أمجد ناصر: معنى أن تقيم في الكتابة

أمجد ناصر يوقّع روايته "حيث لا تسقط الأمطار"

 

تحتاج الإحاطة بالعالم الأدبيّ للشاعر والروائيّ أمجد ناصر، الّذي شيّده لنفسه ولنا جميعًا، إلى ما هو أوسع مدًى وأبعد ممّا آليته على نفسي ضمن وقفة خاطفة، كهذه الوقفة الّتي ألحّت عليّ إثر احتفاليّة تكريمه في عمّان أخيرًا، عندما رجعت منها حاملًا مجموعته الشعريّة الجديدة "مملكة آدم" (منشورات المتوسّط، 2019)، و"بيروت الصغيرة بحجم راحة اليد، يوميّات من حصار عام 1982" (منشورات الأهليّة، 2013). وهي تروم أن تعثر على علاقة الكتابة بضلعين آخرين من ثالوث الإبداع: الواقع والشكل الأدبيّ، في تجربة ناصر الكتابيّة، وبالأساس عبر استرجاع بياناته بهذا الشأن.

 

موقف الحيرة

سبق لأمجد أن أسرّ، في حوار مع الصديق محمود منير منذ عام 2010، وهو العام الّذي شهد إصداره ثلاثة كتب هي: رواية "حيث لا تسقط الأمطار"، و"فرصة ثانية" (شعريّ سرديّ)، و"الخروج من ليوا" (أدب رحلات)، بأنّه يجد نفسه في حالة انعدام وزن كتابيّ، وأرجع سبب ذلك إلى يقينه بأنّ المبدع يقيم في الكتابة، وأنّه ما دمنا نتحرّك في الأمكنة فإنّ الثابت في هذا الترحال هو الكلمة، مُستعيدًا قول الشاعر الألمانيّ هولدرين بأنّ القصيدة هي بيت الشاعر، لكنّه زاد أنّ الكتابة بعامّةٍ هي بيت الكاتب، أرضه ومكانه، وليس صدفة - على ما يبدو - أن يسمّى الشطر في الشعر العربيّ بيتًا، وهذا إدراك عربيّ سابق على قول الشاعر الألمانيّ السالف حيال العلاقة الأنطولوجيّة بين الشاعر أو الكاتب والكتابة نفسها.

وعندما أصدر أمجد روايته الأولى، "حيث لا تسقط الأمطار"، اجتهد كثيرًا لإثارة سجال بشأن العلاقة بين الشعر والرواية؛ مؤكّدًا أنّ الشاعر حين يكتب الرواية، لا يهرب من الشعر الّذي في وسعه أن يتخلّل أنواعًا كتابيّة عدّة، من بينها الكتابة السرديّة الروائيّة أو القصصيّة

في الحوار نفسه صرّح أمجد بما يأتي: "لا أعرف بالضبط على أيّ أرض أقف. بصدق أقول لك، مُستعيرًا النفّريّ، إنّني في موقف الحيرة؛ من قبلُ كانت الأمور أسهل، لم يكن تساؤلي يطول عن ماهيّة الشعر والنثر. كان لكلّ واحد خزانته، كما يقولون. هناك خانات جاهزة صنعها غيرنا، وكان سهلًا علينا أن نضع ما نكتب في تلك الخانات. لا أعرف فعلًا إن كان أبناء جيلي يتقلّبون في الحيرة، حيال سؤال الكتابة اليوم مثلما أنا عليه".

 

"معمل" الكاتب

نبقى في خانة الحيرة؛ كي نشير إلى أنّه قبل ذلك الحوار، حاول أمجد الخلوص إلى استنتاجات، ترتبط بما يسمّى "معمل" الكتابة لدى روائيّين وشعراء، مستعينًا بكتابين: الأوّل للقاصّ والروائيّ الأردنيّ إلياس فركوح، يضمّ حوارات مع كتّاب أجانب كبار، تتعلّق تحديدًا بطريقة عملهم وطقوسها المتعدّدة، والكتاب الثاني بعنوان "عمل الكاتب، الكاتب وهو يعمل" (2007)، للروائيّ المغربيّ أحمد المديني، الّذي يكشف فيه جانبًا من معمل الكتابة "أو مطبخها" عند عدد من الكتّاب الروائيّين البارزين.

