الإسكافيّ، أمّا الحمّى، حمّى الظهيرة، الّتي تجلد صفيح العربة المتآكل، فهي الضرورة الثانية؛ ليخرج حزن العالم من راديو الإسكافيّ، كما هو في حقيقته، منهكًا، و"مخلوطًا بالدموع وبالحشرجات".

 

فُسْحَة: تميل ميل الاقتصاد اللغويّ، المحمول على غنائيّة متماهية مع فضاء القصيدة البصريّ. أظنّ أنّ هذه هندسة جماليّة، لا تخرج إلّا من حاذق، سواء مشتغَلة في مرسم معماريّ، أو مرتجَلة على مسرح يونانيّ، وهنا أودّ أن أسألك: كيف تفهم دور اللغة في الشعر؟

لا أرى أنّ دور اللغة في الشعر يقتصر على خلق تفاهم بين الشاعر والقارئ، بل هو دور أعمق وأبعد من ذلك كثيرًا، دور يُثري اللغة العاديّة، ويرتقي بها لتصبح لغة شعريّة، حمّالة أوجه، يتفجّر منها ما يشبه السحر، وتتعدّد في تراكيبها التآويل والدلالات.

كتابة شعر جديد، تُلزمني أن أخلق مفرداتي، وأن أستخدم الكلمات ومدلولاتها بطريقتي، وأن أُنشئ صداقات تخصّني بين الكلمات... ببساطةٍ يمكنني القول: لولا اللغة ما وُجِد الشعر، وهنا أذكر قول مالارميه الشاعر الفرنسيّ: "الشعر لا يُكتَب بالأفكار، بل بالكلمات"، تلك الكلمات الّتي غالبًا ما أجدني منساقًا إليها؛ لتقول عنّي ما لم أخطّط لحظة لقوله، أو أنّها في مرّات، تقفز عن قولي؛ لتقول قولها هي؛ فتقول - بلعبة رشيقة وغامضة - أكثر ممّا أريد أن أقول.

 

في منطقة قلعة البرقوق، غزّة

 

فُسْحَة: كيف ينشغل الخيال في إعادة تأهيل الذاكرة؟ وكيف يجري التفاعل بينهما، في خلق عالم حلميّ، من عناصر الواقع نفسه؟

نضال: بالنسبة إليّ، فعْل الخيال بالذاكرة أشبه ما يكون بفعل الميكانيكيّ بشاحنة متعطّلة، منذ زمن في رصيف؛ الشاحنة المتعطّلة هي الذاكرة والميكانيكيّ هو الخيال، الاثنان موجودان، ولكن كلٌّ على حدة، منفصلان، كلٌّ في عالمه الخاصّ إلى حين، أو إلى أن يأتي الشعر، علاجًا أخيرًا لآلام أقدام السائق/ الواقع، الّذي أنهكه المسير، وصار لا بدّ له من استدعاء الميكانيكيّ؛ لإصلاح الشاحنة وركوبها... ليس في أسفلت معبّد ولامع، بل في طريق ترابيّ يجتاز حقول الأرض، ويوغل في سديم المجرّات.

 

فُسْحَة: نضال، ماذا أعطتك غزّة؟ وماذا أخذَت منك؟

نضال: دائمًا أتحدّث عن غزّة، ابتداءً من فلسطين، فلسطين الّتي لم أرها، إلّا في خرائط المدرسة، ولم أسمع بها، إلّا في حكايات أمّي المشبعة بالأسى والحنين. فلسطين الذاكرة والحلم الّذي يفتّت القلب، كلّما لوّحتْ إلينا، ورقصت مع الريح، راية البلاد. فلسطين أُمّ غزّة، وغزّة البنت العانس، والبقرة العجفاء، الّتي حين أخذتْ أخذتْ منّي كلّ شيء، وحين أعطتْ أعطتني كسرة خبز ناشفة على حجر، أظنّها الشعر.

 

هشام أبو عساكر

 

 

شاعر فلسطينيّ يقيم في تركيا.