كافكا يبني برج بابل... تأمّلات في قصّة «شعار المدينة»

برج بابل | آبيل جريمر، ويكيميديا

 

"كلّ شيء بين يدَي خالق البرايا حسن، وكلّ شيء يَفسُد بين يدَي الإنسان".

إميل أو التربية، جان جاك روسو.

 

مقدّمة

يصف فالتر بنيامن أعمال كافكا على أنّها "قطع بيضاويّ تتحدّد فيه بؤرتان مركزيّتان، تعبّر عن الأولى (التجربة الدينيّة الباطنيّة Mystical Experience، التجربة التراثيّة على وجه التحديد)، أمّا [البؤرة] الثانية فتجربة العيش في المدينة الحديثة الكبيرة"[1]. ربّما لا تصدق هذه العبارة على عملٍ لكافكا أكثر من قصّة «شعار المدينة»؛ إذ يعيد كافكا في قصّته نسج الرواية الأسطوريّة لبرج بابل على غير حكاية، مستعينًا بثقل الخيال المرافق للقصص الدينيّة، ومعيدًا توظيف عناصرها في قالب أزمة مستطرفة، واصفًا حال المدينة الحديثة وصور العلاقات الّتي تجمع أهلها. غير أنّه لا يحاول رواية أسطورة حديثة تقدّم نفسها على أنّها حقيقة جديدة، وإنّما يحاول وصف وضعيّة وجوديّة تُلابس واقعًا أسطوريًّا.

يُحدِث كافكا مجموعة من التحويرات على مناخ وعناصر أسطورة برج بابل، أبرزها عدم ظهور الربّ فاعلًا محوريًّا في الحكاية، ثانيها عدم انتماء العاملين على مشروع البرج إلى جماعة واحدة...

يعلو طوال القصّة صوت واحد، يُخَيَّل إلى القارئ أنّه صوت راوٍ عليم، يروي فيها القصّة الكاملة لمشروع بناء برج بابل كما شهدها. يساعده في ذلك مسافة زمنيّة هي تجربة السنين، وأخرى مكانيّة نعرفها بالهدوء في صوته، كأنّها حكاية رجل عجوز لحفيدٍ لجوج لا يكفّ عن السؤال عن أخبار الزمن القديم. هناك في إحدى زوايا المدينة. جاءت الحكاية موجزة على شكل فقرتين تمتدّان على طول صفحة كاملة، تختصّ الأولى بوصف حكاية التخطيط للمشروع العظيم لبناء برج بابل، وأخبار الأجيال المتعاقبة الّتي نشأت في ظلّه، وفي الثانية يروي السرّ وراء شعار المدينة وصلته بمشروع بناء البرج.

 

برج بابل، بين العهد القديم وكافكا

يرد ذكر قصّة برج بابل في العهد القديم في بداية سفر التكوين. تروي الفقرات التسع الأولى من الإصحاح الحادي عشر قصّة أوّل مشروع بشريّ طموح بعد الطوفان العظيم. يهدف المشروع إلى بناء برج عظيم ليصبح مركزًا لأهل الأرض؛ عوضًا عن حالة التبعثر الّتي قد تهدّدهم، وليكون عَلَمًا لمَنْ ضاع منهم وتشرّد، واسمًا لمَنْ لم يعد يعثر على الله في داخله "هلمّ نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلّا نتبدّد على وجه كلّ الأرض" (سفر التكوين، الإصحاح 4:11). أثارت هذه المحاولة غضب الربّ، ورأى في ذلك بوادر تَخلّي البشر عنه؛ ففي ذلك عزوف عن مملكة الربّ في القلوب بمملكة أخرى هنا على الأرض، فقضى الربّ بأن يبلبل ألسنة البشر بعد أن كانت تلهج بلغة واحدة.

