عن ابنة وأمّ سُرِقَت منهما الأبوّة

درويش في شبابه | Getty

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

مثل سعاد حسني، ولكن...

قيل إنّ الراحل عبد الحليم حافظ كان متزوّجًا من الجميلة سعاد حسني، حسب وثيقة زواج زعمت أخت الراحلة امتلاكها، إلّا أنّه اشترط عليها إبقاء الأمر سرًّا حتّى لا تتأثّر صورته فنّانًا مرهف الحسّ، يواجه وحيدًا المرض والألم والمعاناة والحبّ، بجسده المكتوب صورًا؛ إذ تسرّبت صور مرضه بمعرفته. صحيح أنّ الأمر مبتذل جدًّا، وبالذات أنّ الضيم هنا يقع على سعاد حسني، إلّا أنّ مقاربة هذا الأمر مع إخفاء محمود درويش لأبوّته المزعومة لفتاة، باتت الآن في عقدها الثالث وشارفت على نهايته، لهو أمر أكثر تعقيدًا، والأهمّ ضيمًا لها هي الأخرى، لكن له تقاطعاته. هذا طبعًا بافتراض صحّة ما أفشاه سليم بركات عن شاعرنا "العظيم".

ثمّة فارق بين سعاد حسني وابنة محمود درويش وأمّها، ولا نعني هنا أنّ الأولى نجمة ومعروفة فقط، لكن الفارق يكمن في موقعها وقدرتها على الحديث/ الكلام/ القول؛ فالسيّدة الّتي خاضت تلك العلاقة مع درويش ليست أكثر من مجهولة بالنسبة إلينا؛ بكلماتٍ أخرى، لا صوت لها في الحكاية...

لكن لحظة؛ ثمّة فارق بين سعاد حسني وابنة محمود درويش وأمّها، ولا نعني هنا أنّ الأولى نجمة ومعروفة فقط، لكن الفارق يكمن في موقعها وقدرتها على الحديث/ الكلام/ القول؛ فالسيّدة الّتي خاضت تلك العلاقة مع درويش ليست أكثر من مجهولة بالنسبة إلينا؛ بكلماتٍ أخرى، لا صوت لها في الحكاية، ولو خرجت علينا يومًا لتفتضح هي سرًّا تملكه بقدر ما ملكه الشاعر، لهاجمها معظم هؤلاء الّذين يهاجمون سليم الآن ويتنادون لملاحقته قضائيًّا.

ثمّة أبويّة ما، نطاردها في كلّ هذا المشهد، تكاد تعمينا جميعًا عن الكثير من تفاصيله، وتحجب أيّ قدرة موضوعيّة لمقاربته؛ ومن هنا نرى أنّ المدخل لتناول هذه الحادثة هو موقع الجسد المؤنّث فيها، ولا نعني الجسد بشكله المادّيّ الملموس فقط، لكن بشكله الواقعيّ والخياليّ والرمزيّ، وبالصدفة غير البريئة، تلك هي "سجلّات الأبوّة الثلاثة" كما يقول جاك لاكان، أحد أهمّ رموز مدرسة التحليل النفسيّ المعاصرين.

 

ذكوريّة الكتابة... أنوثة الشفاهة

بدأت القصّة كما يعرف الجميع حينما أفشى الشاعر والروائيّ سليم بركات، في مقالة يتضمّنها كتاب صدر أخيرًا، سرًّا عن محمود درويش، مفاده أنّ للأخير ابنة من علاقة بامرأة متزوّجة، لم يعترف بأبوّته لها، أو كما يقول لم يجد في أبوّته، لها طبعًا، أيّ جاذبيّة.

قيل إنّ ما كُتب عن الأمر حتّى قبل كتابة هذه السطور يملأ آلاف الصفحات، وهنا نتوقّف أمام حجم (فعل) الكتابة ودلالاته.