وفي سياق ذلك، اختار أن ينبِّه إلى توقّف الكتاب الثاني عند تجربة الكاتب الهنديّ الترينيداديّ البريطانيّ في. إس. نايبول، الحائز على "نوبل"، مشيرًا إلى أنّه في الفصل الّذي يخصّصه المديني لنايبول، ليس ثمّة إطلالة على "معمل" أو كواليس خلفيّة، بل على حيرة وقلق حول علاقة الشكل الأدبيّ بالواقع أو بالحقيقة.

 

هل يمكن تخيّل العالم بلا شعر؟

وعندما أصدر أمجد روايته الأولى، "حيث لا تسقط الأمطار"، اجتهد كثيرًا لإثارة سجال بشأن العلاقة بين الشعر والرواية؛ مؤكّدًا أنّ الشاعر حين يكتب الرواية، لا يهرب من الشعر الّذي في وسعه أن يتخلّل أنواعًا كتابيّة عدّة، من بينها الكتابة السرديّة الروائيّة أو القصصيّة، وأنّه هو نفسه حين كتب الرواية كان يرغب في توسيع حدود إطار التعبير؛ إذ يمكن – في رأيه - تخيّل العالم من دون رواية، ولكن من الصعب تخيّله من دون شعر؛ فالشعر أصل التلفّظ الأدبيّ، وفي البدء كان الشعر، والرواية وُجدت لاحقًا، وإن كان شكل الشعر تغيّر وتغيّرت صورته وإجراءاته اللغويّة والكتابيّة، منذ وُجدت قصيدة النثر.

ولدى العودة إلى ما كتبه أمجد في فترة صدور روايته الأولى، نقرأ على لسانه أيضًا أنّ الرواية - بصفتها نوعًا أدبيًّا - وسّعت حدودها، وأصبحت أكبر من كونها وعاءً حكائيًّا فقط، ومالت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق إلى الحكاية، وأنّه في فعل الكتابة يمكن توقّع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة

ومقولة "الشعر أصل" ليست عربيّة الهوى فقط؛ فَويليام فوكنر، الّذي اعترف في الحوارات الفكريّة والفلسفيّة الّتي أجرتها معه مجلّة "باريس ريفيو" عام 1956، اعترف بأنّه شاعر فاشل، وأضاف أنّه ربّما كلّ الكتّاب يبدؤون بالشعر، وحين يلحظون فشلهم في الشعر يتحوّلون إلى القصّة القصيرة، الّتي تأتي في المرتبة الثانية بعد الشعر، وإذا ما فشلوا أيضًا في القصّة يتحوّلون عندئذٍ ناحية مشروع كتابة الرواية.

 

الرواية أصبحت أكبر

ولدى العودة إلى ما كتبه أمجد في فترة صدور روايته الأولى، نقرأ على لسانه أيضًا أنّ الرواية - بصفتها نوعًا أدبيًّا - وسّعت حدودها، وأصبحت أكبر من كونها وعاءً حكائيًّا فقط، ومالت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق إلى الحكاية، وأنّه في فعل الكتابة يمكن توقّع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة، والتأمّل في مصائر الإنسان، في زمن استفحال القوّة والمال والتكنولوجيا والحروب.

ولعلّ الأهمّ من ذلك، أنّه لم يعتبر كتابته للرواية هربًا من الشعر، أو إعلان هزيمة للشعر، ولا سيّما أنّه من الّذين كتبوا باكرًا أدب الأمكنة، أو ما يُسمّى "أدب الرحلة"، الّذي يضمّ خصائص نثريّة وسرديّة، وشخوصًا ليست بعيدة تمامًا عمّا هي عليه في الرواية. ويرجّح ناصر أنّ الشاعر يسحب معه لغته إلى الرواية، أو إلى أيّ شكل كتابيّ يتصدّى له؛ فليس ثمّة لغتان للكاتب، واحدة للشعر وأخرى للنثر، وهذا يعني أنّ لغة الشاعر في الرواية مشدودة ومكثّفة أكثر؛ إذ إنّ الاقتضاب سمة الشعر عمومًا، فهو يعمل على ضغط العالم في حيّز لغويّ وتعبيريّ محدود، وهذا يفيد الرواية الّتي تعاني - عند كثير من الروائيّين العرب - الترهّل والثرثرة اللغويّة، إن لم يكن من الركاكة. ويشدّد أيضًا على أنّ الشاعر يقدّم للرواية تصوّرًا مختلفًا للعالم، وهو تصوّر قادم من البُعد الحُلميّ للشعر، لكنّ هذا لا يعني مماهاة الشعر بالرواية، وإن ظلّ عالم الرواية أوسع وأكثر مرونة من عالم القصيدة.