يُحدِث كافكا مجموعة من التحويرات على مناخ وعناصر أسطورة برج بابل، أبرزها عدم ظهور الربّ فاعلًا محوريًّا في الحكاية، ثانيها عدم انتماء العاملين على مشروع البرج إلى جماعة واحدة، ولكن إلى مجموعة من الأمم يمتلك كلٌّ منها لسانًا خاصًّا، وأمّا الغرض من البناء فلم يَعد استبدال مملكة أخرى على الأرض بمملكة الربّ، ولكن الخضوع لعظمة فكرة بناء مشروع كبير. وبالرغم من الخاتمة المأساويّة لكلا الروايتين، إلّا أنّ انهيار المشروع في حكاية كافكا جاء على يد الإنسان لا الربّ.

 

التعطيل الكبير

 ساد بين الجيل الأوّل من البناة رأي مفاده "أنّه ليس من الممكن القيام ببناء هذا البرج على نحو بطيء"[2]، إذ يتوجّب عليه أن ينجز في عمر جيل واحد. يمكننا من خلال تأمّل هذا الهاجس الرئيسيّ لصورة العلاقة المفترضة بين الفكر والواقع، أو النظر والممارسة؛ إذ يتوجّب على الفكرة أن تهبط من عليائها دفعة واحدة، فتتحقّق معجزة كاملة، لا يشوبها نقص ولا تحتاج إلى تعديل. فالواقع إذن، ذو بنية فكريّة، أم علينا القول إنّ الواقع ليس إلّا أمرًا ثانويًّا بالنسبة إلى الفكر. ومصداق ذلك الحجّة الرئيسية الّتي كانت تُسْتَخْدَم لتبرير هذا التأخير: "إنّ الجوهريّ في هذا المشروع كلّه هو فكرة بناء برج يبلغ السماء، في مقارنة هذه الفكرة بما سواها فكلّ شيء يُعَدّ ثانويًّا، ومتى كان الإمساك بالفكرة في عظمتها، فإنّه لن يكون بالإمكان أن تختفي، فطالما ثمّة بشر على هذه الأرض، فستكون هناك الرغبة القويّة في بناء البرج إلى نهايته". تطرح هذه العبارة تصوّرًا خاصًّا للعلاقة بين ثلاثة أطراف، هي الفكرة والتاريخ والرغبة؛ الفكرة في عظمتها وتعاليها، والتاريخ في علاقته بالفكرة وإطلاقه، والرغبة أو استبداد الفكرة بالإنسان. تَشخص هنا على الفور فلسفة هيجل التاريخيّة.

إنّ التاريخ وفق التصوّر الهيجليّ مسكون بالمعنى، ويستحثّ الخطى نحو غاية محدّدة. التاريخ هو تقدّم الوعي بالحرّيّة، والوعي أساسه الفكرة، أمّا الحرّيّة فهي جوهر الروح...

إنّ التاريخ وفق التصوّر الهيجليّ مسكون بالمعنى، ويستحثّ الخطى نحو غاية محدّدة. التاريخ هو تقدّم الوعي بالحرّيّة، والوعي أساسه الفكرة، أمّا الحرّيّة فهي جوهر الروح؛ فكلّ واقعة تاريخيّة هي بالضرورة عقليّة، أي تسير وفق خطّة معقولة، يحكم العقل التاريخ ويرسم أحداثه. يعي هذا العقل ذاته من داخله من خلال العقل الإنسانيّ، معبّرًا عن وعي الروح بذاتها. أمّا عن الموقعيّة الّتي يتموضع فيها هذا الوعي لكشف نظام التاريخ فهو الحاضر أو اللحظة، والّتي تمثّل النقطة الّتي ترسّبت فيها معقوليّة الماضي (التاريخ السابق)، وتكمن فيها معقوليّة المستقبل (التاريخ اللاحق). يوضّح ذلك هيجل ويقول: "وعلى حين أنّنا قصرنا اهتمامنا على فكرة الروح، ونظرنا إلى كلّ ما يحدث في تاريخ العالم، على اعتبار أنّه تجلٍّ لها فحسب، فإنّ علينا - ونحن نجتاز الماضي بالغًا ما بلغ اتّساع نطاقه - أن نتناول دراسة ما هو حاضر فحسب. ذلك لأنّ الفلسفة لمّا كانت تشغل نفسها بالحقّ، فإنّها تبحث في ما هو حاضر بطريقة أبديّة، فلا شيء من الماضي قد ضاع عندها؛ لأنّ الفكرة في حاضر دائم، فالروح خالدة، ولا يوجد عندها ماضٍ أو مستقبل، وإنّما هي في جوهرها حاضر آنيّ"[3].

