"استيقظ كي تحلم": شعرٌ من سَكينة الحكمة

مريد البرغوثي

 

"وتبدو الجبال جدودًا

كأجدادنا يألفون أماكنهم عادةً

فالجبال زمانٌ، إذا ما تمعّنتَ في أمرها

إنّها الوقت متّخذًا جسدًا"

("استيقظ كي تحلم"، مريد البرغوثي، ص 10)

 

"استيقظ كي تحلُم"، عنوان لا يمكن أن تقرأه وتمضي في حال سبيلك، ستجده يلاحقك كلّما فكّرت في الاحتماء في داخل بالك. أسمع مَنْ يقوله، ولا أعرف من أين يأتي الصوت، ولا مَنْ في صالحه أن يبعث لنا بالرسالة الّتي يحتويها، أيكون هذا ما يودّ الشعر أن يقوله؟

 

طائر

مريد البرغوثي، الشاعر الفلسطينيّ، وُلد في دير غسّانة قرب رام الله عام 1944، صدر له 15 كتابًا، منها 13 ديوان شعر، آخرها: "منطق الكائنات"، و"ليلة مجنونة"، و"الناس في ليلهم"، و"زهر الرمّان"، و"منتصف الليل". وأحدث الدواوين "استيقظ كي تحلُم"، نرى على غلافه حبّة رمّان مفتوحة، ويحتوي على قسم عنوانه "’منطق الكائنات’، مرّة أخرى"، في إحالة إلى عنوان ديوانه الأوّل الصادر عام 1996. هنا يمكننا لمس حالة ظاهرة تمزج بين التكامل والتناقض، غير مثيلتها الّتي في باطن قصائد هذا الكتاب أيضًا.

"ماذا أفعل وأنا أراهم

(وهم يمشون إلى ما أخشاه)

يغلقون عليّ الباب كمرآةٍ في الظلام

ما شغلُ المرآة عندما لا ينظر فيها أحد؟

ماذا تصنع مرآةٌ وحيدةٌ في الظلام؟" (ص 75)

 

الشاعر أشبه بطائر حيّ عفويّ، يصوّر بعينيه - وليس بصوته كالبلبل - من بعيد حين يطير، ومن قريب حين يهبط لفريسته. وليس الشاعر بسيّارة تقودها القيود إلى أماكن كثيرة لا تتوقّف لمشهد؛ فتلك السيّارة - الشاعر - وقودها ينفد، وشعرها يظلّ مكانه لا يتحرّك ولا يطير بالتأكيد، وفي الحالتين لا يبدو مدهشًا وحيويًّا كطير يتنفّس، يشبهنا، حتّى إن صارت السيّارة، بقليل من الصنعة، طائرة.

 

 

في المجموعة 38 قصيدة، جاءت في 146 صفحة من القطع المتوسّط، وقد كُتبت - كما وُضّح في الكتاب - بين عامَي 2005 و2018؛ أي خلال 13 عامًا، وفي مدن عدّة من أهمّ المدن العربيّة على المستوى الثقافيّ: رام الله، وعمّان، والقاهرة، وبيروت، وأيضًا خلال إقامة تفرّغ للكتابة، في بيلاجو سنتر على بحيرة كومو في إيطاليا، مقدّمة من مؤسّسة روكفلر ومركز خوج في الهند؛ وهنا يخطر ببالي سؤالان: ما مدى علاقة الإبداع في قصائد المجموعة، بتعدّد البيئات والظروف الّتي كُتبت فيها؟ وهل كُتبت القصائد الّتي تتناول الحرب واللجوء والتعصّب والقمع، في أثناء وجود الشاعر في المدن العربيّة، بينما كُتبت القصائد الّتي تدور حول الطبيعة والعائلة والحبّ والمشاعر الإنسانيّة الخاصّة، في أثناء وجوده قرب بحيرة كومو الهادئة؟ أم العكس؛ أي هل جاءت الحالة الشعوريّة في الداخل، متناقضة مع حالة المكان في الخارج؟ 

 

