"دعاميص المستنقعات": سهيل كيوان مشروع أدبيّ متكامل

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ليست هذه المرّةَ الأولى الّتي أكتب فيها عن أدب سهيل كيوان، ويقيني أنّها لن تكون الأخيرة. أقول هذا الكلام في مستهلّ تقديمنا لمجموعته الجديدة "دعاميص المستنقعات"، واثقًا بقدرة النصّ عند كيوان على الاستفزاز، أيًّا كان نوعه، وهذا شرط قبليّ كافٍ (لي على أقلّ تقدير) لأن أتفاعل وأنشط قارئًا. النصوص عنده سلسة غنيّة مشوّقة والأهمّ صادقة؛ صادقة في موضوعها وطرحها، صادقة في تورّطها ومسؤوليّتها. يكتب كيوان القصّة منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن. واكبتُ هذا الإنتاج المهمّ والسمين، قراءة ونقدًا وبحثًا، ولامست كاتبًا يعي قيمة النصّ الأدبيّ وقدرته ودوره؛ فعمل على تعزيزه وإثرائه وتطويره بكلّ الوسائل الّتي تُعمّق تورّطه وتُجمّل من نصّه في آن معًا. يلاحظ المتابع لأدب سهيل كيوان أنّ النصّ عنده مرّ بالسيرورة الثلاثيّة المفترضة بتقديري لكلّ تجربة أدبيّة: مرحلة البدايات، والمرحلة الانتقاليّة، ومرحلة النضوج، وهذه الأخيرة ما يهمّنا في المقام الأوّل. لم تكن هذه المجموعة الدالّة على نضوج التجربة الأدبيّة عند كيوان؛ فقد بلغها في مجموعتيه السابقتين المتشابهتين إلى حدّ بعيد: "مديح لخازوق آخر" و"مصرع حاتم طيّ".

أعطى كيوان في "دعاميص المستنقعات" مساحة للهامشيّ (بمفاهيم الواقع) على حساب المركزيّ، وهي مساحة تفوق تلك الّتي أُعطيت للموضوع ذاته في مجموعتيه السابقتين.

استطاع الكاتب أن يتحرّر من قيود كثيرة، في هذه المجموعة، تفرضها استثنائيّة التجربة الإبداعيّة لكتّاب الأقلّيّة الفلسطينيّة عمومًا [المحرّر: يُقصد كتّاب الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948]. لم يكن من السهل على هؤلاء الكتّاب أن "يهجروا" مواضيع وأفكارًا اعتبرناها -  جميعًا بلا استثناء - لازمة لكلّ نصّ أدبيّ عند كتّاب الأقلّيّة، وتأتي المواضيع السياسيّة منها على رأس القائمة؛ فكان عليهم أن يجدّوا في البحث عن أدوات وأساليب تحرّرهم من وطأة هذه "الهجرة" من ناحية، وتحفظ لنصوصهم ماء الالتزام والتورّط من ناحية ثانية؛ وهكذا تغيّرت أولويّات الواقع - بمستوياته كلّها بلا استثناء - واهتماماته. ولأنّنا نقرّ بما لا يقبل الشكّ، أنّ النصّ مردود لواقع مهما راوغ وتملّص؛ فإنّ تحوُّل الأسلوب السرديّ في "تصوير" الواقع المتغيّر بات ضرورة لا مشيئة.

أعطى كيوان في "دعاميص المستنقعات" مساحة للهامشيّ (بمفاهيم الواقع) على حساب المركزيّ، وهي مساحة تفوق تلك الّتي أُعطيت للموضوع ذاته في مجموعتيه السابقتين. يُعَدّ الالتفات إلى الهامشيّ على حساب المركزيّ من أهمّ خصائص أدب الأقلّيّة الفلسطينيّة وأبرزها في الفترة الأخيرة بصفة عامّة، وعند كاتبنا بصفة خاصّة. وقد يُعتبر هذا الالتفات عند الكثيرين كمن أحرز هدفًا ذاتيًّا في مرماه! والحقيقة هي العكس تمامًا. ما كان الالتفات إلى الهامشيّ عند كيوان تعبيرًا عن القصور والعجز والسطحيّة، بقدر ما كان تورّطًا مضاعفًا في الواقع، هو تعبير عن تحوّل الاهتمامات والأولويّات على الساحة المحلّيّة، والقطريّة، والعالميّة؛ فليس من الحكمة أبدًا أن يتقوقع الكاتب في مواضيع نهشها الواقع بأنيابه بغير رحمة، وأن يغفل بالمقابل عن سياسة الواقع الجديدة في الغزو الناعم، والاستعمار الرومانسيّ. وهكذا يكون الالتفات إلى الهامشيّ فضحًا وتشريحًا للواقع في المقام الأوّل، ومحاولة تشخيص الحالة الجديدة المشوّهة، وتحديد الموقف الواضح منها إن أمكن ذلك. لا يبقى الهامشيّ هامشيًّا عندما يعزّز بالتقنيّات الأدبيّة الحديثة الّتي تعمل على إشباعه غموضًا ودلالة، على نحو ما نرى في قصّة "تفو عليكم" وتقنيّة الإغراب في المقام الأوّل.