يتجسّد التصوّر العقليّ للتاريخ في الجيل الأوّل على هيئة موقف عمليّ، في النظرة المتفائلة القائلة بالتقدّم، فالخوف من المستقبل ليس له ما يبرّره، بل يتوجّب علينا التطلّع إليه. خَلُص الجيل الأوّل إلى أنّ معرفة الإنسان تتراكم، وأنّ الزمان الّذي يحتاج إليه جيل اليوم لرفع البرج عشرة أمتار، سيستطيع الجيل القادم - بما يتوفّر له من خبرة ومعرفة - إنجازه في نصف الوقت الّذي أُنْجِزَ فيه في الجيل الّذي سبقه، "لماذا يتوجّب علينا اليوم أن نبذل قصارى جهدنا؟ فلن يكون لذلك معنًى"، كانت هذه الفكرة هي الحلقة الأخيرة في سلسلة الأفكار والهواجس الّتي حالت دون الشروع في بناء البرج، ووضع أساساته.

 

الورطة

بات جميع أفراد الجيل الأوّل يفكّرون في الاعتماد على الأجيال المقبلة لبناء البرج، فبالنظر إلى معرفتهم الأكثر شمولًا سيهدمون بناء الجيل السابق عليهم؛ ونتيجة لذلك سيصبح المشروع مكانًا للبناء والهدم المستمرّ، إلى أن تتحقّق القدرة النهائيّة على بنائه كاملًا ودفعة واحدة. وفي الوقت الّذي عزف فيه العاملون عن بناء البرج، هناك في الظلّ، كانت تجري عمليّة بناء من نوع آخر، إنّها مدينة العاملين. هناك حول حدود مشروع البرج، جرى الاهتمام ببناء المدينة، وبدأت أحياؤها تتوسّع وتكبر. بطبيعة الحال لم تزدهر هذه الأحياء على نحو متكافئ، فتمايز بعضها عن بعض، وأمست الأمم المختلفة الّتي اجتمعت في بادئ الأمر من أجل بناء البرج، تتنافس وتتحاسد في تزيين رفاهية أحيائها وتحسينها. أسفر ذلك عن تكوُّن عصبيّات مختلفة ونزاعات دمويّة.

برز هنا دور القادة داخل المجتمع؛ إذ كانت لهم المصلحة الكبرى في استدامة هذه الصراعات الضامنة لمصالحهم وامتيازاتهم، وبات تعطيل بناء مشروع البرج أحد أولويّاتهم، إذ يبدّد جهدًا ومالًا كثيرًا يمكنهم استثماره في مواجهة خصومهم. وبات لسان حالهم يقول: "ربّما من الأفضل الاستمرار في المشروع بعد تحقيق السلام الشامل"، وبهذا أُضيفت عقبة أخرى في الطريق إلى بناء المشروع الكبير، في حين تمثّلت العقبة الأولى في الانهمام حصرًا بفكرة المشروع، جاءت الثانية لتُقرّ بأنّ العمل لا يكون إلّا في داخل فضاء اجتماعيّ ووجوديّ خاوي ومتجانس، فلا يمكن الشروع في بناء أيّ مشروع ما دمنا في شغل آخر؛ هو الحرب في ما بيننا!

وهكذا توزّعت أوقات أهل المدينة بين نزاعات دمويّة في ساعات الحرب، وتسابُق في تحسين المدينة وتزيينها في أوقات السلم، ومن ثَمّ بدأت أشكال مختلفة من البغضاء والعداوة تتوالد...