رمّانة

حين نكون أمام عمل أدبيّ منشور، فنحن لسنا أمام إنتاج فنّيّ من عنصر واحد، بل أمام النصّ "السرّ" ولوحة الغلاف مثل "باب للسرّ"؛ لذا، على العمل الفنّيّ الّذي يوضع واجهةً لا بديل لها للعمل الأدبيّ، أن يكون مكمّلًا ومتكاملًا معه، أن يمثّل دافعًا قويًّا لأنظارنا، والأهمّ من ذلك أن يكون مستفزًّا؛ لا نستطيع مقاومة رغبتنا في كشفه، ويجب أن يتشابه مع الشعر في أن يكون قابلًا للتأويل. وهنا نجد لوحة غلاف الديوان صورة لرمّانة ناضجة، تبدو حقيقيّة مفصَّصة، ويظهر منها أغلب ما بداخلها من حبيبات رمّان صغيرة، شديدة الحمرة وشديدة التلاصق، وتظهر أيضًا حبيبات قليلة متحرّرة ومتطايرة في كلّ الاتّجاهات، ولكن في حدود حبّة الرمّان، بعضها متباعد عن بعضها الآخر وبعضها متقارب؛ فهل تحمل الرمّانة رسالة سياسيّة اجتماعيّة؟ وفي تأويل آخر، كلّنا يعرف ملمس الرمّان من الخارج، وعبث ألوانه بالأحمر، ونعرف كم هو صعب تفصيص الرمّان لأكله، ونعرف أنّ ثمّة رمّانًا يؤكل فورًا، ورمّانًا حامضًا باهت اللون يُترك للطبخ، ولكن يمكن أن نقول إنّ هذه الرمّانة من النوع الّذي يؤكل فورًا، من لونها الشديد الحمرة - على أنّ الأحمر يرمز إلى الحبّ، كما أنّه لون الدم - ومن طعم أغلب قصائدها الّذي لا يمكن وصفه، لاجتماع الأوصاف الجميلة فيه؛ فهل تكون الرمّانة قلب الشاعر؟ بقي أن نذكر أنّه باستحضار العنوان، وبالنظر إلى خلفيّة الغلاف؛ نجد أنّها لا توحي بلمس ناعم يشجّع على الغرق بالنوم، كما أنّ الرمّانة المفصوصة تعطي انطباعًا مليئًا بالحياة والإلهام؛ كأنّ الغلاف يقول: "استيقظ"، والنصّ الّذي يختبئ خلفه يوضّح لنا "كي تحلُم".

يمكننا أن نجد ذِكْرًا وحيدًا للرمّان، جاء في الكتاب في أوّل صفحة، من أوّل قصيدة في الكتاب بعنوان "خلود صغير"، حيث الحديث عن اللون الأخضر، المعروف برمزيّته للحياة والحيويّة:

"ويدخل في الصدَئيِّ الموشى كما

قِشْرِ رمّانةٍ أَوْغَلَتْ في النضوجِ" (ص 9)

 

ولتأكيد حيويّة الغلاف الأماميّ الّذي صمّمته ديمة علاء الدين البرغوثي، والّذي كُتب عليه عنوان الديوان واسم شاعره، بخطّ حديث غير كلاسيكيّ؛ نجد في الغلاف الخلفيّ صورة حديثة للشاعر - أعتقد أنّها لم تُنشر من قبل - يطلّ مبتسمًا أمام خلفيّة صاخبة التقطتها عدسة دارة علاء الدين البرغوثي، ربّما في إشارة إلى أثر العائلة في فهم ما يريد الشاعر أن يقوله، وما في ذلك من عواطف. ونجد أيضًا، بالعودة إلى الحيويّة، مطلع قصيدة "فليحضر التاريخ" - الثانية حسب ظهورها في الديوان - مكتوبة بخطّ اليد على الغلاف الخلفيّ.

