الناصر بشعر الله

أمجد ناصر

 

يجبرك الشعر العظيم، الشعر العظيم وحده، على التفرّس بالشاعر خارج نصّه، لا يثنيك عن ذلك رولان بارت الّذي ادّعى موت المؤلّف، ولا مالارميه الّذي طالب بحلّ اللغة محلّ مَنْ كان مالكًا لها. في حقيقة الأمر - أيضًا - أكره النظريّات الّتي بُنيت على الموت، أو الجازمة بالـ "نقطة انتهى"! بدءًا من إريك فيل الّذي قال إنّ هيجل وضع نقطة النهاية للفلسفة، إلى نيتشه المبشّر بموت الإله، نحو فوكو الّذي أعلن موت الإنسان، وزميله الآخر فوكوياما الّذي نبّأنا بموت التاريخ!

يجبرك الشعر العظيم، الشعر العظيم وحده، إلى النظر بإعجاب إلى قائله، ودراسة كلّ شاردة وواردة في حيثيّات هذا الكائن، بصفته "مختبرًا لغويًّا وفكريًّا" وخطّ إنتاج دقيقًا، لمنتج في غاية الجمال؛ وهو ما جعل كافور الإخشيديّ منتجًا من منتجات المتنبّي، بل سيف الدولة أيضًا على عظمته!

أهذا الّذي يجلس هناك أمجد الناصر؟ نعم، إنّه هو، أنا أحفظ أبعاده وتشكيله الهندسيّ والفنّيّ، هو نعم. قلبي صار ينبض بقوّة. أحبّه جدًّا، أنا ابن الجيل الّذي تلاه تمامًا، إن صحّت خدعة الأجيال. سأحدّثه حالما ينتهي هذا المؤتمر الصحافيّ الملعون!

أمجد ناصر الّذي أضيف إليه - أبدًا - أل التعريف ليصبح "الناصر"؛ ليكون مثله مثل الخالدين وأمراء المؤمنين والمعظّمين. إنّه الناصر الّذي اشتريت أوّل ديوان له من "بسطة" في أزبكيّة دمشق، من رجل أحفظ كتلته وملامحه وتكوينه التشكيليّ أيضًا، حتّى تلك الساعة منذ ثلاثين عامًا، حينما قال لي: "بدّك شعر؟ خود هاد الأردني المرعب!" ديوان "مديح لمقهًى آخر"، ربّما هذه (العظيم) بعد كلام هذا الرجل "المربوع"، هي ما جعلت أل التعريف دائمة الوقوف أمام اسم ناصر. لا أعرف.

أهذا هو أمجد الناصر؟ هذا صوته الّذي سأل سؤالًا إشكاليًّا للقائمين على "جائزة بوكر"، أقام الصالة ولم يقعدها؟ "يا ربّ ما يطلع شايف حالو"... "أهلًا يا نديم، سمعت أنّك انتقلت إلى هنا!"، بادرني وأنا أصافحه لأوّل مرّة! قلت له: "قل لي إنّك جاري أو زميلي أو انتقلت معي!"، ضحك، وقال لي: "أنا لا أستطيع أن أترك لندن أبدًا". حينئذٍ، تذكّرت رولان بارت التافه، وقلت لنفسي: "لماذا لا أعرف سبب تعلّقه بلندن؟"، ارتبكت وسألته عن الشعر، وإلخ إلخ إلخ... وكان ينمو في القلب مثل منطاد طار بي من هذا المكان محلّقًا.

170 سنتمترًا تقريبًا، وزنه آنذاك قد يكون 75 كيلوغرامًا، ينظر مباشرة إلى أعمق نقطة، أو يشيح عنها وهو ما زال ينظر إليها، بدويّ حقيقيّ في بدلة أنيقة غير متكلّفة، التفاتته العصابيّة التفاتة مَنْ يتوقّع خنجر ثأر لا علاقة له به من كلّ صوب. أنا أفهم هذا لأنّني ابن الجرد والرعاة، قلت لنفسي إنّه يشبه الصقر جدًّا، حاجباه ممتدّان ويرسمان محجر عينيه بدقّة متناهية؛ وهذا ما يجعل نظرته نهائيّة وبؤريّة وخارقة، وهو يتحرّك كما يتحرّك الصقر تمامًا، مقسّمًا إلى أجزاء، لكلٍّ منها مصدر أوامر مختلف عن الآخر... "الله يلعنك يا رولان بارت"!

حاوطته أشعاره من كلّ جهة، أتاه معجبوه ومحبّوه، شعر بأنّني أهمّ بالرواح فكان يحدّثهم ويمسك يدي. إنّه صقر "فهمت والله"، حدّثت نفسي، ثمّ أردفت لنفسي: "حسن ما دمت مولعًا بقول الجاحظ ’الناس بأشباهها‘"، "أيّ نوع من الصقور هذا الناصر؟ إنّه قرناس"، حدّثت نفسي... بلى "أشيب الراس قرناس، هيك بيقولو البدو". لغويًّا القرناس الصقر المخيط العينين... "الله يلعنك يا سيبويه". قبضته شديدة كما كنت أتوقّع، وصوته واضح كما كنت أجزم، وهو أرقّ من طفل وأنعم ممّا يبدو، هذا ما فاتني أن أتوقّعه.

تركته، وما زالت سطوة قبضته على معصمي، وفي عقلي بيت كُثيِّر عزّة الّذي يقول:

ضعاف الطير أطولهـا رقابًا *** ولم تطل البزاة ولا الصقـورُ

لم نلتقِ مجدّدًا؛ كان هذا اللقاء الأوّل والأخير. قال لي إنّنا سنلتقي، وأنا أصدّق هذا الرجل الّذي أعطى زوجته إحدى كليتيه، والّذي خرج من عزّ داره، إلى بيروت المحترقة بنار إسرائيل في الثمانينات؛ ليقاتل إلى جانب الفلسطينيّين هناك، والّذي يقف الآن بوجه مارد المرض، بكلّ هذا الصقر الّذي فيه.

 

 

هاني نديم

 

 

شاعر وإعلاميّ سوريّ. له عشرات الإصدارات والكتابات الإبداعيّة في الشعر والمسرح والدراما والغناء والسينما. نُشِرَت مقالاته في عشرات المنابر العربيّة، كما أجرى مئات الحوارات الصحافيّة مع رموز الثقافة والفكر العرب.