أوجاع الرجال... مسرح للسخرية

اللوحة للفنّان العراقي سيروان باران

 

إذن، فقد انتهى بك الأمر هنا، محطّمًا مهزومًا وحيدًا مكسورًا، لم يُنجدك أحد، رغم صراخك لم يسعفك أحد، على وشك أن يتحطّم الوتد، على وشك أن يخرج الوحش الّذي منعته رجولتك حتّى الآن، ما الّذي حصل؟ أخبرني قبل أن تخترق أطراف الوحش جسدك، قبل أن يهرب الوحش إلى أعماق سواد الفوّهة، ما الّذي حصل لينتهي بك الأمر في سواد لا يعرفه غيرنا؟

(يبكي الرجل الّذي يكاد وحشًا يكون)

لا أحد يستمع إلى صراخنا، لم يستمعوا قطّ في الحقيقة، لكن في قعر تجمع ما هو خراء نستقرّ أبدًا، لم يستمع إلى صراخنا أيّ الحدّين، أولئك الّذين يحملون كلمة الله "كافر زنديق ممسوخ" يصرخون، وفي أحشاء كلمة الله سكّان يلقون على كاهلك الواجب، واجب الرجولة، واجب المنح، واجب البذل، واجب الزوال إن اقتضت حاجة الله، باذلًا نفسك، تهرب منهم إليهم، إلى من هم مثلهم، لكنّك هناك أنت المعتدي، صفات ما هو سيّئ تُحمل "لا، لست كذلك" لكنّ الواحد هو الجمع، منتهك واحد مثلك يعني أنّه أنت وكلّ من هو أنت، منتهك وضحيّة، كما هناك، منتهك لحرمة ما أقرّه الله، يتبعون اسمه برحمة لا يملكون، فتصبح الرحمة جزءًا من اسم لم يعُد له معنًى، رغم أنّه قد يكون وتدًا يكبح جماح وحش خائف، أترى؟ وسط حبل مشدود من طرفين يقبح الهزيل، يتوازن على حبل يحترق يكاد ينقطع في أيّة لحظة، لكن به يتشبّث الرجل العاديّ يقود حياة عاديّة، لكن ما إن يشدّ أحد الحدّين الحبل نحوه حتّى تصيبك الرماح، تنزف، لا تزال تحاول أن تقود حياة عاديّة تُهدئ روح الوحش الخائف فيك، وتشدّ أحكام الأوتاد حوله.

تُناجي وحدتك "وحيد أنا، وحيد بلا دفء، غطاء أو جسد، غطاء أو جسد" متضرّعًا، حتّى يلحقك عار ألّا تكون رجلًا بما يكفي لتشتري امرأة، أو هكذا ينادي أناس مَنشَأ ولادتك. ألّا تستطيع معناه أنّك بلا رمح أو ماشية تستبدل بها، لكنّك تصرخ، لا، لست جبانًا حتّى أرضى بما هو امتهان لكلّ ما أؤمن، حبٌّ أريده، وإن كانت حربكم فليكن، تفتح ذراعيك للسوط والحجارة "خنزير رخيص" يصرخون، ملعون النشأة فقير النخوة لكنّك ما زلت تناجي وحدتك، في منابر الحدّ الآخر، لكن صمت وتجاهل وربّما سخرية هي نصيبك إن بُحت "لا يمكن لمن هو معتدٍ أن يكون وحيدًا، وإن كنت وحيدًا فما شأننا نحن الضحايا أن نقلق بما هو في النهاية عدوّنا؟". تتساءل إن كنت قد أخطأت عندما أشرت إلى نفسك، لا بحليف صامت يهزّ رأسه إيجابًا أيّما كانت المقولة "صوابًا صوابًا"، ينشدون، لكنّك تقول "لكن" حتّى تأتيك سياط مشابهة للسياط الّتي هربت منها أوّل مرّة "لا لكن، إمّا حليفًا صامتًا أو وحشًا في سرير وحش آخر، فيلغي الوحشان بعضهما، إمّا ضحيّة أو جلاد، إمّا ضحيّة أو عدوّ، إمّا حليفًا صامتًا أو عدوّ".