 

رضوى

جاء إهداء الديوان "إلى رضوى عاشور"، وهي زوجة الشاعر، الروائيّة المصريّة الّتي رحلت قبل أربع سنوات، بعد صراع مع المرض. أتساءل: مَنْ منّا قرأ ثنائيّة مريد النثريّة، ولم يقع في حبّ رضوى في كلّ سطر تحدّث فيه مريد عنها؟ هي الّتي توقفك بسيرتها، غير مصدّق أنّها ليست فلسطينيّة الأصل، لكن ربّما كانت الأصالة بالروح وليست بالمفهوم الضيّق الحديث للانتماء الوطنيّ إلى شعبٍ ما. وفي "دون ضجّة"، كما رحلت رضوى، يصف مريد، دون إشارة مباشرة، تعابير وجه رضوى بأوصاف مليئة بالسلام، تلحقها تشبيهات مليئة بالجمال، حين كان وجهها - على طريقتها - يودّع مريدًا.

"بريئًا

كطفلةٍ تقول للضيف... أنا لا أحبّك".

 

ويأتي الذكر الأكبر لرضوى في نهاية الديوان، حيث أفرد الشاعر قسمًا خاصًّا يحمل عنوان "وثيقة: يوم غابت رضوى عاشور"، يحتوي على نصّ واحد يحمل عنوان "افتحوا الأبواب، لتدخل السيّدة"، وهو النصّ الوحيد الّذي يختلف شكلًا عن بقيّة المجموعة، لكنّه بالتأكيد لا يقلّ شعريّة، بل ربّما يفوقها جميعًا. يفتتح مريد النصّ "الوثيقة" بقوله: "مَنْ ينشغلْ بحزنه على فقْد المحبوب، ينشغلْ عن المحبوب".

يا الله كم تحمل هذه المقولة من قوّة وحكمة! إنّها درس يستحقّ أن يعلق في الآذان. ثمّة ما يمكن فعله حين يموت مَنْ نحبّ، غير الحزن عليه، الحزن على المفقود ليس أكثر ما يُثبت الحبّ والإخلاص، بل ما قاله مريد هو كذلك، كأنّه أيضًا يعرف أنّ السماح للحزن بالسيطرة علينا، جرّاء الفقد فيه، إثقال على النفس لن يرغب فيه المفقود لنا.

وهذه الجملة ليست الوحيدة في النصّ، الّتي تطرد الحزن لتدخل السيّدة، ليست الوحيدة الّتي تحاول الانتصار على الحزن؛ بإحياء الحبّ والتشكيك في نيّة الحزن. ويذهب الشاعر في النصّ، إلى ذكر كثير ممّا كان يجعل روح رضوى جميلة جدًّا ولا يزال، وهو لم يجعلها خاصّة به وحده طوال النصّ، بل ذكّرنا بجمالها في أرواح كثيرة أثّرت فيهم؛ فيذكّرنا مريد بوصيّة رضوى لنا: "رضوى عاشور تركَتْنا بعدها لا لنبكي، بل لننتصر".

يمثّل النصّ الرثاء في أكثف صوره، إيجازًا للمجاز. هكذا تكون الحكمة متصالحة جدًّا مع الحبّ، وهذا ما يليق بالحزن أن يُكتب عنه، أو بالأحرى طرده من النصّ؛ وهنا نعود إلى سبب تسمية مريد لهذا الجزء من الكتاب بالوثيقة؛ فهو يريد - على ما يبدو - أن يوثّق ذلك عن غياب رضوى جسديًّا، ولا يريد لعيون الناس وكاميراتهم أن توثّق حزنه.

الحبّ أكثر دفئًا من الحزن. يقول مريد في قصيدة "خلود صغير"، عمّن يحبّ من أفراد عائلته:

"خَلْفَ أزرار هذا القميص الخفيفْ

أواصل أشغال مَنْ ظلّ حيًّا:

أدفّئ رضوى من البَرْدِ

يسهر عندي مَجيدٌ

وتقطف أمّ منيفٍ زهور حديقتِها

في انتظار منيفْ" (ص 9)

 

ويؤكّد فكرته عن الموت وهشاشته أمام الحبّ بالآتي أيضًا:

