جسد خريفيّ جافّ

القبلة | غوستاف كليمت

 

كان الفصل خريفًا. جسدي جافّ وحارّ جدًّا، وأنا أغالب رغبة ملحّة في البكاء على أشياء لم يكن لي دور في حدوثها… أمّي أغلقت الباب وهي تحذّرني بصوت بائس: "إن لم تعودي من أجلي اليوم، ستعودين من أجلك يومًا ما".

الطريق من البيت إلى المعهد طويل والفصل خريف، وجسدي حارّ جدًا، أبحث عن مكان مناسب لأجلس فيه مع حزني وأبكي قليلًا، ثمّ أذهب لمداومة فصلي. جلستُ تحت شجرة سرو عالية مختبئة من أعين المارّة والمتطفّلين الّذين يدرسون معي، وأطلقت العنان لمشاعري دفعة واحدة، لوهلة ظننت الفصل شتاءً، وشعرت أنّ جسدي اخضوضر وانتعش قليلًا، وأنّ كلّ ما حصل وسيحصل ليس سوى خريف مارّ. كان واقفًا أمامي كما كنت أحلم به دائمًا، ينفث دخان سيجارته في وجهي وينظر إليّ بعينيه الساحرتين، لم أتمالك نفسي في تلك اللحظة، ارتميت عليه دفعة واحدة، ولم أترك له فرصة ليقول أيّ شيء.

كانت تلك المرّة الأولى الّتي أقترب فيها من جسد رجل كلّ ذلك القرب، كنت كمَنْ يسبح وحيدًا، عاريًا في ليل الشتاء، عيناه مغمضتان وشفتاه ترتعشان، والكون يهتزّ مع اهتزاز نبضي، وكأنّ سرب حمام كان يرفرف داخل قلبي.

أنتَ أشبه بغيبوبة قصيرة وأنا غارقة في الحزن، في النشوة والاندفاع والحماس، جسدي يتلوّى بين أحضانه وأنا غير قادرة على الوصول إلى سرّ ذلك، وسط البصاق المتناثر من فمي، والمخاط الّذي أبتلعه بين الحين والآخر، وبحر الدموع الّذي تمنّيت أن يصل إلى الله. قبّلني، مدّ لسانه ولعق مزيج الدموع والبصاق العالق في شفتيّ، ثمّ بحركة ما زلت غير قادرة على وصفها، دخلني بلسانه، تمنّيت أن يسحب معه أوجاعي وذكرياتي وهذا الخريف.

لم أكن أنّ ما فعله كان قبلة في البداية، كنت أظنّه يواسيني فحسب، كنت أظنّه فعلًا غريبًا وكفى، كنت أظنّه حبًّا. لا أعرف ما الّذي تعنيه تلك الحركة في هذه اللحظة، لكنّ ما فعله، أسميته حبًّا وعشت به. فرّقنا رنين الجرس وصراخ التلاميذ العائدين إلى منازلهم، وصوت الرعد الّذي ينبئ بزوال أمطار مستعجلة. إنّه فصل الخريف وجسدي جافّ وحارّ، وذهني مشوّش ومضطرب، وبعض الصور ممزّقة، لا أستطيع إعادة تركيبها على الرّغم أنّني أراها بوضوح مزعج.

في اليوم التالي، وبينما كنت أسير في ساحة المعهد وصوت أمّي يتردّد في ذهني: "إن لم تعودي من أجلي اليوم، ستعودين من أجلك يومًا ما"، لاحظت أنّ الجميع يسترق النظر إليّ، كانوا يضحكون في الخفاء، وكنت أظنّ أنّ الأمر عاديّ وروتينيّ؛ فقد تعوّدت على سخريتهم منّي. لم أتوصّل إلى معرفة السبب، قد تكون الكتب الّتي أحملها من المكتبة لقراءتها في أوقات الفراغ، وقد كنت الوحيدة الّتي تفعل ذلك، فكنت النشاز في مجتمع يعتبر الّذي يقرأ كتبًا مجنونًا، في طريقه إلى الجنون، أو على الأقلّ يريد أن يصبح "مثقّفًا"، وفي مجتمعي تعني "مسخرة"، وربّما لأنّ لا أصدقاء لي لأتجوّل معهم وألقي عليهم النكات السخيفة، وربّما لأسباب أخرى لا أستطيع التوصّل لها، لكنّهم في ذلك اليوم كانوا جدّيّين أكثر في ضحكهم، وقد لاحظت أنّهم ينظرون تارة إلى هواتفهم وتارة ينظرون إليّ، ثمّ يضحكون فرادى وجماعات. لم أستطع تمالك نفسي، فسحبت هاتف أحدهم ورأيت ما لم أتوقّعه؛ تلك القبلة البسيطة الصادقة الّتي أسميتها حبًّا، وذلك العناق العميق الّذي أسميته مواساة، صارا شريط فيديو، شريط فيديو يعطيهم ألف سبب للسخرية منّي.

انتابني غضب مقيت، لم أكن أعرف ماذا أفعل، عادت إليّ ذكرى القبلة ووقوف صديقه بالقرب منّا، لقد كذب عليّ، جسده أيضًا كان يكذب… كيف يتصنّعون الحنان كيف؟

ركضت إلى آخر الساحة ثمّ صعدت إلى الطابق الثالث وصرخت بأعلى صوتي: "اسمعوني… اسمعوني… لقد فعلت ذلك كلّه، لقد فعلته وأنا في كامل مداركي العقليّة، وإن كنتم تريدون السخرية منه، فاضحكوا… أريدكم أن تضحكوا أكثر، يشعرني ضحككم المتواصل منّي بالراحة".

عدت إلى أمّي في ذلك اليوم بعينين متورّمتين من كثرة البكاء، عانقتها بشدّة، وقلت دون أن أحرّك شفتيّ "ها قد عدت من أجلي."

الفصل خريف وجسدي جافّ وحارّ جدًا. الطريق من البيت إلى المعهد طويل جدًّا، وأنا صرت مشهورة في معهدي. كلّ الصبيان الّذين أعرفهم ولا أعرفهم يتودّدون إليّ… حتّى أنّ أحدهم في الصباح ركع على ركبتيه وربط حذائي.

 

 


 

نيران الطرابلسي

 

 

 

كاتبة تونسيّة من مواليد 1993، أصدرت مجموعة قصصيّة بعنوان "نمفومانيا" (2019)، عن دار "ميارة" للنشر والتوزيع، وهي من مؤسّسي تظاهرة "فنتازيا" الأدبيّة الشبابيّة. تعمل معلّمة لمرضى التوحّد.