محمّد العمراوي… شعر يحاور تنوّع الأشكال

محمد العمراوي

 

بدأ كتابة الشعر حين كان في المغرب الّتي غادرها في الثمانينات، وكان آنذاك في عامه الـ 24؛ ليستقرّ في مدينة ليون الفرنسيّة. أثرى خلال إقامته تجربته الشعريّة؛ عن طريق انخراطه المستمرّ في مختلف النشاطات والأشكال الشعريّة السائدة في فرنسا، واستفاد من التوجّهات الفنّيّة والمدارس الشعريّة الّتي هي أكثر تعدّدًا وانفتاحًا وتنوّعًا، مقارنة بالأشكال الشعريّة الموجودة في المنطقة العربيّة. ففضلًا على نمط «الإلقاء الشعريّ» (Le récital)، وهو الشكل التقليديّ لقراءة الشعر دون أيّ إضافات أدائيّة أو صوتيّة على النصّ، ثمّة أشكال شعريّة أخرى متداولة في فرنسا وأوروبّا بشكل عامّ، وتأخذ تسميات متعدّدة ومتباينة، لكن نستطيع أن نُجْمِلَها، من باب التوضيح، في أنواع عدّة: «الشعر الأدائيّ» (La poésie-performance)، وهو شعر كُتِبَ حصرًا بهدف تأديته أمام الجمهور، وهذا يتطلّب من الشاعر أن يكسر قالب الجلسة الوقورة والوضعيّة الثابتة، الّتي يأخذها عادة الشعراء في قراءة نصوصهم، ويستدعي أيضًا طريقة معيّنة في كتابة النصّ. ويُعْتَبَر هذا الشكل مزيجًا من تداخل حقول فنّيّة مختلفة؛ فنّ الأداء والفنون البصريّة والشعر الصوتيّ. وثمّة أيضًا «العروض الشعريّة» (La poésie spectacle)، ويأخذ الشعر هنا طابع الإنتاج المسرحيّ برفقة الممثّلين. و«الشعر الصوتيّ» (La poésie sonore)، وهو ممارسة شعريّة شفهيّة باستخدام الصوت والتنويع عليه والتلاعب به. ويمكن أن يعتمد على النطق المباشر أو من خلال جهاز تسجيل صوتيّ، وقد ظهر هذا المصطلح في فرنسا عام 1958. وثمّة أيضًا «الصلام» (Le slam) ، وهو ليس شعرًا بقدر ما هو تفرّع عن الشعر، وقد بدأه الشاعر الأميركيّ مارك سميث Mark Smith في الثمانينات في شيكاغو، وكان ذلك بمحض الصدفة، حين ذهب لمرافقة صديقته في قراءة شعريّة جماعيّة، فصدمه غياب الطاقة والديناميكيّة في ذلك اللقاء، وتجاهُل الشعراء الحاضرين الشبه التامّ للجمهور؛ فقرّر تنظيم مسابقة شعريّة مفتوحة يشارك فيها مَنْ يريد من الجمهور، وكان هذا ناجحًا بشكل مذهل، إلى أن انتقل إلى كلّ أوروبّا خلال سنين التسعينات. وهذا النوع من الكتابة والقراءة يعتمد على المهارة الخطابيّة وقوّة الكلام، ويتناول في المجمل قضايا اجتماعيّة ويوميّة. أحد رموزه في فرنسا هو الفنّان «Grand corps malade» (الجسم الكبير المريض)، الّذي تصدر قراءاته في ألبومات، وتُقَدَّم على مسارح وأحيانًا تُعْرَض في التلفاز، وله جمهور واسع نسبيًّا في فرنسا، وجمهور من الشباب عادةً. وفي الحقيقة،فإنّ تنوّع هذه الأشكال الشعريّة، والتفرّعات الفنّيّة العديدة عنها، قد تبدو للبعض حيادًا عن جوهر الشعر، وشكلًا من أشكال التلاعب اللفظيّ، إلّا أنّها من جهة أخرى تساهم في التخفيف من أزمة الشعر، وردم الهوّة مع الجمهور، وزيادة القرّاء والمستمعين للشعر، وهي مشكلة عالميّة بلا استثناء تقريبًا، وهو نوع من ‘الدمقرطة الفنّيّة‘ الّتي تطغى على كلّ أشكال الفنّ المعاصر وتوجّهاته.

