إعادة تدوير

جوديث جاي

 

أسرد هذه القصّة عن عائلة عاديّة، عائلة أبي رامي. هذه العائلة ليست من العائلات الّتي ستفاجئك بتصرّفاتها أو بشخوص أفرادها؛ لأنّها عائلة مملّة إلى درجة أنّه لن يفكّر أحد في الكتابة عنها، ولكنّك إذا أمعنت النظر واقتربت من التفاصيل، فستلاحظ غرابة المألوف.

 

1

يوم عاديّ، الشمس في رحلتها للصعود، أو كما يقول الفراعنة: إنّ رع فاز في معركته على أبوفيس، فستشتعل الأفران في المخابز، ورائحة القهوة تأخذ بالانتشار. تستيقظ لبنى على صوت الخلّاط ككلّ صباح. تحرّك جسدها الممدّد كالجثث تحت الفراش دون أن تفتح عينيها، فهي تنتظر والدتها الّتي ستدخل بعد ثلاث... اثنان... واحد: "لبنى، استيقظي"، لترسم لبنى على فمها هلالًا بأسنان. تستجمع قواها وتنهض متوجّهة نحو الحمّام. كلّما اقتربت منه بدأت بالركض بخفّة لكي تسبق رامي في الوصول، لكنّه يستطيع اللحاق بها؛ ليبدأ جدالهما الّذي ينتهي بدخول رامي أوّلًا.

إنّ لبنى في السابعة عشرة من عمرها، وهذا عامها الأخير في المدرسة. قرار تخصّصها المستقبليّ في الجامعة بدأ يشكّل تحدّيًا جدّيًّا بالنسبة إليها، وضغط والدتها بأن تصبح ممرّضة مثلها يخنقها، في المقابل ترى أنّ لقب "مهندسة" الّذي تحلم به يُعطى لأخيها.

"لبنى، استيقظي".

أمّا اليوم، فلقد توجّهت لبنى إلى المطبخ مباشرةً متجنّبة الشجار اليوميّ مع رامي. وجدت والدتها منهمكة في تنظيف الأطباق، عيناها تتأرجحان بين النظر إلى الساعة والمجلى، وعقلها في عالم آخر. ألقت لبنى نظرة إلى المطبخ، وكأنّ قنبلة من المهامّ انفجرت في أنحائه. لاحظت طبق الحلويات المفضّل لدى جدّتها مستريحًا على المائدة، وحينئذٍ فهمت التوتّر الّذي امتلك ملامح والدتها.

أيّها القارئ، إنّ جدّة لبنى ووالدتها على شجار دائم، ففي كلّ مرّة تأتي فيها الجدّة للزيارة تنتقد ابنتها في كلّ شيء، كترتيبها المنزل، وإنفاقها لمصروفه، وسلوكها مع رامي ولبنى، حتّى لباسها لم يسلم من التعليقات الجارحة الموجّهة نحوه. هذا المكان شهد جميع النزاعات بينهما، وبقي صامتًا بلا أيّ تعليق.

انزلق الطبق من يدَي والدة لبنى عند سماعها صوت الهاتف. استعجلت في الردّ لكيلا يوقظ رنين الهاتف زوجها. كانت لبنى تسترجع نقاشها الدائم مع والدتها حول رغبتها في دراسة هندسة الكهرباء، فكلّ فرد من العائلة قد قدّم رأيه في هذا الموضوع، مدّعين أنّهم تركوا للبنى الخيار الأخير في الاختيار، لكنّها تعلم في صميم قلبها، أنّهم لن يسمحوا لها باختيار وظيفة "غير مناسبة" لفتاة "رقيقة" مثلها.

 

2

يوم عاديّ، الشمس في رحلتها للصعود، أو كما يقول الفراعنة: إنّ رع فاز في معركته على أبوفيس، فستشتعل الأفران في المخابز، ورائحة القهوة تأخذ بالانتشار. يستيقظ رامي بسبب أشعّة الشمس المزعجة. تدقّ والدته الباب: "أسرع". يستعجل في النهوض عند سماعه خطوات أخته لبنى المتّجهة إلى الحمّام. يستجمع قواه، ويذهب راكضًا لكي يسبقها. يتجادل معها، ثمّ يدخل أوّلًا.

رامي في الرابعة عشرة من عمره. ينظر كلّ يوم في المرآة، ويتأمّل وجهه الخالي من الشعر. لطالما قارن رامي نفسه بأولاد صفّه في المدرسة، فقد وُصف غير مرّة بأنّه أقلّ رجولة منهم. لذا؛ يدخل كلّ يوم إلى الحمّام، ويبدأ بحلاقة الشعيرات القليلة الموجودة، على أمل أن تنمو أخرى أطول وأكثف. منذ أصبح رامي في الثانية عشرة من عمره، بدأ أبوه بمناولته شفرة الحلاقة ودعوته إلى التقليد. ومع هذه العادة صار رامي يشعر بالضغط ممّن حوله لكي يتشبّه بوالده.