"هل أغيّر للموت رأيًا وأقنعه أنّه فاشلٌ؟

أيقتنع الموت أنّي أسير بأقدامهمْ؟" (ص 13 – 14)

 

كما أنّه ينبّهنا إلى حليفٍ للموت الهشّ، يجب أن نعيه جيّدًا، هو الشوق:

"ها أنا أطرد الشوق من لغتي

وهل الشوق إلّا اعترافٌ بِكَسْرِ المكان مكانينِ

والجسمِ جسمينِ والواحدِ اثنينِ؟" (ص 15)

 

درويش

ثمّة ما يربط اسم مريد البرغوثي لديّ دائمًا بمحمود درويش؛ ولعلّ ذلك يعود إلى أنّني حين سمعت بمريد أوّل مرّة، كان حين ذكر أحد الزملاء في فريق أدبيّ، أنّ مريد الشاعر الوحيد، حتّى ذلك الوقت، الّذي لم يتأثّر شعره قطّ بشعر محمود. ومنذ وقتئذٍ، ودون أن أعلم إن كان هذا القول صحيحًا أم لا، تكوّنت لديّ صورة إيجابيّة عن مريد، ورغبة كبيرة في التعرّف عليه. لقد جعله ذلك في مخيّلتي وكأنّه جزيرة وسط محيط، فيه كثير من "المراكب الدرويشيّة" الهشّة. وحين غرقت في عمَلَيه النثريّين "رأيت رام الله" و"وُلدت هناك، وُلدت هنا"، لم يسعني إلّا أن أحلم، وأتوقّع غرقًا نثريًّا ثالثًا يتبعهما، لكنّه فاجأنا بديوان شعر جديد يصدر عن "رياض الريس للكتب والنشر"، الدار الّتي قدّمت لنا أيضًا أهمّ كتب درويش.

وفي المجموعة قصيدة واحدة فقط مهداة بشكل مباشر، وهي قصيدة "كشُرفة سقطت بكلّ زهورها"، أهداها مريد إلى محمود. وهذا النصّ دليل آخر على قدرة مريد على استخدام لغته في كتابة الرثاء، وغير أنّ هذا الرثاء ربّما يكون من أجمل ما كُتب في محمود؛ فماذا يمكن أن يكون أجمل من رثاء كتبه شاعر شهيّ عن شاعر شهيّ آخر، وهما هنا من نفس الوطن؛ وهذا يعطي رسالة لأجيال قادمة، عن ضرورة تماسك أقطاب المشهد الإبداعيّ، لا أن يغوصوا في بحر عكر من المنافسة والتجريح. يكتب مريد عن محمود - الّذي "يحمي طفولته بِمَكْرِ شبابِهِ"، والّذي "القصائدُ لا تُرَدُّ ببابِهِ" - معبّرًا عن كثير ممّا شعر به كثيرون عند رحيل محمود:

"وكأنّه إذ مات أخْلَفَ ما وعدْ.

وكأنّنا لمناه بعض الشيء يومَ رحيلِهِ.

وكأنّنا كنّا اتّفقنا أن يعيش إلى الأبدْ.

'محمودُ ابن الكُلِّ' - قالت أمّهُ

وتراجعت عن عشبِهِ، خَفَرًا، لتندفع البلدْ.

يا ويحَها 'حوريّةٌ'

هل أدركتْ أنّ البلاد لتوّها

قد ودّعتْ من كلّ عائلةٍ ولدْ؟"

وتحمل القصيدة في طيّاتها عتابًا ممزوجًا بالحكمة، حكمة نحتاج إليها نحن الفلسطينيّين مع بعضنا بعضًا؛ فمريد يعاتب محمود بلا أيّ معاداة أو غضب، غير أنّه غير متربّص يعدّ أخطاءه؛ فمريد يدرك أثر العكس في حصر الصورة الكبيرة - الّتي يجب أن تحافظ على جمالها - إلى جزء صغير منها، يمكن أن يُصلح دون أن تمزّق الصورة كلّها.

