سوار ملّا ... للخوف ظِلٌّ يعيد تجديد نفسه

K.H.Reichert

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يلامس الشاعر والمترجم السوريّ سوار ملّا، أرضيّات متباينة من الحسّ الإنسانيّ، في مجموعته الشعريّة "ظلّ الخوف"، الّتي صدرت عن "منشورات المتوسّط" عام 2020. وتُعَدّ المنطقة الشعريّة الّتي ينطلق منها الشاعر مغرِقة في التأمّل، وهو ما يُكْسِب شعره حوافّ متعدّدة، بحاجة إلى تلمُّسِها، والخوض في ثناياها، لتتكشّف رؤياه. 

ولأنّ الشعر ابْتُدِع لكي تُعاد قراءته، حسب بول فاليري، فإنّ شعر ملّا يحتاج إلى القراءة غير مرّة. هنا اللغة قد تبدو سهلة التناول، لكنّها من النوع الّذي تتغيّر صبغته، كلّما لمسها شعاع قرائيّ آخر. 

 

أحاسيس المغادِر

 القديمة في ذاته، حين يسترجع لوح طفولته المحفوظ في ذاكرته الهشّة، ويستند على ذلك بالشعر؛ فهو يعلم جيّدًا أنّ كثرة الفراغات في البناء تُفْقِدُه صلابته، بل تؤدّي إلى انهياره، فكان الشعر وسيلته لترميم ذلك اللوح.

حتّى حين يتناول ملّا لحظة الحياة الحاضرة، فإنّه يعبّر عنها بأحاسيس المغادر، أو ذلك المنقول عنوة في قطار، لا تهمّ سرعته، إنّما قسوة الرحيل عن الأماكن؛ فتغلب رائحة الغربة عن بلاده سوريا في نصوصه...

حتّى حين يتناول ملّا لحظة الحياة الحاضرة، فإنّه يعبّر عنها بأحاسيس المغادر، أو ذلك المنقول عنوة في قطار، لا تهمّ سرعته، إنّما قسوة الرحيل عن الأماكن؛ فتغلب رائحة الغربة عن بلاده سوريا في نصوصه، موزّعة بين مشاعر مختلفة حول الخوف، والحبّ، والحنين، والأسئلة الكونيّة، وعشب صغير ينبت تحت الأشياء المقتلعة من طريقه. هي مهنة الشعر، البحث عن الأثر الإنسانيّ الّذي تدور حوله الأحداث  -وهي تركيبة الشاعر الّتي لا إثم له بوجودها-  أو عن أثر الحدث الّذي يدور حول الإنسان.

ويتشكّل الدافع عند ملّا لتدوير عجلة الشعر، من تلك التفصيلات المتناهية في الصغر، من الهامش المُنْزاح؛ فتتولّد غرابة تسمع موسيقاها الحزينة، بين مقاطعه الشعريّة، ولحظات صمته. وتدور عجلة الشعر في كلّ مرّة، ويطفو ذلك اللون القرمزيّ على سطح المشهد، دوائر، دوائر، على الرغم من استمرار العالم في إحراق كلّ الإطارات.

 

الشعر أحد ظلال الخوف

ويطلّ الخوف كأساس في قصائد ملّا، ويتمدّد ظلّه الطويل كمنطقة داكنة من المشاعر، في مناطق مختلفة من القصائد. يكتب ملّا:" بليدًا يبدو الخائف، وهو في حقيقته أكثر بلادة ممّا يبدو، فما الّذي يجب أن يعنيه الخوف من الموت مثلًا، لكن لا يعرف من أين قدِم ليعيش هذه الحياة، الّتي لن يعرف عنها شيئًا على الإطلاق؟".

وفي منطقة شعوريّة جمعيّة، هي في الأصل شديدة الذاتيّة، وأحاديّة الحسّ، في ما يتعلّق بالخوف، يعبّر ملّا عن لحظات هدم الإنسان من القوّة الخشنة، أثناء الحروب والعنف، فيقول: "القتلة يرفعون أصواتهم، يصرخون بأشدّ ما تستطيع الحبال الصوتيّة، فنواجههم بخوفنا، لا نفعل أيّ شيء سوى الخوف".

ويَعْبُر بمشاعر جاره العاجز عن الحركة، إلى حيّز الشعر، فبعد وصف انكساره، واغترابه عن العالم، يعود ملّا إلى مشاعره الشخصيّة ليكتب: "لم يبق منه غير كائن يبرز جماله، الذابل في هشاشته، أخافه، أخاف أن أصيره في غفوة"...

ويَعْبُر بمشاعر جاره العاجز عن الحركة، إلى حيّز الشعر، فبعد وصف انكساره، واغترابه عن العالم، يعود ملّا إلى مشاعره الشخصيّة ليكتب: "لم يبق منه غير كائن يبرز جماله، الذابل في هشاشته، أخافه، أخاف أن أصيره في غفوة".

لذا، كان "ظلّ الخوف" عنوانًا جذريًّا للمجموعة؛ فالشعر أحد ظلال الخوف، لكنّه ظِلٌّ يعيد تجديد نفسه، ظِلٌّ لا ينتهي بانتهاء أثر كتلة الشيء من المكان، كما المعتاد.