الكتابة فعل ذكوريّ، يمجّد الأنا ولا يجد لها آخَر فيها؛ فآخَرها حادثٌ بعد تحقّقها في النصّ. كتب سليم حكايته الشفاهيّة مع درويش، حين أسرّ له بالسرّ، فكتبنا نحن ردًّا على كتابة سليم دفاعًا أو هجومًا، كتبنا باسم الشاعرين على الجهتين، وكتبنا باسم الشعر والأخلاق والسرّ والصداقة والأبوّة وغيرها، وكتب غيرنا باسم غيرنا عن الأمر. لكنّنا جميعًا، لم نستمع إلى شفاهته، وكيف لنا أن نفعل، وصاحب السرّ قد غاب، وناشره معتكف لا يفتح نافذةً سوى الكتابة، الغزيرة والمفرطة اللعب بالحروف والمعاني؟

كلّنا خان الشفاهة، والشفاهة أنوثة لا تقوم من دون آخَرٍ يحدث فيها وفي أثنائها. ولا شفاهة في كلّ الحكاية إلّا للأمّ وابنتها، اللتين لم تلتفت لهما كلّ كتاباتنا، وأوّلها كتابة بركات. كلّنا أخرسنا شفاهة الأمّ وابنتها، مقابل كتابة الشاعرين وجيوشهما...

كلّنا خان الشفاهة، والشفاهة أنوثة لا تقوم من دون آخَرٍ يحدث فيها وفي أثنائها. ولا شفاهة في كلّ الحكاية إلّا للأمّ وابنتها، اللتين لم تلتفت لهما كلّ كتاباتنا، وأوّلها كتابة بركات. كلّنا أخرسنا شفاهة الأمّ وابنتها، مقابل كتابة الشاعرين وجيوشهما، كلّنا ذَكَّرْنا السرّ والصداقة والأبوّة والأمانة، برسم الكتابة؛ فالكتابة في عصر الصورة ألق على ألق، لها غواية العين واللمس، وهما في كثافة الشاعرين ومريديهما على الجبهتين. لكنّ المرأة وابنتها لا كتابة لهما في كلّ هذه القصّة... كما دومًا.

يقول بركات في مقاله الفاضح ذاك: "ابنة لم تستطع أن تعبر من صوت أمّها إلى سمع أبيها"، بينما يشرح والتر أونج في كتابه عن الشفاهة والكتابة (1982)، أنّ أعراف البطولة في الثقافة المبنيّة على الشفاهة ترتبط بالشخصيّات "الثقيلة"؛ أي بأشخاص أعمالهم ومآثرهم بارزة لا تُنسى. وهل من مأثرة أكبر من الحبّ لشاعر، ونعني درويش؟ البطولة في الشفاهة لا تسعى إلى رومانسيّة تبشيريّة تأمّليّة تُحاضر بها العالم، كما في الكتابة (دواوين درويش).

بلفظ آخر، سجلّات الأبوّة الثلاثة (الرمزيّ والخياليّ والواقعيّ) الّتي واجهت بها الأمّ شاعر(نا) العظيم ليست هنا لتحاضر عن رومانسيّته الكتابيّة - فتلك وظيفة دواوينه -، إنّما لنتأمّل فعل الشعريّة والأدبيّة والفنّيّة، في مقابل كلّ أب مثّله درويش وغيره يومًا: الأب الخياليّ والواقعيّ والرمزيّ، في زمن يحاصرنا فيه الآباء، وجيوشهم، وإعلامهم.

 

انشغال الشاعر بملعقته المذهّبة

لم تكن استعارة بركات في عبارته من مقالته عن درويش خاطئة، حين قال إنّه "شاعر وُلد بملعقة في فمه نِصْفٍ من ذهب الشعر"؛ فشفاهة الأمّ الّتي صارحتْه "مرّتين، ثلاثًا، في الهاتف بابنته"، لم تجد فمًا قادرًا على مشافهتها آنذاك؛ لأنّه كان مشغولًا بملعقته المذهّبة.

كان لزامًا على الشاعر أن يتعاطف مع نظيره حينذاك، ويقتلا معًا شفاهة الأمّ وابنتها؛ "لذا محمود بلا أبوّة، كأنّ الأمر كلّه اعتراف صغير لصديق سنين طويلة من عمره، بلا متْن من توضيح في اللغة، أو هوامش إضافات، أو حواشٍ متجانسة". لم يكن للأمر وهو الشفاهيّ إلّا أن يُقتل مرّتين، الأولى حين أخرسه شاعرنا المشغول بملعقته، أو قلمه في "فيتش" يكاد يكون متطابقًا، وشاعر آخر "حلوله لغويّة" يعيد كتابة بطولته المدّعاة، على جسد الأمّ وابنتها الشفاهيّ.

