نبيّ في الحكي وشجرة في المدينة

فان جوخ

 

خِضْرٌ قصير، خِضْرٌ طويل؛ تَحْمِلُهم الحِكْمة على أن يرقصوا حول جسدي جَذَلًا وترنّحًا، يتلمّسون الحياة في أطرافي؛ يستاؤون بردًا، ويطويهم المدى في الفهم.  

إلامَ يطمح هذا الخِضْرُ الغضّ في عقله؟ 

تنبري الأشواك من بين يديّ، وتهذِّب الأطباعُ السّيوف، كان قد مرّ ببلدٍ آمن، مَلِكٌ وطغى، وخلع نفسه من ثقبٍ أعلى في السقف؛ كان السقف فوق رأسه كقبعة مخفيّة، لا تتبدّى إلا لتذلّ صاحبها/ هو في بعض الأحيان، وكذا خطيئة الآخرين المتدلّية من أجسادهم، كمَنْ يحمل عضوًا منه خارج جسده، يصير نشازًا، لكنّه متخفٍّ، عصيّ على الإذلال، والناس بجيوب الكنغر يحملون أعضاءهم الملولة، المجروحة، المبعوثة على الألم والصمت، رؤوسهم للشيطان، وقلوبهم للربّ، وفيما بين الربّ وعبده مصاطب من حديدٍ صَلْد، تفصل الصوت عن الآخر، فصْلَ الكون عن منتهاه. 

والبلادُ إرم ذات العماد، جنّة بلا سجون تبينُ كلّ أربعين عامًا، عطشى هم قبلها، جوعى بعدها، فلحظة الحضور الكلّ يكبّل نفسه بأريكته، بصورته، بحظوته، بقصيدته، طفل يسأل أباه: 

أليس من الممكن أن نجد ما يمتّعنا هناك، بعد أربعين عامًا، ستكون قدماي قد وثقتا في الأرض، وسأقف مشدوهًا مثلكم، أليس ممكنًا أن أبين لكم معها، بعد أربعين عامًا؟ 

فزع الأب على ولده، وقال:

- ملك نعرفه خيرٌ من ملك لا نعرفه، وجورٌ اعتدنا عليه أفضل من جور لا نعرف له حدًّا. 

غفل، وتسلّل الطفل إلى لحظة الحضور، تلك كانت رحلة لم يحكِ عنها أحد، قالوا:

- أكلت كبده الساحرة، أو قتلته الصحراء، أو تاه مع الغجر. 

وأنجب أبوه أفرادًا من بعده، فاتتهم فرصة ألّا تثبت أقدامهم في الأرض. تلك كانت حكاية الأب الّذي فقد ابنه، في لحظة فزع لجزء غابر من التاريخ.

وأمّا بعد، حكاية الابن.

لم يكن ليعرف شيئًا غير أنّه الابن لذلك الرجل العالقة أقدامه في ضروب الأرض، وأنّ السرد لا يعني به مؤكّدًا الابن المسيح، ولم يبجّله حدّ أن يجعل منه استنساخًا لشخصيّة عظيمة غيّرت مسار البشريّة وطبيعتها الربّانيّة، الأب الربّ إن لم أعرف أبي، لوهلة هوس بفكرة تشبه هذه، ولمدّة غير وجيزة بعدئذٍ، صار نبيًّا، وجال في الأزقّة باحثًا عن صبيّ صغير، يحكي له بعضًا من رؤياه. إلّا أنّ هذا التاريخ المستعار في البلد عصيّ الظهور، إرم، وفيها لم يكن أحدٌ يطرح صبيانه في الأزقّة، ولم يكن من السهل أن يبشّر أحدهم بنبوّة أو استنارة، لم يكن ثمّة من احتمال للضلال والرفقة والتجربة والحكمة والحيرة أمام القاتل، ولا غدر، ولا دفين، لم يكن ثمّة غراب يعلن لنا سرّ الحياة في البَدْء، ولا مخلوقات يحذو حذوها حائرٌ من بني يقظان، لم يكن ثمّة حيّز لخضر جديد خالص الابتكار لهذه المجرّة المسمّاة بإرم، هنا كان لا بدّ من ابتكار استنارة جديدة، وعقل آخر، يحاكم موجودات، وصياغة مبتكرة للطريقة. 

من أين يبدأ رجل الزمن الأرضيّ طريقته في مجرّة إرم؟

قيل في الأرض، إنّ الرجل عليه أن يتجرّد من ذاكرته، وكلّ محاولات عقله الناجعة وغير الناجعة لحظة الدهشة الجديدة، تجاه شيء لم يتمرّس فيه المرء، وقيل إنّ هذا يشبه أن تكون ورقة بيضاء في قلبها نهر جارٍ، يغسل ما قد يُخَطّ محاولةً لإيابٍ آخر، نحو فكرة قديمة، وشعور مألوف، وانفعال يتكرّر، وشدق وجه ينفرج بالطريقة ذاتها.

