الّذي نظر خلف ظهره ... إلى تلاشي آثاره

WSJ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"ذلك الّذي يحارب الوحوش عليه أن يحذر ألّا يصبح وحشًا هو نفسه، وعندما تحدّق نحو الهاوية طويلًا؛ فإنّ الهاوية تحدّق نحوك".

(فريدريك نيتشه - "ما وراء الخير والشرّ").


"أحسنتم عملًا" يصدر عن مكبّرات الصوت معلنة بذلك نهاية يوم عمل آخر، ينتظم العاملون في صفّين متوازيَيْن متّسقَيْن، مبتسمين يخرجون من البوّابة الكبيرة للمبنى "العادل"، يتفرّق الصفّان إلى مجموعات صغيرة منتظمة، تتّجه كلّ مجموعة نحو المجمّعات السكنيّة المتماثلة التصميم.

يصل "هم" إلى غرفتهم الصغيرة المبطَّنة الجدران والأرضيّات، يُلْقون بأنفسهم على الأرضيّة متعَبين. تمرّ ساعتان...

يوقظهم صوت لطيف يشير إلى وصول حصّة الطعام اليوميّة الموحّدة، يبدأ "هم" بتناول الطعام، يشغّلون التلفاز، يشاهدون النشرة الإخباريّة، يقول "هم" خلال النشرة بابتسامة عريضة: "نحن بخير، نحن سعداء، أنتم نحن"!

كان ذلك اليوم الإنتاجيّ الثامن، وهذا ما يعني أنّ اليومين التاليين هما "يوما الابتلال الحرّ"؛ فما كان يُعْرَف بأنّه "أسبوع" أُلْغِيَ مع بقيّة العالم القديم.

في اليوم "الحرّ" الأوّل يستيقظ "هم"، عراةً يتّجهون إلى بركة في وسط المدينة، حيث يجتمع كلّ مَنْ هم "هم"، يغتسلون من خطايا ماضيهم العالقة فيهم، يبكون، يتألّمون، يستلذّون قذارتهم، ثمّ صمْت، يطأطئون رؤوسهم بخزي ويخرجون من البركة، تُلقى خطبة الأيّام "الحرّة":

- هل تندمون؟

يقول الجميع بصوت واحد:

- أجل.

- لقد حرقنا العالم القديم، وأنتم أيّها القذرون بقاياه، الكثير منّا أراد حرقكم، لكنّنا نسامح أيضًا. أيّها العقيمون، ستموتون، لن يبقى منكم نسل أو أثر، حتّى ذلك الوقت، تطهّروا ممّا ارتكبه آباؤكم تطهّروا، حتّى يأتيكم السواد في أعينكم، حتّى نغفر لكم، أو في حفرة آبائكم اهلكوا، حرّيّتكم ومغفرتنا ربّما تنالون.

يتوجّه "هم" إلى بيوتهم، صوت لطيف آخر يشير إلى رفقاء اليوم عبر شاشة معلّقة، حيث الإشارة إمّا للتوجّه وإمّا للانتظار، وفي حالتهم، أي "هم"، سينتظرون الليليّة.

تفّاحتان مخصّصتان لكلّ مكان انتظار، يصل "الآخرون" أخيرًا، يأكلون التفّاحتين، يبكون معرفة العالم القديم، العالم الّذي لا يعرفون، عراةً يلتصقون، لذّة وابتلال وعقم، في الالتصاق ينظر! ينظر "هو"، يلمس "الآخرين" الّذين غير ما فيه، جسدهم الآخر الّذي غير جسده، تتّسع عيناه، يدقّ قلبه، ثمّ، ثمّ، ثمّ ينتهي اليوم.

في اليوم "الحرّ" الثاني، يتوجّه الجميع نحو البركة مجدّدًا، ينزل "هو" إلى الماء، يغتسل، ينظر حوله، إلى البكاء والألم والضحك، يحاول، يحاول جاهدًا أن يبكي آباءه القدماء، يدّعي، يدّعي أنّه يبكي، يطأطئ رأسه بخزي كما يفعلون، يخرج من البركة، تُلقى الخطبة نفسها، يقول: "أ ... أجل".

تفّاحتان مخصّصتان لكلّ مكان انتظار، يذهب "هو" هذه المرّة، يأكلان التفّاحتين، يبكي "الآخرون" معرفة العالم القديم، يحاكي "هو" أيضًا بكاء "الآخرين"، يعود لكونه "هم"، يتلاصق الجسدان، يتلاصق الواحدان، يتلاصقون "هم"، ثمّ ينتهي اليوم الثاني.

في اليوم الإنتاجيّ الأوّل، يتّجه "هم" نحو أعمالهم في المبنى "العادل"، يتناولون سياطهم، يجلدون أنفسهم "نحن مجرمون، نحن قذرون، حتّى نموت؛ لنكون بخير، لنكون سعداء، لنكون ‘هم‘".