الجرائم على خلفيّة "الشرف" شكل من الكتابة بالطمس، طمس الحكاية. التحرّشات ترسيمات كتابيّة لأجساد لها حكايتها في الواقعيّ والخياليّ والرمزيّ، ولها فيه حقّ التأويل.

الأمر في فداحته لا يختلف كثيرًا عن كلّ الأجساد الأنثويّة الّتي تقتلها خرسًا كتابة اليوميّ فينا، وأعني جميعنا. الجرائم على خلفيّة "الشرف" شكل من الكتابة بالطمس، طمس الحكاية. التحرّشات ترسيمات كتابيّة لأجساد لها حكايتها في الواقعيّ والخياليّ والرمزيّ، ولها فيه حقّ التأويل.

مهر الفتيات الصغيرات بتحديد رقم مقنّن في عقد، هو شكل كتابيّ من القتل، أو قتل بالكتابة المشرعنة بالقانون والشرع، وإخراس لكلّ ممكن حكائيّ شفاهيّ قد تقوله. وأخريات بلغن من العمر عتيًّا يُعنَّفن ويُضرَبن فقط ليتنازلن عن الميراث الشرعيّ!

تلك الابنة الّتي لم تستطع أن تنتقل من صوت أمّها إلى سمع أبيها، حكايةٌ شفاهيّة أسرّت بها الأمّ للشاعر، لها فرجات تأويليّة لم تستطع لغة الشاعر (الشاعرين) أن تحتويها، وتلك مزيّة الشفاهة بمحمولاتها وفضاءاتها الأنثويّة. ينبّهنا أونج إلى شخصيّات القصص الخرافيّة الّتي أتت من تراث الشفاهة، ويقارنها من حيث مساحاتها وفرجاتها التأويليّة، وقدرة المتلقّي على التماهي والحوار معها والترحال، بالمقارنة بتلك الّتي نزّت من الثقافات الكتابيّة: كذات القلنسوة الحمراء بكلّ براءاتها المذهلة والذئب الشرّير، في مقابل نسطور الحكيم، وأخيل الهائج وأوديسوس، والإلياذة، وغيرها.

هنا الأمر له دلالته أيضًا، لا مجال لكلّ بطولات الشعر المكتوب دواوينَ، أن تواجه عاطفة الأمومة المحكيّة، ليست المحكيّة فقط، إنّما المُخرَسة/ المسكوت عنها، أيضًا، طيلة سنين الصمت، والصمت أوّل الصوت، والصوت والصمت مدلولا الشفاهة الّتي مرّت على الأمّ وابنتها.

 

بركات سارقًا الأبوّة

لعلّ مَنْ تنبّه للأمر، ولسخرية القدر، سليم بركات نفسه، الّذي ينطلق من سؤال، في رأينا هو مركزيّ وأنثويّ وحتّى ذكوريّ، وهو يقول: "جمعني بمحمود إحساس الفقد من غير ربط؟".

يستعرض بركات في أغلب مقالته بنوّة درويش له، وكأنّه يقول لنا وللفتاة وأمّها إنّ تراسيم البنوّة تلك بقدر ما تربطه به، تفقده إيّاها. درويش بكلّ محمولاته الرمزيّة والمجازيّة والشعريّة، وطبعًا المادّيّة البيولوجيّة، رفض الفتاة ابنةً له، وقَبِل بركات. ثمّة مقايضة هنا، ينتزعها بركات برسم حلوله اللغويّة الكتابيّة، فيرسم حدود أبوّة الشاعر له بكلّ دواوينه، فيقول إنّه هو الكرديّ في "ليس للكرديّ إلّا الريح"، وله ظلّ في "أثر الفراشة" امتدّ إلى "ذاكرة للنسيان".

بركات يعيد سرقة الأب الشاعر الواقعيّ والخياليّ والرمزيّ من الأمّ وابنتها، بعد أن منع درويش نفسه عنهما مادّيًّا وخياليًّا ورمزيًّا، وليس من قبيل بذخ الصدف أن يستعرض بركات مشاركة درويش له الطعام...