من أكثر ما يلفت النظر في تجربة مريد هنا، أنّه ليس متعصّبًا وليس محايدًا أيضًا، لكنّه - كما يجب أن نكون كلّنا كشعب - منتقد بنّاء. لا يمكن فريقًا رياضيًّا واحدًا ينقسم نصفين - نصفًا ضدّ نصف - أن ينتصر على نفسه أبدًا. يقول الشاعر في نهاية قصيدة "فليحضر التاريخ":

"لا تقل كانوا ضحايا

بل نُضَحّي كي نكونْ" (ص 27)

 

سَكينَةُ الحكمة

أرى أنّ الشاعر نجح إلى حدّ كبير، في وضع ديوانه هذا ضمن تأثير متواصل في القارئ، من أوّل صفحة إلى آخر صفحة، بدلًا من أن يكون الكتاب مجرّد محطّات، نرغب في النزول لها أو لا نرغب. وبعد غياب دام 13 عامًا عن الشعر، قد يبدو الشاعر أمام مأزق أعدّه الزمن المتصالح مع القدر؛ إذ أفقده أشخاصًا لا تتكرّر في حياته وتجربته، كرضوى ومحمود وغيرهما، بينما ظلّت مشاهد الحرب والفساد تتكرّر. إذن، كيف يجرؤ هذا الشاعر على أن يقول لنا: "استيقظ كي تحلُم"؟ ببساطة، أجد أنّ الإجابة تكمن في العودة إلى مدى حكمة وسكينة مريد تجاه الأشياء: الاستيقاظ والحلم/ الأمل يجيئان من صفعة المعرفة المغلّفة بالشعر - كما فعل مريد في هذا الكتاب - لا بالإيهام والتلاعب اللغويّ، المجرّد من الإنسانيّة، والذاكرة الجمعيّة، وفردانيّة دوافع كلّ شخص واستجاباته.

ذكر مريد مرّة، في مقابلة له، أنّ القصيدة - لتكون قصيدة يمكن أن تعيش - يجب أن تكون صالحة خارج محيط الشاعر، وليس في محيطه فقط، وأن تكون صالحة خارج زمان الشاعر، وليس زمانه فقط. هل حقّق مريد هذا في كتابه هنا؟ نعم، وبجدارة، وبناءً على ما قاله؛ يمكن فهم ما أراد مريد تحقيقه من مثل هذه القصائد، إضافة إلى قيمتها الإنسانيّة الكبيرة، وبالنظر أيضًا إلى ما قاله؛ إنّ وظيفة الشاعر أن يُخرج المدهش من المألوف، والمباغت من العاديّ. يمكن أن نلمس هذا التوجّه الناجح في كلّ قصائده، في إيصال رسالتها الواضحة ورسائلها المحترفة الاختباء. تتميّز قصائد هذه المجموعة بأنّها تقول الكثير في قليل، كما تتميّز بكثرة الرمز؛ لا لأنّ الشاعر يخشى المرموز في شيء، بل لأنّه أطول نظرًا وأكثر حكمة منه.  

 

العودة إلى البدء

يوجد قسم في الديوان يحمل عنوان "’منطق الكائنات’، مرّة أخرى"، وفيه يكمل الشاعر المشروع الّذي بدأه، بإصدار ديوان يحمل عنوان "منطق الكائنات"، عن "دار المدى" في عمّان عام 1996 كما أوضحت سابقًا. قصائد هذا القسم تشبه تركيبة قصائد الديوان السابق - قِصَر النصّ، والرمز، والرسالة السياسيّة الاجتماعيّة الّتي تحملها، وتشترك مع "لافتات" الشاعر أحمد مطر - إلّا أنّنا هنا يمكن أن نلاحظ أنّ التركيب "قال/ ت..."، وُضع عنوانًا لكلّ قصيدة، على عكس ذلك الديوان، الّذي كان العنوان في أحيان كثيرة يحمل دلالة تقدّم فكرة النصّ للقارئ على طبق من ذهب؛ فهنا ترك الشاعر مهمّة اكتشاف النصّ للقارئ، وترك الكائنات - الّتي أغلبها جماد أو غير ملموس - تُعلّمنا المنطق، الّذي يجب أن يكون عليه الإنسان الّذي يقرأ هذا الشعر.