تكوّنت تجربة العمراوي في هذا السياق من التنوّع، وتزاحم الأشكال الفنّيّة والتوجّهات الشعريّة؛ ليصبح الآن شاعرًا أدائيًّا صوتيًّا معروفًا على مستوى فرنسا، ومن الشعراء العرب القلائل الّذين خاضوا تجربة حوار الأشكال المعاصرة للقصيدة الأوروبّيّة، ومزج بها ثقافته الشعريّة العربيّة، وهذا ما أثرى من تجربته وميّزها بين مجايليه من الشعراء الفرنسيّين. ويقدّم قراءات مشتركة مع شعراء صوتيّين مكرّسين مثل سِيرج بيه Serg Pay، وأيضًا برفقة موسيقيّين ومغنّين من فرق موسيقيّة مختلفة، سواء كانت شرقيّة كـ «الثلاثيّ زرياب» (Trio Zyriab)، أو غربيّة لموسيقيّين فرنسيّين مثل «Brain Damage»؛ فهو يوظّف قصائده في كلّ ما هو متاح من الأشكال الفنّيّة والشعريّة المعاصرة؛ ففضلًا على شعره الأدائيّ الّذي يعتبره محورًا أساسيًّا في تجربته الأدبيّة، فهو يعلّق قصائده قرب صور فوتوغرافيّة لمصوّرين ورسّامين، وترافق قصائده أعمال فيديو، ويُنْتِج كتبًا شعريّة مصوّرة، وعروضًا شعريّة لأطفال، ولا سيّما مع الموسيقيّ الفرنسيّ ذي الأصول الإيطاليّة ديمتري بيركو Dimitri Porcu. هذا إضافة إلى تجربته الطويلة في تنظيم ورشات كتابة إبداعيّة، في المدارس والمؤسّسات الثقافيّة والسجون والمستشفيات. لهذا، فإنّ كلّ حياة محمّد العمراوي وتجربته تدوران حول الشعر، وتحاور أشكاله، وتندمج مع أنواعه المعاصرة المختلفة والفنون الّتي تتقاطع معها.

ما يميّز قصائد العمراوي، الّذي يكتب باللغتين العربيّة والفرنسيّة، اهتمامه بالشكل الشعريّ والصوتيّ لنصوصه، ولا يقتصر اهتمامه فقط على المعنى؛ فالشكل الشعريّ للقصيدة، بصريًّا على الصفحة أو صوتيًّا عند القراءة، يشكّل بالنسبة إلى العمراوي سؤالًا محوريًّا في عمليّة الخلق الشعريّ لديه، في بناء قصيدته، وتشكيل المعنى، وبلورة الرؤية. وهو واضح في توجّهه الفنّيّ، حريص على نصّ بدلالات مركّبة، حتّى لو قاد ذلك قصائده إلى الغموض والتعقيد، وأدّى إلى إرباك القارئ؛ فبالنسبة إليه، فإنّ ما يفشل في نقله المعنى سيمونطيقيًّا، يوحي به ويعبّر عنه الصوت. حتّى أنّ بعض القصائد تشكّل الدلالة الصوتيّة والنحويّة محورها الأساسيّ، وينهض عليها المعنى والفكرة الّتي يدور حولها النصّ، مثل قصيدة له بعنوان «Ex»، وهو مقطع لغويّ في الفرنسيّة يدلّ على الخروج والانفصال، ويأتي في كلمات مثل: externe, extérieur, exil. وتكرار هذا المقطع اللغويّ عشرات المرّات في قصيدته يُحْدِث صوتًا إيقاعيًّا لتعميق حالة الخروج بصفتها معنًى. وتدور القصيدة هنا حول مفهوم المنفى وتجلّياته المختلفة في الحياة واللغة. والنصّ الشعريّ الصوتيّ الأوّل الّذي كتبه، والّذي يمزج فيه بين اللغتين العربيّة والفرنسيّة، كان بعنوان «حجر»، وهو بمناسبة الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى.