وهكذا توزّعت أوقات أهل المدينة بين نزاعات دمويّة في ساعات الحرب، وتسابُق في تحسين المدينة وتزيينها في أوقات السلم، ومن ثَمّ بدأت أشكال مختلفة من البغضاء والعداوة تتوالد، كانت هذه نهاية الجيل الأوّل وإرثه لما أعقبه من الأجيال. غير أنّ الحال لم تتغيّر كثيرًا بعد ذلك، فلم تختلف الطريقة الّتي تفكّر فيها الأجيال اللاحقة، غير أنّها "باتت واعية بعدميّة مشروع بناء البرج". ولم يتنامَ عدا ذلك غير إدمان الحرب، ونوعيّة الأسلحة، والمهارات المرافقة لها. 

ولكن ما الّذي يمكن أن يمنع الأجيال اللاحقة من الخروج من المدينة، بعد أن وعت عبثيّة المشروع الكبير؟ تأتي الإجابة في الفقرة الأخيرة من القصّة، على نحو موجز، "ولكنّ الناس كانت مرتبطة ببعضها بعضًا إلى حدّ كبير، بشكل منعها من مغادرة المدينة". إنّها الورطة!

تشتمل علاقة التورّط على عنصرين اثنين: وجود علاقة قائمة يصعب فضّها، والثاني أنّها وضعيّة إكراه. تلك العلاقة الّتي تجمع الإنسان بالأفكار الّتي يجهد في حراستها من أطياف الشكّ. وهكذا بات الجميع متورّطًا في تلك المدينة. لم يتحقّق المشروع في صورته الكرتونيّة كما وصفها أبناء الجيل الأوّل؛ قيام فاعل إنسانيّ واعٍ يمتلك القدرة والإرادة لإنفاذ الفكرة إلى حيّز التحقّق الفعليّ. ولكن تحقّق المشروع من خلال فاعليّات متجاوزة للفاعل الإنسانيّ. بهذا لا تعدو الفكرة أكثر من أنّها إيماءة، في حين تتكفّل فواعل الغيب برسم الخطط، ويرتبط الإنسان مع منتجاتها على قاعدة «التورّط».

 

شعار المدينة، أو الأسطورة النابتة

فقط في العبارة الأخيرة من القصّة، يتكشّف المعنى من العنوان الّذي وضعه كافكا لها "كلّ ما نشأ في هذه المدينة من أساطير وأغانٍ، مسكون بالحنين إلى يوم نبوئيّ، يقول بأنّه ستُدَمَّر فيه بقبضة ضخمة، في خمس ضربات قصيرة ومتتالية. للسبب عينه كانت قبضة ترتسم على شعار المدينة". تظهر في الختام الأسطورة بحلّة جديدة، وبعيدة عن الحمولة السلبيّة الّتي يجري في العادة قرنها بها؛ فهي هنا ليست نتيجة الجهل وليست عائقًا أمام المعرفة، بل شرفة للأمل وشاهد بارز على واقع متأزّم، إذ أصبح إمكان الخروج من هذه المدينة متعذَّرًا إلّا من خلال الوساطة الباطنيّة الدينيّة. سنحاول تاليًا التوسّع في قراءة هذه الخاتمة.

يذهب التصوّر الوضعيّ، حسب أوغست كومت، إلى أنّ المجتمعات البشريّة مرّت بأطوار ثلاثة: أوّلها اللاهوتيّ الأسطوريّ، وثانيها الميتافيزيقيّ الفلسفيّ، وآخرها العلميّ الوضعيّ.

يمكن قراءة قصّة كافكا من زوايا مختلفة، ووفق جدليّات وثيمات متنوّعة: الفكر والواقع، النظر والممارسة، الله والإنسان، التاريخانيّة ونقّادها، البيروقراطيّة، الاجتماع البشريّ. ولكن ما يسترعي الانتباه هو الطريقة الّتي صُوِّرت فيها الأسطورة. يمكن قراءة القصّة على أنّها قلب للسرديّة الوضعيّة عن تطوّر المجتمعات البشريّة. إذ تظهر الأسطورة في الطور الأخير للمجتمع البشريّ، لا في مرحلة الطفولة.

