ثلاث محاولات لتحنيط الصوت

هيرونديل أمور | خوان ميرو

 

خذ الباب بوجهك

تقول العائلة للغاضب اخرج، اخرج وخذ الباب بوجهك.

أخذَ الباب بوجهه ولم يَعُدْ، تركهم بلا باب، وظلّ الباب في وجهه بقفلٍ دون مفاتيح، بقبضةٍ مخلوعة.

لم يفتح وجهه لأحدٍ فكانوا يكتبون عليه ما يكتبه التلاميذ في حمّامات المدارس، ما يكتبه السُّكارى على أبواب الحانات.

حاجِرهُ عن الكلام، وعن أسئلة قاعات الانتظار واللقاءات الأولى.

حاجِرهُ عن البرد، لكنّه كان يحترق في الشمس. لم يبالِ، كان يمجّ نار الحريق كسيجارة، يُراكم الدخان ولا يستطيع زفيره. كان على رئته أن تختنق، لكنْ عندما أوصد عليها، كان صوت العائلة، وظلّ الصوت في الداخل يسلّي وحشته.

إذا ما أحبَّ امرأةً كان الباب حليفه، لم يأبه أحدٌ قبلًا بوجهه، والنساءُ يُحَبِبْنَ الأبواب ويَخَفْنَ فتحها. أن يحبّ امرأةً وأن تحبّه امرأةٌ وبينهما بابٌ موصد. هذا كفايته من الآخرين.

قريبًا سيموت، بعد أن يجوّف الدخان جذعه ويصير صلالًا. ولأنّ هناك بابًا بوجهه، سيصير بيتًا، بيتًا موصدًا يحفظ صوت العائلة.

 

الأسقف الواطئة

سَقف الغرفة الواطئ تمرينٌ بطيءٌ وثقيلٌ لبيتك الأخير؛ القبر. ألّا تحبَّ الخروج من جدرانها، هذه إشارتُكَ للموت: أنا مستعدٌّ لبيتي الأخير.

ماذا تفعل بِفَضلةِ الوقت؟

تُسمّي عمود الإنارة على الرصيف المقابل شمعة.

تُسمّي الشجرة على الرصيف المقابل وردة، تركتها امرأةٌ تعلم أنّك لا تحبّ الورد، فتحوّلت إلى شجرةٍ لا تحتاج عناية أحد.

تُفكّرُ، ماذا سيحلّ بصوتكَ؟ لنْ تخسر جسدك بعد برهة من موتك، لكنّك ستخسر صوتك.

الصوت هو الشجاع فيك، يصرخ إنْ عجزت يدك عن الضرب، إن جبُنت قدماك عن الحركة.

الصوت لا يرفع سقف الغرفة، لكنّه يتسرّب من الجدار، ويُعيد للأشياء أسماءها. هذا عمود إنارةٍ لا شمعة، هذه شجرةٌ لا وردة، هذا سقفٌ، ليس قبرًا ولا شاهدة.

صوتك يخرج من الغرفة ويعطي الأشياء أسماءها إلّا اسمك الّذي لم تناديه، ولم ينادِ عليه أحد.

 

كيف تشيخ الأسماء

تهرمُ الأسماء بالاستذكار، وتشيخُ على أصحابها. احتجبوا واستبقوا أسماءهم معصومةً غير آفلة.

امرأة ردّدت اسمها في البيت الخاوي، يشيخ ولا يموت، يَثقُل جلده ولا يسقط، يَبْيَضّ شعره فيضيء إلى أن تخسر العتمة، فلا تنام.

لو مرّت أمامك الآن لقلت لها "تبدين أصغر". ستضحك لك، لكنّها أصغر من اسمها. إن أعدته لها لن تستطيع حمله. تبقيه معك وتتوارى.

لا تنبس باسم أمّك كي يظلّ لها، ولتعده إذ تراها. عامًا فعامًا تكبر أمّك ويبقى اسمها بعمر أفولك عنها. حتّى أنّك إنْ مرّةً عُدْتَ لها، سيكون اسمها صغيرًا عليها، ولن تعلم كم ستحتاج مناجاته ليعود لها.

يقول النبيّ "اعبد الله كأنّك تراه". نرددّ ذكر الله، فتكبر الكلمة، ونتوارث عمرها الأزليّ، وإذ تَثْقُلُ على قلوبنا خفّفنا من الآخرين/ الخطايا. نموت محجوبين ونورثها غيرنا ولا نَرى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أحمد قطليش

 

 

كاتب ومحرّر محتوى سوريّ مُقيم في ألمانيا، صدر له بالعربيّة كتابين في القصّة والشعر، كما أصدر كتاب «نخّال الخطى»؛ أنطولوجيا شعر الخارج السوريّ بعد 2011، وعن الألمانيّة صدر له مؤخّرًا مجموعة شعريّة مترجمة عن العربيّة بعنوان «ذاكرة الأصابع». مؤسّس منصّة «تكلام» الصوتيّة التي تُعنى بتقديم وتعريف الآداب العربيّة والعالميّة للمتلقي العربيّ.