حين سألته عن علاقته بالشعر العربيّ صوتيًّا، كتب لي: "إنّ اتّصالي الأوّل بالشعر كان عن طريق الصوت قبل الكتاب، كنت أستمع إلى قراءات الشعراء مسجّلة في أشرطة كاسيت، شعراء مثل محمود درويش وأدونيس وممدوح عدوان ومظفّر النوّاب. محمود درويش أداؤه هو الّذي أعطاني الرغبة في الكتابة كي أجد موسيقى اللغة، وغالبًا ما كانت هذه الموسيقى تسبق الكلمات والصور والمعاني".

يقول إنّه يكتب باللغتين العربيّة والفرنسيّة، لكنّه ينشر أكثر بالفرنسيّة لأنّ "النشر هنا أسهل بالفرنسيّة". وهو يميّز بين فعل الترجمة "الّذي ينشغل بنقل مقطع من لغة إلى أخرى"، وبين الكتابة ثنائيّة اللغة "وهي الممارسة الموازية للغتين". يعترف الشاعر بمواجهة ما أسماه «L’intraduisible radicale»؛ أي عدم القابليّة الراديكاليّة في الترجمة أحيانًا. وهذا يحدث "عند كتابة قصائده دون التفكير المسبق بترجمتها، والانغماس في الخصائص الدلاليّة والنحويّة والصوتيّة والموسيقيّة في لغة بعينها"؛ ليصطدم بصعوبة ترجمتها لاحقًا إلى لغة أخرى.

وهو قد ترجم شعراء فلسطينيّين وعربًا كثيرين إلى الفرنسيّة، ولا سيّما «أنطولوجيا الشعر الفلسطينيّ» (poétiques de PalestineInterludes)، الّتي أصدرها المركز «الثقافيّ الفلسطينيّ الفرنسيّ»، والّتي حوت تسعة عشر فلسطينيًّا، وترجم مجموعة جهاد هديب «ضجيج يهدر في الصمت» (Un vacarme résonne dans le silence)، ومجموعة «سرّ الشفاء من الفرح» (Traité) secret pour guérir de la joie) للشاعر عبد الرحيم الشيخ، وترجم مجموعتين شعريّتين لكاتب هذه السطور، فضلًا على ترجمته لأنطولوجيا الشعر المغربيّ إلى الفرنسيّة.

وعن تجربته في الترجمة، يقول العمراوي في مقال منشور في مجلّة «Recherches et travaux» الّتي تُعنى بالأدب الفرنسيّ والفرنكفونيّ: "عندما أكتب، لا أفكّر في الترجمة على الإطلاق؛ لأنّني أستغرق في خصوصيّة اللغة الّتي أكتب بها. وحين أكتب بلغة ما، فأنا لست معنيًّا فقط بالمعنى، لكن أيضًا بالشكل، إلى درجة أنّني أحيانًا أواجه ما لا يمكن ترجمته. أثناء الترجمة يكون الكشف عن الصعوبات، خاصّة عند محاولة ترجمة المستوى الصوتيّ للكلمات على سبيل المثال، الّذي يبدو غير قابل بشكل راديكاليّ للترجمة؛ فيمكن الكتابة أن تستند، في بعض الحالات، على الدلالة الصوتيّة أو الشكليّة، وليس فقط على مستوى المعنى".