ليس لإرم. لا أن تجعل لكلّ قاتل فيها سماءً يخطّ عليها رسمًا لغراب يجد لحده في كبده، وتتوالى السماوات، والعيون أقلامٌ تعلّم الحكاية، وجهٌ للأعلى وصوتٌ يرتدي سيفًا منصوبًا في الحنجرة، يرتفع الكلام، ليحفر جذر السيف حوله مزيدًا من الأُدُم... لم يعجب الغريب من الكلام الأعلى، كان رؤيا العين تستقيم إلى ما هو فاتن غبارُه، مدن تقوم على أخرى، ولا تغيب واحدة عن ثانية، ولا ثالثة عن رابعة، إنّها المسألة بحر من الإبصار يفتتن في وجوده، لم تُحْسَم اللغة بعد: منها الثقيل، منها القاتل، منها الموجع، منها تأبين الغراب يخرج من لحاء كلّ سنديان، وينتفض مثل موتى في رعشة متأخّرة تسري في الأرض، وتهدّ جسور الخروج منها، عالقون، إنّها حتميّة اللاوجود بعيدة وممتدّة ومحيّرة، لكنّها لم تزل، تحاول نصب فخّ السؤال وترسم ظلّ الإجابة في المادّة، وأيّ شمس تلك سيجدها المرء تحت الأرض لتنير له لغز السؤال، وتمدّ له ظلًّا باهتًا مبهمًا بعيدًا، فيتناسى المدى الفسيح لأجله، كيف يُمْكِن لتجربة سقفها سماء أن يصير سقفها أرضًا؟

 ظمئ ليحكي، ومشى كثيرًا، إنّه لا بدّ المكان، عليه أن يستبشر، إلّا أنّ الرؤية الأولى لا تنكر ما رأته، المكان هو كلّ ما حولنا، هكذا تعوّد، وهذا صار اسم كلّ ما يتعثّر به في الرؤيا، إلّا أنّه لا يعقل أن يحمل اعتبار المادّة الآن، وخاصّةً أنّه وصل إلى هنا شابًّا؛ أي أنّ عمرًا قد ضاع في الرحلة، وقد تأتلف الحواسّ الآن مع لغة جديدة كلّ الجدّة؛ فقد خشي أن يفقد ألفته القديمة الطفوليّة، وبان خوفه بعد أن صارت الصور في رأسه صغيرة، ربّما هذا ما يحدث عندما يكون المكان الأكبر وحيدًا، ثمّ تخرج منها إلى مغاير، ثمّ تكثر الأماكن، وتصير فجأة أكبر... أمّا هي تصير جزءًا. بلا مسمّى، كلّ ما يحيط يمكن أن يصبح مكانًا/ مأوى. نظر إلى رمل الصحراء حوله، وفطن أنّ المكان الوحيد الّذي يمكن أن يكون مكانًا، زاوية الظلّ المنفرجة، فيها يمكن لأيّ شيء أن يأخذ شكلًا، وما دونه، وجود غير كامل التكوين لموادّ أوّليّة. أعجبته الفكرة، لا يهمّ إن كانت ساذجة، فهو هنا ليجرّب، أخذ يدور في مكانه لعبًا مع زواياه، ووجد في نفسه كيانًا لافتًا يمكن أن يعطي شكلًا لما يحيط به، وظلّت هذه الصحراء كلّها جزءًا لا يتجزّأ من لحظة عبوره نهارًا، عندما يُتاح لأن تلتقي بظلّه، ثمّ تختفي باختفاء عينيه، أغمضهما، ثمّ نظر إلى الشمس وغمز لها، وقال: حسن يا شريكي، استطرد وقال: حسن يا شريكتي، لم ينادِ أبي السماء يومًا... مَنْ أنت؟ إلّا أنّك لا تلد، وتجبر على القذى، وتستوطن بحرًا مرتفعًا، حسن أن تكون رجلًا صلبًا كأبناء قريتي. 

وبعد أن كثرت في نفسه الأقاويل، حسم مسألة المادّة، إلّا أنّه قد تعثّر بحجر أودى بوجهه في التراب، ونسي أن ينفضه، وقابل السيّدة الشجرة متعثّرًا متّسخًا، حاملًا السؤال بين يديه. 

- السؤال معي منذ أن قرّرتُ الولوج في السحابة. 

- لم تجئ لتعرف، بل جئت لتحكي. 

- لم أجد مَنْ أحكي له. 

- أَبَّنْتُ صوتي، لتعرف، وليس لآذن لك بالكلام. 

- هل نقول ظهر الشمس أم ظهرت الشمس؟ 

- ما قولك؟ 

- ظهر الشمس. 

- ليست شمسًا، وإنّما عين تتفقّد أحوال الصحراء، وقد رأتك ففزعت، من أين خرجت؟ 

- تسلّلتُ من السحابة. 

- اُخرج قبل أن تصير رملًا. 

- أنا وجود الظلّ، أمنح الزاوية لهذه البسيطة. 

- وجودك بها غير مقترن، طالما العين غافلة، فإن طالت غفلتها انفصلت عن الشيء، ولم تعد تُعْنى به. 