"لبنى، استيقظي".

أمّا اليوم، فقد دخل رامي الحمّام دون الشجار المعتاد. وجد إسوارته على الرفّ تنتظره لكي يرتديها. لبسها متردّدًا وأخفاها تحت قميص المدرسة لكيلا يراها أحد، ففي حال رأتها معلّمته تصادرها منه. أمّا القلق الأكبر فيكمن من ردّة فعل والده، فسبق له أن علّق عليها عندما رآها على معصم رامي، ونصحه بأن ينزعها مضيفًا: "هكذا لن تعجب بك الفتيات يا رامي".

أيّها القارئ، إنّ جدّة رامي تزور أحفادها كلّ أسبوع، تجلس ساعات طويلة لتتحدّث معه ومع لبنى. لطالما أحبّ رامي قدوم جدّته إلى المنزل؛ فهي تدلّله [1] وتلقّبه دومًا بـ "مهندس العائلة"، فيُفضي عليه الشعور بالفخر والاعتزاز. وعندما تهمّ بالرحيل، توصي لبنى ورامي بأن يهتمّا بدروسهما، وبأن يعتني رامي بأخته لبنى.

خرج رامي من الحمّام وفرح بوجود طبق الفطور بانتظاره على المائدة. زاد فرحه بعدما رأى طبق الحلويات الخاصّ بجدّته مزيّنًا وينتظر قدومها. ابتعد عن المقعد المخصّص لوالده، وأزاح طبق لبنى وجلس مكانها. هو يريد الجلوس بهدوء، ومشاهدة مباراة كرة القدم المعادة على التلفاز.

 

3

دقّت الجدّة جرس المنزل. فتحت الباب دون أن تنتظر أحدًا ليستقبلها. توجّهت الضيفة ذات الشعر الرماديّ والتجاعيد المشدودة إلى المطبخ، تتفحّص جميع المنزل بطريقها بدقّة. ترتّب الوسائد الموجودة على الأريكة في غرفة الجلوس، ثمّ تدخل المطبخ لكي تُستقبل كعادتها بابتسامات من لبنى ورامي، وإشارة باليد من ابنتها المنهمكة في أشغالها.

سمع أبو رامي صوت الجدّة قادمًا من المطبخ. شدّ على عينيه المغلقتين كعلامة رفض للواقع الّذي سقط عليه بوجودها. حاول جاهدًا العودة إلى عالم الأحلام، ولكن رائحة عطرها المطبوعة في ذاكرته تمنعه. أدار رأسه ليغمسه في الوسادة الّتي تحوّلت إلى قالب لوجهه. يدور صراع في رأسه، أعليه الخروج لاستقبالها أم يبقى في سريره متظاهرًا بالنوم؟

على حين يدور الصراع في داخل أبي رامي، ثمّة صراع من نوع آخر دائر في المطبخ. والدة لبنى والجدّة تتشاجران حول ترتيب الأطباق الموجودة داخل إحدى الخزائن؛ الجدّة تعطي رأيها وابتسامة تملأ وجهها، ووالدة لبنى تحاول إقناعها بانفعال شديد حتّى يتحوّل حاجباها من لونهما الطبيعيّ إلى المحمرّ.

أنا هنا أيّها القارئ، أنظر إلى هذه العائلة العاديّة، تعيش يومها المعتاد، بتبادل الأحاديث التقليديّة الّتي يكمنها صراع مبطّن، أتساءل إن كان هذا المطبخ سيشهد توقّفًا في عمليّة إعادة التدوير، أو ستبقى أزليّة، لها بداية لكنّها لا تنتهي.

ذهب رامي ولبنى إلى المدرسة، تاركَين الجدّة ووالدتهما في المطبخ تعيدان ترتيب الأطباق، ووالدهما يتظاهر بالنوم في الداخل، لا يرغب في الخروج.

 

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ بعنوان "حَبْكَة"، بالتعاون بين فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ومركز خليل السكاكينيّ.

 

رغد هلال

 

 

طالبة في "جامعة بير زيت"، في تخصّص رئيسيّ في "علم الاجتماع"، وتخصّص فرعيّ في "الفلسفة ودراسات المرأة"، ذات شغف في كتابة القصص القصيرة، الّتي من خلالها يُسلَّط الضوء على المشاكل الاجتماعيّة في المجتمع الفلسطينيّ بخاصّة، والعربيّ بعامّة.