كانت تلك أوّل مرّة يتردّد فيها "هو" من جلد نفسه، يلتفت يمينًا ويسارًا، يلحظ "الآخرون" من الليلة "الحرّة" الأولى، يجلدون أنفسهم، تنزف دماؤهم وتتجمّع في البركة الكبيرة وسط المدينة، يلقي سوطه بعيدًا، يلتفت الجميع نحوه، يقولون "نحن مرضى"، يصيحون ويتألّمون، يحمله "الكلّ" نحو منزله، يضعونه في غرفته ويركعون باكين في الخارج، يصدر صوت في الغرفة: "لا بأس عليك، أنت مريض، لقد نلت مغفرتك، لا بأس عليك، نحن نحبّك، أنت شجاع، لا بأس عليك، سينتهي الأمر قريبًا، ارتح الآن، سينتهي كلّ شيء قريبًا".

ينظر "هو" إلى سقف الغرفة، يرفع يديه، يحاول جاهدًا أن يلفظ ما يقوله قلبه، إلّا أنّ لسانه لا يعرف سوى كلمات العالم الجديد، يحاول أن يمسك طيف القديم، يستطيع قلبه أن يشعر به، إلّا أنّ لسانه عاجز، يحاول، يحاول جاهدًا أن يتكلّم، لكن كلّ ما يصدر عنه هو صراخه النشاز، تبكي عيناه، تبكي عيناه ما لا يفهمه، ويحكّ بأظافره ندوب الزمن الموشوم على ظهره، لكنّها الدماء المعتادة، يستمرّ في الحكّ، يقتطع من جلده ولحمه قطعًا صغيرة، ينزف وتسير دماؤه إلى البركة ذاتها، ينظر خلف ظهره ليجد أنْ لا شيء من آثاره القديمة، لا شيء سوى الندوب والدماء، يفهم آنذاك، ينظر إلى السماء مجدّدًا، يمدّ يديه، يضمّ إلى قلبه جثّة الربّ المتعفّنة، وفي أذنه صوت الربّ الجديد: "يا للخيبة! لم تر نفسك، يا للخيبة! لم تندم".

يقبض ذراعيه بإحكام، يصدم نفسه بجدران الغرفة بكلّ ما فيه من قوّة، إلّا أنّ جدران غرفته مبطّنة، يدقّ الآخرون بابه "اخرج، أيّها القذر"، يحاولون كسر بابه، لكنّه سرعان ما فتح الباب بنفسه، يحاولون جرّه، يحاولون فكّ ذراعيه، غير أنّه يقاوم، ينظر إليهم، يقول "سأذهب بنفسي، سأذهب وحدي"، يبتعدون عنه، يصطفّون في صفّين متوازيَيْن متباعديْن يشيران إلى طريق "المغفرة"، يبدأ بالمشي، يبتسم في وجه الربّ القديم المتعفّن؟ بين ذراعيه، يبدأ بالجري، خلال جريه يرى "الآخرين" من الليلة "الحرّة" الأولى، يمدّ إحدى ذراعيه نحوهم، نحو ما لا يفهمه، عقمه وابتلاله وقلبه الّذي دقّ وماضيه القذر الّذي لا يعلم، لا شيء غير رائحة الربّ الكريهة بين يديه الخاويتين، لا شيء غير يديه الخاويتين يمتلكان معناه، وربّما آخر الطريق، يصفّق الكلّ، يقفزون في الهواء "أجل، أجل، كن شجاعًا، لا بأس، نحن نحبّك، نحن أمانك، اتركنا، كن شجاعًا، نحن نحبّك"، يقفز "هو" في حفرة الآباء، يقفز إلى قذارة ماضيه الّذي لا يذكُر، يقفز لتصدف رجلاه أوّلًا فتتحطّمان، لم يمت، يصرخ، لكنّه لم يمت، يصرخ الكلّ، يصرخون ويبكون كما يبكي، ثمّ ما لبث أن امتزج صراخه وبكاؤه مع ضحكاته، بقي في الحفرة حتّى "أيّام الابتلال الحرّ" التالية، حتّى مات نازفًا قابضًا قلبه، وما تبقّى من طُهْرِ عظام الربّ القديم، بعد أن زالت عنه قذارة لحمه المسلوخ.

في أوّل الأيّام الحرّة، التفت "الآخرون"، يحاولون أن يقبضوا ذكرى الليلة تلك، التفتت هي خلف ظهرها وكانت آثاره قد تلاشت.

 

 

حكيم خاطر

 

 

كاتب وروائيّ فلسطينيّ. صدرت له رواية "الفتاة" عام 2017، ورواية "كليشيه وديستوبيا" عام 2019، الحاصلة على جائزة تشجيعيّة وإشادة من مؤسّسة عبد المحسن القطّان في مسابقة الكاتب الشابّ - حقل الرواية.