يذهب التصوّر الوضعيّ، حسب أوغست كومت، إلى أنّ المجتمعات البشريّة مرّت بأطوار ثلاثة: أوّلها اللاهوتيّ الأسطوريّ، وثانيها الميتافيزيقيّ الفلسفيّ، وآخرها العلميّ الوضعيّ. تظهر هذه المرحلة الأسطوريّة اللاهوتيّة وفق التصوّر الّذي تفترضه القصّة لتطوّر الاجتماع البشريّ، في المرحلة الأخيرة لتطوّر المدينة. وفي الجهة المقابلة يتخيّل جمهور المؤمنين عادة «الأسطورة» ساقطة من السماء، ولا صلة لها في الواقع. كلا التصوّرين الوضعيّ والمؤمن يرى في الأسطورة منتجًا مفارقًا لهذا العالم، ولكن يفترقان في الحكم عليها، ونعتها بالحقيقة أو بالوهم.

يقدّم كافكا في قصّته هذه تصوّرًا جديدًا للأسطورة؛ إذ يرى فيها الأسطورة نابتة من أرض الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ الّذي تعيشه المدينة، أو على الأقلّ يتحدّث عن أسباب ضروريّة لاستدامة أسطورة معيّنة دون أخرى في المجتمع البشريّ، ويعود ذلك إلى ارتباطاتها بالواقع المعيش وتعقيداته.

تتحوّل الأسطورة، وفق هذا الطرح، من حدث تاريخيّ بعيد يخالطه الكثير من الأوهام، إلى نسيج سرديّ متخيّل يقوم داخل الفكر؛ انطلاقًا من إشكال اليوم وتأزّم أحواله؛ فالأسطورة لا تستمرّ في الوجود داخل الوعي الجمعيّ لمجرّد حدث تاريخيّ، ولكن من خلال استدامة وجودها الحيّ في أرض الواقع، من خلال الحاجة والخوف؛ الحاجة إلى إيجاد تبرير يمكنه أن يستر وجودنا الهشّ، والخوف من أن يكون العالم خلوًا من المعنى والسكينة.

يمسي في هذه الحال الله، الّذي كان الملوم الأوّل على أسباب تأخّر البشريّة وعذاباتها، تبعًا لخطاب بعض التنويريّين، هو المنقذ الوحيد من هذا الجحيم الّذي لا قدرة للإنسان على الخروج منه...

أمّا الوظيفة الّتي تشغلها الأسطورة وفق حكاية كافكا داخل المدينة، فهي وظيفة علاجيّة تفسح المجال للحياة في حاضر صعب، يختنق ببيروقراطيّة المدينة الحديثة وظلمها. ولكن هذا النوع من الحلّ يشي أيضًا نصفه الآخر عن طابع تشاؤميّ، لا يرى إمكان التغيير وإصلاح المدينة إلّا من الخارج، وبقبضة واحدة وعلى ضربات خمس (يذكّرنا هذا بتصوّرات الجيل الأولى عن الكيفيّة الّتي سيكون من خلالها تأسيس البرج). يمسي في هذه الحال الله، الّذي كان الملوم الأوّل على أسباب تأخّر البشريّة وعذاباتها، تبعًا لخطاب بعض التنويريّين، هو المنقذ الوحيد من هذا الجحيم الّذي لا قدرة للإنسان على الخروج منه. 

 

محاولة أخيرة للخلاص

ليس من السهل، أثناء قراءة قصّة كافكا، دفع شبح فالتر بنيامن الّذي يحوم حولها، ولا سيّما إذا عرفنا أنّ هذا الأخير كان مولعًا بكافكا، كما كان قد كتب واحدًا من أهمّ النصوص حوله في ذكرى وفاته العاشرة (1934). يتشارك بنيامن وكافكا المرجعيّة اليهوديّة ذاتها، كما يجمعهما موقف واحد من الحداثة والمدينة الحديثة؛ إذ يرى كلٌّ منهما أنّه لا يتوجّب علينا أن نخشى الفوضى، ولكن علينا أن نخشى وهْم النظام القادر على إخفاء الشرّ في داخله، على شكل بيروقراطيّة «بريئة» أو حقيقة تاريخيّة «محايدة».