اهتمّ أن تكون اللغة صادقة وحقيقيّة وابنة الواقع. لم يُشبعها إنشاء ولا فصاحة تزيد على الحدّ الّذي يستسيغها اللسان والعقل معًا، بل كانت لغة بينيّة في معظمها، طعّمها بملح المحكيّة دون زيادة فتُفسد المذاق والشهيّة معًا

ولا يغفل كيوان عن تورّط الواقع وأبنائه في العالم الرقميّ والافتراضيّ، وهو الأمر الّذي لم يعد بالإمكان إنكاره أو تجاهله، خاصّة حين نراه يتوغّل في تفاصيل حياتنا بلا إذن منّا، أو دون أن نُبدي رغبة صارمة واضحة في الصدّ! أصبح الواقع الافتراضيّ بديلًا لكلّ ممارستنا دون استثناء؛ فالحبّ افتراضيّ والصداقة كذلك، حتّى الموقف السياسيّ والنضال باتا افتراضيّين، قصّة "أريد موقفًا لا زهورًا" مثالًا؛ فكيف لا يكون النصّ، بطرحه الجديد، ضرورة في تردٍّ كهذا؟

أدرك كيوان أنّ رصد هذه التحوّلات بدقّة ومسؤوليّة يستوجب أدوات ليّنة طيّعة وقادرة؛ فاهتمّ أن تكون اللغة صادقة وحقيقيّة وابنة الواقع. لم يُشبعها إنشاء ولا فصاحة تزيد على الحدّ الّذي يستسيغها اللسان والعقل معًا، بل كانت لغة بينيّة في معظمها، طعّمها بملح المحكيّة دون زيادة فتُفسد المذاق والشهيّة معًا. ولطالما أثارتني قدرة كيوان اللغويّة في العنونة، لم تكن عناوينه جافّة عامّة، بل تنضح ماءً وتعجّ بحركة وحياة، تمنح القارئ مساحة كبيرة جدًّا من التأويل والتوقّع، وهي شروط قبليّة ضروريّة لتحقيق معادلة التواصل والاتّصال بين النصّ وقارئه، وتفعيل ممارستهما الحواريّة، كما يظهر في العناوين: "يا أخي احلق شعرك"، و"دمّك خفيف إن شاء الله"، و"تفضّل من غير مطرود". ولا ننسى بطبيعة الحال العنوان الّذي اختاره الكاتب عنوانًا لمجموعته "دعاميص المستنقعات"، الّذي يحفّز القارئ ويمنحه المجال لتوقّعات متعدّدة.

لا يمكن في تقديري الحديث عن نصوص سهيل كيوان، دون أن تدخل السخرية عميقًا فيه. أقولها صراحة بلا تأتأة، إنّ كيوان يُعَدّ اليوم أبرز كتّاب السخرية في أدب الأقلّيّة الفلسطينيّة، والأدب الفلسطينيّ عمومًا.

خَبِر الكاتب قدرة الكتابة الساخرة، وتمكّن من تقنيّاتها على مستوى النظريّة والتطبيق؛ فأفلح في تطويعها بما يلائم النصّ ومضمونه، وتشهد الكتابة الساخرة عنده تطوّرًا دائمًا منذ نصوصه الأولى في مجموعته "المبارزة".

لا يمكن في تقديري الحديث عن نصوص سهيل كيوان، دون أن تدخل السخرية عميقًا فيه. أقولها صراحة بلا تأتأة، إنّ كيوان يُعَدّ اليوم أبرز كتّاب السخرية في أدب الأقلّيّة الفلسطينيّة، والأدب الفلسطينيّ عمومًا.

تعجّ "دعاميص المستنقعات" بتقنيّات الكتابة الساخرة، من: مفارقة، وجروتيسك، وتضخيم، وقفشة (بلغة الباحثة المصريّة نبيلة إبراهيم)، وغيرها. يؤكّد كيوان في هذه المجموعة ما جئت على ذكره وبحثه في مقالات سابقة لي عن أعماله، يؤكّد أنّ تقنيّة "الجروتيسك - Grotesque" تحظى بحضور لافت وبارز في نصوصه. هكذا يفعل كيوان في: "العمود المعظّم"، و"يا أخي احلق شعرك"، و"تفو عليكم"، و"أنا من الأمن العامّ"، وغيرها من نصوص هذه المجموعة. يُدرك كيوان أنّ واقعنا فاق حدّ المفارقة (وإن كانت لازمة لكلّ كتابة ساخرة في تقديري)، ووصلت العبثيّة وتَلاطُم المواقف واختلاط المشاعر نحوها حدًّا لا يُطاق؛ فكان اعتماد تقنيّة "الجروتيسك"، الّتي تقوم أساسًا على ثنائيّة الاختلاط هذه، ضرورةً بكلّ المقاييس. لكن مهما "تطرّف" كيوان في توظيفه لهذه التقنيّات، ظلّ صادقًا وفيًّا لنصّه وشعبه وواقعه، في ظلّ واقع كثرت فيه المقاييس والنصوص.   

 

صدرت مجموعة "دعاميص المستنقعات" عن "مكتبة كلّ شيء" في حيفا، وهي السادسة للكاتب الفلسطينيّ سهيل كيوان. تحوي المجموعة تسعًا وعشرين قصّة قصيرة، جاءت في 196 صفحة، من مونتاج شربل إلياس.

 


 

د. فيّاض هيبي

   

 

 

أكاديميّ وباحث في الأدب العربيّ. محاضر في قسم اللغة العربيّة في أكاديميّة القاسمي.