يقول، حتّى حين "أترجم قصائدي من لغة إلى أخرى، فأنا بحاجة دائمًا إلى أن أبتعد خطوة إلى الوراء، أن أكون على مسافة ما من النصّ، وأحتاج إلى نظرة شخص آخر. حتّى لا أقع في تلك البديهيّة المتوهّمة، بحيث تبدو لي بعض الأشياء بديهيّة، ولكنّها ليست كذلك بالنسبة إلى القارئ".

أخيرًا، بالنسبة إلى العمراوي فإنّ القصيدة الأدائيّة ليست طفرة أو موضة، كما جاء في مقال بعنوان «محمّد العمراوي: القصيدة الأدائيّة ليست موضة... بل رهان المستقبل» لشريف الشافعي في صحيفة «العرب»، بل إنّها بالنسبة إليه شكل فنّيّ أصيل، له مبرّراته الفنّيّة ورؤيته الواضحة؛ فهو يرى كما جاء في المقال، "أنّ اللغة وحدها قاصرة عن التعبير عن الإنسان المعاصر والواقع الخرب".

هذه القصائد الثلاث هنا هي من ترجمة الشاعر نفسه، وهي من ديوانٍ له بعنوان «عصافير في الرأس» (Des moineaux dans la tête)، الّذي صدر باللغتين العربيّة والفرنسيّة في عام 2016. وقصيدة «معراج» هنا توضّح عناية العمراوي بالشكل؛ من خلال نثر الكلمات والفراغات بين المقاطع، وهذا أيضًا ما ينعكس عند قراءته صوتيًّا للقصيدة.

 

(بلا عنوان)

أقول ربّما، أقول ربّما الفكر مثل الجرح، أقول ربّما

الفكر مثل الجرح الّذي أراه على الجدار، كلّ صباح

يزداد حجم شفتيه انتفاخًا، وأحيانًا تسيل بين أسنانه

كلماتٌ لم تعتدْها عيناي، تسيل حتّى قدميّ، وأرسم

بقدمي خطوطًا - هيروغليفيّة تجدّد معانيها كلّ يوم.

أقول ربّما الجدار لا يوجد إلّا داخل نفسي، أقول

الجدار جدار نفسي، أو مرآةٌ تخرج منها كلماتٌ لتتحوّل

إلى واقعٍ زئبقيّ. فكرة الجدار، لا وجود ولا جدوى لها

إلّا بفضل الجرح الّذي تخرج منه الكلمات.

 

 

اللّيل                                   

منذ

خمسة عشر يومًا

ابنتي

توقظني في الليل

كي أحرس

خِرفانها

من ذئبٍ أصبح من

شدّة الوهم

مرادفًا

لأصواتٍ لا نسمعها

إلّا حين نقرّر

النظر مليًّا

إلى صمت الغرفة.

في القيلولة

يهدّد

الذئب حلمي

باليقظة.

 

 

معراج

كنّا نمشي معًا على الطريق، وكان ضوء المصابيح الخجِل يليق بخطواتنا، وفقدتْ أيدينا فجأةً حركاتها الطبيعيّة، وما كادت تعرف كيف تحرّك الأصابع، وكأنّها كانت تودّ لأوّل مرّةٍ أن تدرك

             لأوّل مرّة

المعنى الأوّل

للّمس أو المداعبة أو أن تترك فقط فقط

الرعشة أن تلتقي، دون حاجزٍ، تلال الجسد؛

 

كنتُ أسند وجهي إلى اليمين (كنتِ على يميني)، فتطلع من إبطك رائحة بحرٍ لا تعرفه الخارطة، لا تعرفه بعد، وأذكر أيضًا أغصانًا، في ساحة المقاومة، حيث بدأتْ شفتاي المعراج. واقفان

تحت

المطر، وكان المطر

يجدل حولنا خيوطه ويبني لنا غرفةً بجدرانٍ دون لون، ليست جدرانا، بل زجاجًا من ماءٍ يفضّل أن يبقى لامرئيًّا وسرّيًّا

(كما الحبّ).  

 


أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.