بهذه الاستشهادات وغيرها كثير، يضعنا أمجد أمام ماهيّة الكتابة؛ إذ يُقيم فيها، باعتبارها أوّلًا - وقبل أيّ شيء - منهجًا تركيبيًّا له خصوصيّة في إدراك الحياة والواقع. وعندما أؤكّد على الكتابة؛ فعن وعي كامل بأنّها جميع ما يكتبه الأديب.

 

"اترك السياسة، واهتمّ بدروسك"!

وقد لا تكون حالة أمجد ناصر استثنائيّة، وخاصّة بين أبناء جيله ومَنْ سبق هذا الجيل، من الأدباء الفلسطينيّين والعرب، الّذين انخرطوا في معمعان الثورة الفلسطينيّة، وحاولوا أن يترجموا هذا الانخراط إلى ثورة في الكتابة وأساليبها، أمّا إذا كانت كذلك، في قراءات مغايرة، فهي الاستثناء الّذي يكشف لنا عمق قاعدة الكتابة في شروط مشابهة، وعمق ضرورتها في آن.

بهذه الاستشهادات وغيرها كثير، يضعنا أمجد أمام ماهيّة الكتابة؛ إذ يُقيم فيها، باعتبارها أوّلًا - وقبل أيّ شيء - منهجًا تركيبيًّا له خصوصيّة في إدراك الحياة والواقع. وعندما أؤكّد على الكتابة؛ فعن وعي كامل بأنّها جميع ما يكتبه الأديب.

 

هذا المنهج التركيبيّ كان ديدن غسّان كنفاني مثلًا، من الجيل السابق؛ فبعد شهور من صدور روايته "رجال في الشمس"، كتب إلى أحد الأصدقاء يقول في توضيح هذه المسألة: "الآن، تشتدّ عليّ نصائح الأصدقاء بألّا أولي الصحافة كلّ هذا الاهتمام؛ فهي في النهاية - كما يقولون - ستقضي على إمكانيّاتي الفنّيّة بكتابة القصّة. أنا بصراحة لا أفهم هذا المنطق؛ فهو نفس منطق النصائح الّتي كنت أسمعها وأنا في المدرسة الثانويّة: "اترك السياسة، واهتمّ بدروسك"، والنصائح الّتي سمعتها بعد ذلك في الكويت: "اترك الكتابة، واهتمّ بصحّتك!"، هل كان عندي حقًّا خيار بين المدرسة والسياسة، وبين الكتابة والصحّة؛ حتّى يكون الآن عندي خيار بين الصحافة والقصّة. أنا أريد أن أقول شيئًا، وأحيانًا أستطيع قوله بكتابة الخبر الرئيسيّ في ’صحيفة الغد‘، وأحيانًا بصياغة الافتتاحيّة و ... أو صياغة خبر صغير في ’صفحة المجتمع‘. بعض المرّات لا أستطيع أن أقول الّذي أريد إلّا بقصّة. إنّ الاختيار الّذي يتحدّثون عنه ليس له وجود، وهو يذكّرني بأحد الزملاء من معلّمي اللغة العربيّة، يطلب مع بداية كلّ عام من تلامذته كتابة موضوعه الإنشائيّ المفضّل: ’أيّهما تفضّل: حياة القرية أم حياة المدينة؟‘، ومعظم التلامذة يعيشون في المخيّمات!".

من الطبيعيّ ألّا يكون التنبّه إلى الحيرة والقلق، دليلًا على نجاح الكاتب في عمله أو في "معمله"، ولكن مجرّد الإشارة إلى أنّهما كانا منطلقًا أساسيًّا في الكتابة، فيه ما قد يبرّر ويفسّر.

 

 

أنطوان شلحت

 

 

كاتب وناقد. عمل في الصحافة لأكثر من عقدين. نشر العديد من الدراسات الأدبيّة والثقافيّة، وكذلك المتعلّقة بشؤون إسرائيليّة، سياسيّة وثقافيّة.