 

رفاهيّة

ويمرّن الشاعر السوريّ ذاكرته، أو لربّما هي مَنْ يعتقله عنوة، في لحظات يتشابك بها مع الأماكن، أو الروائح، أو الملموسات؛ فيظهر حنينه إلى مركز انطلاقه إلى العالم، "أبيه". والحنين إلى المركز، في الكثير من الأوقات، رغبة في الاختباء، في عدم المجيء. يكتب ملّا: "في آخر رسالة دوّنت كلّ ما أريدك أن تعرفه عنّي، وأسقطت الورقة في نهر يصنع قوسًا حول مقبرة البلدة". ذلك القوس هو الحنين، حين يجمع كلّ أطيافه. هو نصّ الدائرة الّتي يمكن الجسد أن يتمدّد داخلها، ليصنع قبوه الأبديّ، هالته الّتي تفصله عن العالم، كما فعلت تمامًا، المسافة الوهميّة، حينما أخفت جسد الرفاق العابرين إلى ما بعد الأفق.

وللشاعر دائمًا رفاهيّة تشكيل المعنى، كمَنْ يرمي النرد بقصد، ليحصل على رقم ما، لكن مع الحياة، ثمّة نرد مستمرّ في تغيير ملامح المرء، بل محوها أيضًا في الكثير من الأحيان. ويكتب عن ذلك ملّا في نصّ "رفاهيّة المأساة": "الملامح الّتي نختفي خلفها تتركنا وتختفي هي، فلا نعود نعثر عليها، فنخرج إلى الأزقّة بلا ملامح، لا نعرف أحدًا ولا أحد يعرفنا، وكأنّنا وصلنا التوّ، وعلينا أن نبدأ من الصفر"؛ فانمساح الهويّة، يفتح على إشكاليّة محور الإنسان؛ ففي الوقت الّذي يأمَن للآخر، يمحو محوره، ويستبدل به جسد الآخر الهشّ، الّذي سرعان ما يترك المكان للفراغ، ويورّث خلفه خواء الطرف الأوّل.

 

ثقب في إنسانيّة العالم

ثمّة نصوص تعيد تعريف الإنسانيّة، أو استخراجها من مقبرتها. وفي الشعر لا يكون الأمر متّزنًا في الغالب، دائمًا ثمّة تورّط حسّيّ مع القناعة، جاذبيّة مفرطة في إعادة تشكيل الأشياء؛ ففي نصّ "الخجل" يقول ملّا: "كنت أخجل ممّا أملكه، حتّى صار الخجل سجينًا هائلًا، لم أعرف التخلّص منه قطّ، رغم أنّني لم أعد أملك ما يملكه الآخرون"، وكأنّما يريد ملّا القول إنّ العالم لديه ثقب في إنسانيّته، وهو ما يعرّضه إلى الزوال بدوام النزف. تلك الجروح الذاتيّة الّتي نصنعها بخصوصيّة، لا تصلح معها ضمادات، ولا تمحوها تفسيراتنا الشخصيّة. إنّها بحاجة إلى سكوت تامّ لكلّ البناء، أن يتحوّل الهيكل إلى رماد يتوه بين الغبار، لتتلاشى هذه الحساسيّة المفرطة.

هذه العزلة المُحْكَمَة مع الهاجس، مع الرغبة، مع كلّ سبل التكوين الّتي ينسكب فيها الإنسان، خفّة التصاقه بالصور الذهنيّة المتراكمة وثقلها، هي ماهيّة الصراع مع الوجود...

 إنّ ما يبحث عنه ملّا - برمزيّة معاكسة لِما يكتب - إنسانيّة فائضة، مصقولة من الداخل، بلا بروزات تخدش مَنْ يجاورها، الإنسانيّة الّتي يكثر في داخلها الاحتفاظ بقيمة الآخر.

ولأنّ مسؤوليّة الشعر تقوم على التلاعب بالتساؤلات، وإعادة تكريرها من الهوامش، تلوح في شعر ملّا الحيرة من أمور الحياة؛ فيتناول الغامض في نصّ "لا يُفهَم"، ويكتب: "ما قيل منذ وقت طويل لمّا أفهمه بعد، ما يهمس الآن في أذني، لا يفهمه أحد سواي: الوجود عبء، والموجودون أوزان لا تحمل غير ندمها". هذه العزلة المُحْكَمَة مع الهاجس، مع الرغبة، مع كلّ سبل التكوين الّتي ينسكب فيها الإنسان، خفّة التصاقه بالصور الذهنيّة المتراكمة وثقلها، هي ماهيّة الصراع مع الوجود، الّذي لا يتوقّف عن المجيء.

في المجموعة الشعريّة "ظلّ الخوف"، استمرار في حيازة الصوت الشعريّ القادر على تغيير تركيب المادّة الإنسانيّة، واستغراق في نحت القناعات حول العالم، وملامسة ذلك الحدّ البعيد للوعي.

 

 

حسام معروف

 

 

شاعر ومحرّر. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة، 'للموت رائحة الزجاج".