بركات يعيد سرقة الأب الشاعر الواقعيّ والخياليّ والرمزيّ من الأمّ وابنتها، بعد أن منع درويش نفسه عنهما مادّيًّا وخياليًّا ورمزيًّا، وليس من قبيل بذخ الصدف أن يستعرض بركات مشاركة درويش له الطعام، حين قال: "في اللقاء الأخير على بوّابة الشمال الأخير من أطلس العالم، جَمَعَنا عشاء من حَبّارـ صَبِّيدجٍ مقليٍّ دوائرَ كالأفلاك لُتَّتْ ببَيْضٍ وطحينٍ". الطعام هنا ممارسة جسديّة مادّيّة قبل كلّ شيء، لكنّه كالجنس فعل يمرّ من الحواسّ جميعًا في نفس اللحظة. ذات الأمر حادثٌ في الجنس/ الحبّ، كلّ الحواسّ تتواطأ في آن، واستلاب/ إحالة بركات لفعل الأكل استلاب ثانٍ لفعل الجنس، بعد استلاب الشاعر له، بالتنكّر!

 

امتحان الشعر

هنا لنا أن نتساءل: أوليست الأبوّة والصداقة والسرّ هنا حوادث لغويّة شعريّة استعاريّة، وليس محض حياة خاصّة للشاعرين، يعرضانها أمامنا لنقوم نحن عنهما بواجب الفصل بين الشاعر والأب والصديق؟

لا أرى ذلك، وهنا امتحان الشعر كتابة بجدّيّته على الأجساد، كأيّ امتحان آخر تُفْضَح جدّيّته دائمًا بالجسد. تقول جوديث باتلر: "لا جسد لا سياسة"، بينما تدرج لدينا في العربيّة المحكيّة استعارة معبّرة، وعبقريّة في آن، حين نقول: "يقع الأمر على جلده"، امتحان الشيء في وقوعه على جلودنا؛ أي أجسادنا. كما كانت أجساد السوريّين وجلودهم امتحان مسرحيّات دريد لحام (العنتريّة) عن الحرّيّة والديمقراطيّة، أو جماليّة شعر سعيد عقل، الّذي دعا كلّ لبنانيّ إلى أن يقتل فلسطينيًّا، ولا قتل بلا قتل للجسد.

صحيح أنّ لقائلٍ أن يقول إنّ جسد درويش له أن يختار مَنْ يشاء، ويذهب في علاقة به إلى ما يشاء، وهو أمر صحيح، إلّا أنّ جسد الفتاة الوليدة، ليس شكلًا واقعيًّا مادّيًّا للوجود فقط، إنّما هو العتبة الرمزيّة والخياليّة الّتي تمتحن محمولات الشعر.

صحيح أنّ لقائلٍ أن يقول إنّ جسد درويش له أن يختار مَنْ يشاء، ويذهب في علاقة به إلى ما يشاء، وهو أمر صحيح، إلّا أنّ جسد الفتاة الوليدة، ليس شكلًا واقعيًّا مادّيًّا للوجود فقط، إنّما هو العتبة الرمزيّة والخياليّة الّتي تمتحن محمولات الشعر.

 

جلد تلك الفتاة وصوت أمّها هما امتحان شعريّة درويش - لا سمعه فقط -، ذلك الامتحان الّذي فطن له سليم، فحمل في كلّ سطور مقالته تلك انتزاعًا لدرويش الأب من الأمّ وابنتها، درويش الرمزيّ والخياليّ والواقعيّ، لصالح الابن.

كانا فعلًا يدرّبان لسانيهما على الأبوّة، لكن كتابةً، لم ينطقا بها شفاهة، وتركا الأمّ وحدها تحاور سؤال الأبوّة والبنوّة والأمومة، والمجتمع المريض بأعضائه الذكريّة:

"هل ستفاتح تلك المرأة ابنتها، في برهة من برهات نَقْرِ السرِّ بمِنْسَرِهِ على اللحم، تحت الجلد، بالدم ‘الآخر‘، فيها؟".
لا أعتقد أنّهما عبئا بالسؤال... أو بمنتهى الخفّة، لا شيء شدّهما في تلك الأبوّة!

 

 

عبد الله البيّاري

 

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.