  هكذا أومأ له العدم بالغربة بعدما فكّر عن آخرِه بآخرِه/ المبتغى، وابتأسَ من هذه النتيجة.  لكنّ الزمان/ التاريخ/ صحيفة الخطاب الواسعة لم يفتأ يجعل النّبوءة مُرْضِيَةً على نَحْوٍ ما.

في البَدْء، لمعت الفكرة برأس الصبيّ ونضجت واكتملت أركانها، ولم يكن ضربُه الأرضَ فيه نوعًا من التواء السلطة على حجّتها وسبيلها، بل حربًا من نوع آخر، وسلامًا نفذ، أيضًا عن آخره. في البَدْء، كانت السيرورة وحيلولتها، البداية والنهاية، ولم تنفصل الحبكة عن الأشياء إلّا في ذهن الصبيّ، الّذي أدمن التفكير، وفقد السيطرة على أفكاره، ويمكن القول إنّه عندما حدث ذلك، كان الزمان قد تغلغل في الأشياء. 

لم يكن الزمن قبل الإدراك، لكن عندما أدركت الأشياء داخل الإطار الزمنيّ امتلكت منطقيّة الحبكة، وصارت تبتدئ وتنتهي ضمن سيرورة معينة، يُرْضِخُها الصّبي أوّلًا للعقل، ويقولبها، ويصفّيها من شوائب الامتصاص العفويّ والسريع، من ثمّ يخرجها ضمن تعليقات هامشيّة، كخطاب فلسفيّ، أو أسطورة، أو حكاية مأثورة، ضمن حبكة أكثر فنّيّة وإغراء، وتستمرّ قصّة الأشياء، لم يطل الوقت لتكتمل، مثل سرعة تكوين الصبيّ، لكنّ العقل أخذ يعيد التفكير، ويكتب، ويرقص، ثمّ وجد في نفسه رغبةً في الاكتشاف، فركب السحابة، وقفز عن عمر اكتمال التكوين، صار عقلًا مدركًا هكذا فجأة، وارتبك بماهيّة الرمل، وبطء ظهور الشجرة. 

لا أحد هنا، أستمرّ أجول دون جدوى، أطرق السمع، لكن أبدًا...

بعد ليالٍ من تحوّل صورة الزمان، ليل نهار، بدأ الصبيّ الشابّ غريقَ تثاؤبه الطويل، بعد الشجرة لم ينطق شيء، وتحوّل كلّ ما يفكّر فيه إلى مونولوج حول ما آلت إليه الأشياء، لكنّه لم ينتقل حديثًا متّسقًا بين الأقران، ولم يرق لأحد، ولم يتبعه تابع، ولم تنبُ جرّاءه فئة من الناس، ولم تسر أخرى في سبيل النهاية من غير تفكير، وصار الزمن امتدادًا لنهاية لا تنتهي. فكّر كثيرًا على شاكلة الصبيّ، إلّا أنّ التكوين ظلّ يعيد نفسه لأزمانٍ طويلة، وكانت معركة الفرادة.

ولن تكتمل صورته هنا، هذا الصمت أزليّ، والسحابة كانت فخًّا لرغبته بالفرادة، والدهشة... غريبٌ أن يكون كلّ ما أرّق قومه رتابة لا متناهية، غريبٌ أن يقف أقرانه مصطفّين سرًّا يهمسون بالغرائب والمعجزات عنها، غريب أنّه لا يجد شيئًا... لا شيء... الشمس هي الشمس هناك في قريته، والرمل... والشجرة. الشجرة الّتي تشبّهت بوجهه وصوته وحاورته.

سيقول لاحقًا إنّ الفرادة/ الحظوة، مجرّد حدث يسم الحقائق بغير ما كانت به، عبر اللغة، لن تكون الأشياء موجودةً فقط، بل ستدخل ظلالها إلى الرأس، وسينبغي على الصبيّ أن يتلمّسها جيّدًا، قبل أن تتفشّى بخصائصها ويصير مستسلمًا مفتونًا بها، ومنسابًا لحركتها رغمًا عنه، وسيقرّر أن يفوز في الحرب وأن يحوز على عقل خالص، وأن يسترجع الحبكة.

قال أحدٌ ما حقًّا: 

- إنّ الحبكة ارتجالٌ، ولن يضير أن يضيق هذا الوجود غير الملهم بالارتجال.

وتربّص بالسحابة، ها هو أخيرًا، سينزل إلى عين وجوده، ها هو باب القرية، سيعود صبيًّا كما كان، وسيسأله أبوه فيما قضى ليلته، سيقول إنّه نام خلف الشجرة في القرية المجاورة ليلتقط أرنبًا، لكنّ أرنبًا لم يأتِ، وغاب في رؤيةٍ عن شمسٍ تسجد له، وعن شجرةٍ تطرح ثمارها له، وعن صحراءَ تطوي نفسها على جسده، فرح أبوه، وقال: نبا منّا صبيّ. 

 


 

حَلا السويدات - كاتبة وباحثة أردنيّة، حاصلة على الماجستير في النقد الحديث من الجامعة الأردنيّة. صدر لها كتاب “نوارس لا تهاجر” وكتاب “الإشارات”. تنشر في عدد من الصحف والمنابر العربيّة.