ورغم أنّ أصالة الشعر تتجلّى بجمال في غالبيّة قصائد المجموعة، إلّا أنّنا نرى في قصيدة "لست قبيلة نفسي" الشاعر يقول:

"أعيش اليقين لبعض ثوانٍ

وأهمس للشكّ خذني".

 

ثمّ بعد ثلاثة أسطر فقط يقول: "وكلّ يقينٍ يبارزني أتّقيه بِظَنّي". وفي قصيدة "نُسَخ"، يكتب الشاعر هنا عن شيء تناقله الناس كثيرًا من قبل ذلك؛ فهو يذكر هنا حقيقة اجتماعيّة سهلة، بكلمات لا تختلف كثيرًا عن الكلام العاديّ:

"الّذي في بالهِ ليس أنا

بل نُسْخَةٌ عنّي

هو الّذي كوّنها في رأسِهِ" (ص 77)

 

في "‘منطق الكائنات‘، مرّةً أخرى" قالت الدقائق، والقلعة، والظلّ، والدرج، والغيمة، والنافذة، والسلم، والأسلحة، والتجربة، والنوم، والنجّار، والباب، والبصلة، وحبّة البرتقال، والمنفيّ، الكثير من المنطق، وأخيرًا "قال المصباح السحريّ":

"لم تُعْطَ يدين لتفرك مصباحًا سحريًّا وتنام

استيقظ كي تحلُمْ".

 

تفاوتات

وإذا أردنا أن نقارن النصوص ببعضها بعضًا، لا يمكن أن نضع قصائد مثل "خلود صغير"، و"فليحضر التاريخ"، و"موسيقى بلا نحاس"، على سبيل المثال - وهي قصائد تتميّز بأصالة عالية وخيال خصب - في نفس الكفّة مع قصائد مثل "مدّت يدها"، و"سنة ويوم واحد"، و"إصغاء"، الّتي تعبّر عن حدث معيّن، يبدو مألوفًا أكثر من غيره، ولم يُتناول بالمستوى الشعريّ المتوقّع كالقصائد الّتي تسبقه.

وتذكّرني قصيدة "قالت الدقائق"، بما أرادت قصيدة "القفل" - الّتي جاءت في نفس الكتاب قبلها - قوله، وتذكّرني أيضًا قصيدة "قال النجّار" قليلًا بقصيدة "الكراسي" لإبراهيم نصر الله، الّتي جاءت في ديوانه "باسم الأمّ والابن"، ولكن في إشارة ذكيّة جدًّا، يعود الشاعر في قصيدة "قال النوم"، إلى فكرة ذكرها في قصيدة "موسيقى بلا نحاس"، حين سأل الشاعر الحرب: "ألم تُصادقي يومًا مخدّة؟"، فيردّ النوم لاحقًا:

"الحرب

لم يحدث أن التقينا من قبل".

 

ربّما أحتاج من وقتي ووقتكم إلى الكثير؛ لأقف على كلّ قطرة وقطرة، محلّاة بقليل من الصنعة الساحرة في هذا الكتاب "البِركة"، الّذي سقط من سماء الشاعر، أو ربّما الكتاب في الواقع أشبه بعجينة، سرعان ما تُخبز على نار مشاعرنا فننضج نحن. كيف يمكننا تفكيك رغيف خبز ساخن إلى أصله؟

 

 

يحيى عاشور

 

شاعر فلسطينيّ من مواليد غزّة عام 1998. يدرس علم الاجتماع وعلم النفس في جامعة الأزهر – غزّة. عضو في عدد من الأطر والمبادرات الأدبيّة والأكاديميّة. حصل من "برنامج اليس" على منحة للتبادل الثقافيّ مدّتها عام في ولاية أوهايو الأمريكيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "أنت نافذة... هم غيوم" (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2018)، وهو حاصل على جائزة "كتابي الأوّل" من مؤسّسة تامر.