في الواقع، يمكن فهم فلسفة بنيامن للتاريخ، الّتي جاءت مبثوثة في آخر نصوصه «حول فلسفة التاريخ» عام 1940، على أنّها محاولة لتقديم خطّة لتحريرنا من أسوار مدينة كافكا، وتعاليم إضافيّة سكتت عنها تلك القصّة، بل ربّما فلسفة للثورة تتناسب مع الشروط الجديدة لهذا العصر. ثمّة عنصران شديدا الوضوح في فلسفة بنيامن دفعانا إلى النتيجة السابقة: الأوّل ردّه على منطق الفكر التاريخيّ كما جاء على لسان الجيل الأوّل (التصوّر التاريخانيّ)، وثانيهما الإشارات المسيحانيّة الّتي تسكن نصَّي بنيامن وكافكا على السواء.

يقول بنيامن في الردّ على منطق الفكر المثاليّ، الّذي يعوّل على المستقبل في الشذرة الثانية عشرة من مقالته عن التاريخ: "إنّ كلا الركيزتين المؤسّستين لأيّ نضال فعليّ، لا يمكن أن تتحقّقا إلّا من خلال الاستبدال بصورة "الأحفاد المحرّرين"، الّتي تتغذّى عليها الجماعة المقهورة، صورة "الأجداد المستعبدين". تحذّرنا هذه العبارة من العقيدة السائدة بين الجيل الأوّل في قصّة كافكا، والّتي كانت تعوّل على التقدّم، وترى في الأحفاد الأمل لإنجاز المشروع العظيم. إنّ التقدّم حسب بنيامن ما هو إلّا عاصفة سماويّة تشير إلى جريان التاريخ، التاريخ الّذي لا يمكن فهمه إلّا على أنّه استمرار للكارثة. الاستكانة للحظة والاعتقاد بسكون التاريخ وموضوعيّته، لا يؤدّي إلّا إلى تكريس انتصار المنتصر، وتأبيد هزيمة المهزوم. 

إنّ التقدّم حسب بنيامن ما هو إلّا عاصفة سماويّة تشير إلى جريان التاريخ، التاريخ الّذي لا يمكن فهمه إلّا على أنّه استمرار للكارثة.

يتبدّى البُعْد المسيحانيّ في فلسفة بنيامن عند وصفه للحظة تكشّف صورة التاريخ للثائر والمؤرّخ الحقيقيّ، "لا يمكن الإمساك بالماضي إلّا كصورة تومض في لحظة اكتشافها بغير رجعة [...]، فصياغة الماضي تاريخيًّا لا تعني تعريفه ‘كما حدث في الواقع‘، بل تعني الاستحواذ على الذكرى كما تظهر عندما تومض في لحظات الخطر (الشذرتان الخامسة والسادسة)"، إذن، يكتسب فعل التذكّر عند بنيامن بُعْدًا خلاصيًّا، فكلّ لحظة قد تكون بوّابة يمكن أن يدخل من خلالها المسيح/ المهدي المُنْتَظَر.

ربّما لا تقدّم لنا فلسفة بنيامن للتاريخ وصفة عمليّة للتحرّر من وضعيّة التورّط، الّتي وصفها كافكا في المدينة الحديثة، ولكنّه من غير شكّ، منحتنا فلسفة تشهد على وضعيّتنا التاريخيّة؛ لتكون لعصرنا «شعارًا للمدينة».

.....

إحالات:

[1] Walter Benjamin, Illuminations, ed. Hannah Arendt, trans. Harry Zohn, First (New York: Schocken Books, n.d.) p 153.

[2] فرانز كافكا، شعار  المدينة، ترجمة رشيد بوطيب، https://www.alaraby.co.uk/شعار-المدينة

[3]  ف. هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ: العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع)، ص 85.

 

 

عمر المغربي

 

 

 

باحث من الأردنّ، حاصل على ماجستير الفلسفة من «معهد الدوحة للدراسات العليا». تتركّز اهتماماته البحثيّة في النظريّة السياسيّة وتحوّلات التقنيّة.