"أرى آلامكم، أراها وأسمعها ولا أفترض، لماذا تفترضون؟ لماذا تجلدون؟" "الواحد هو الكلّ، الواحد منكم معتدٍ وهو كلّكم، وكلّنا ضحيّة" "لكن لكلّ سبعة يلتهمهم الظلام واحد، الواحد مهمّ، الواحد يساوي الكلّ، لكن الضوء لكلّ واحد، الألم لا يُحتكر" "الواحد هو كلّنا، وكلّنا أي نحن وليس كلّ واحد، وسبعة قليل على ما هو في النهاية عدوّ، سبعة انتصارات وهزيمة نبكي دويّها".

حاولت مرّة أن أصرخ وجعي، وجع عقلي وهو يغرق في أعماق أعماق الظلمة، ضحكات ومقارنات، هذا كلّ ما وجدته، بكيت وجعي مرّة، مرّة واحدة لمن يبكي دائمًا أوجاعه على صدري وأنا مصغٍ، لكن وفي تلك المرّة الّتي وجدت فيها نفسي هشًّا سامًّا معتدًّا أنانيًّا أصبحت "لماذا تبكي والموازين لك تنحني؟ لماذا تبكي وقد ولدت رمحًا؟" "لكن هذا خداع" تقول حرجًا، حتّى تجد نفسك المنتقم منه بديلًا عن كلّ ما أنت تمثّله، أمّا عن أولئك في الحدّ الآخر فلا يصدّقون أوجاع الرجال، أوجاع الرجال وهْم، وما من رجل يبكي الوهم.

في القاع حيث يجتمع الخراء تستقرّ أوجاع الرجال الّذين يحاولون الحياة، في القاع بالقرب من الفوّهة العظيمة، الّتي لا يدرك أيّ أحد غير هؤلاء الرجال مدى سوادها، تنزلق قدم خلف أخرى، في قاع المقعّر أو الهرم، بحسب من تسأل، هنالك فوّهة لا أحد يعرفها سوانا نحن، هناك حيث تجد كلّ الرضَّع المشوّهين ممّن لم يكونوا جديرين بالحرب، يُلقَون من على سفح جبل نحو ذلك القاع، هناك كلّ الجنود الّذين اخترقت أجسادهم الرماح والسيوف والرصاصات، هناك كلّ من حاولوا أن يهربوا من الظلام، هناك كلّ الرجال الّذين لم يقدروا أن يصبحوا رجالًا، هناك الضعفاء جدًّا يستقرّون، حيث يلتهم الوحش الخائف جثث الأطفال ليصبح أقوى وأكثر عضبًا، متسلّقًا بأطرافه الّتي اخترقت جسد الضعيف؛ ليفترس أيّة فريسة؛ رجلًا آخر، امرأة، طفلًا، حيوانًا، لا يهمّ.

عندما أصبحت أوجاعك مسرحًا للسخرية، عندما كنت وما زلت وستبقى شيئًا يمكن التخلّص منه، عندما أصبحت شهامتك، شجاعتك، أبوّتك، حنانك، حبّك، ضحكتك، بكاؤك، هشاشتك، قوّتك، حاجتك، رغبتك، منحك، عبادتك، إلحادك، شكلك، رمحك، صرخاتك، موجوعًا كنت أو وحشًا، كلّها يساوي صفرًا، صفرًا لا يكبحه وتد، تلقي نفسك أنت الصفر إلى فوّهتين، أو تصمت لتبقى صفرًا، لا ينفكّ الصفر إلّا أن يكون صفرًا.

 


 

حكيم خاطر

 

 

كاتب وروائيّ فلسطينيّ. صدرت له رواية "الفتاة" عام 2017، ورواية "كليشيه وديستوبيا" عام 2019، الحاصلة على جائزة تشجيعيّة وإشادة من مؤسّسة عبد المحسن القطّان في مسابقة الكاتب الشابّ - حقل الرواية.