إسطنبول؛ المكان الناقص

شارع في إسطنبول

 

يقول أورهان باموق، الكاتب التركيّ الشهير، في كتابه «إسطنبول؛ الذكريات والمدينة»، عن المدينة الّتي وُلِدَ فيها وعاش معها كلّ التحوّلات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وتوسّعها العمرانيّ الرهيب: "الحزن في إسطنبول سائد في الثقافة المحلّيّة، وكلمة أساسيّة للشعر من جهة، ووجهة نظر للحياة، وأمر يومئ إلى حالة نفسيّة، ومادّة تجعل المدينة مدينة من جهة أخرى. ولأنّ الحزن يحمل هذه الخصوصيّات كلّها؛ فهو حالة نفسيّة تفضّلها المدينة بتباهٍ، أو تتظاهر بأنّها تفضّلها. إنّ حزن إسطنبول ليس مرضًا عابرًا أو ‘ألمًا حلّ بنا، وعلينا أن نتخلّص منه‘، بل إنّها تحمله في داخلها، وكأنّه شيء اختارته".

في مساءات المدينة الصاخبة الرطبة، بينما آلاف الناس في الشوارع يزعجون سكّان المدينة القديمة بأصواتهم العالية، يحملون قناني البيرة أو عائدين إلى بيوتهم السياحيّة في «جهانجير» و«تقسيم» و«شيشلي»، تتمكّن من سماع صوت صفير السفن في مضيق البوسفور، بينما تعبُر بالناس أو تنقل البضائع، حتّى أصوات نقل البضائع من الرصيف إلى السفينة تسمعها من «جهانجير» و«إسكودار» و«كاديكوي» و«إمينونو» و«هاليش»، يتردّد الصدى في رأسك شاهدًا على عصور كثيرة مرّت على المدينة.

في إسطنبول يختلف الأمر، فالأيّام صدقًا متشابهة، ولا تكاد تميّز بين الجمعة وبقيّة الأسبوع، خاصّةً في صيفها الحارق ورطوبتها اللاذعة، حين ينتشر السيّاح فيها بشكل غبيّ، تكاد المدينة تنفجر من صوت صفّارات سيّارات الأجرة

بينما كنت أجلس أراقب المساء في انعكاسات الضوء على سفح المياه، فكّرت في الأيّام الّتي قضيتها في هذه المدينة، رغم قلّتها إلّا أنّها تحمل الكثير من الأحداث، والكثير من الحبّ والحزن.

غادرت من قرية صغيرة جدًّا في الجليل الفلسطينيّ، تقع على سفح الجبل، وتجيد الجارات فيها النميمة ونقل الأخبار كلّ صباح، ويبحثن بشكل جدّيّ مشاكل النساء مع أزواجهنّ، وطرق الحفاظ عليهم من شرّ النساء الأخريات، أو الرصاص الطائش بفعل الجرائم المنتشرة في المجتمع، أو يوزّعن النصائح للفتيات في سنّ الثامنة عشرة حول كيفيّة التقاط عريس جيّد، والمواصفات الفُضْلى. قهوة الصباح، الساعة الثامنة عند انصراف كلّ الأطفال إلى المدارس، هي الساعة الأهمّ في يوميّات النساء العاطلات عن العمل، وفي حيّنا، شجر الليمون والبرتقال بين بيوت الجيران، هو مكان القهوة المفضّل للكبار، ومكان اللهو المفضّل لنا.

في يوم الجمعة كانت العادات تتغيّر؛ فالصباح يبدأ باكرًا في السادسة، حين يجتمع جميع الإخوة والأخوات عند الأمّ؛ لبدء سرد أحداث الأسبوع، والحديث حول العائلة الكبيرة، والضحك على كلّ ما لا يمتّ لهم بصلة، ميزة يوم الجمعة تكمن في الغداء المبكّر، وعدم وجود دوام للأطفال والكبار.

في إسطنبول يختلف الأمر، فالأيّام صدقًا متشابهة، ولا تكاد تميّز بين الجمعة وبقيّة الأسبوع، خاصّةً في صيفها الحارق ورطوبتها اللاذعة، حين ينتشر السيّاح فيها بشكل غبيّ، تكاد المدينة تنفجر من صوت صفّارات سيّارات الأجرة، ومن كثرة الحافلات في الشوارع، والناس المتكدّسة فوق بعضها في قطار الأنفاق، وتختفي فجأةً تفاصيل المدينة ومميّزاتها، أمام ازدحام المناطق الرئيسيّة في «تقسيم» و«الاستقلال» و«عثمان بيه» و«أورتاكوي» و«بيشكتاش» و«إسكودار»، ويختفي ولهك الغامض في تاريخ المدينة أمام رائحة السيّاح في المواصلات العامّة، ونقاش سيّارات الأجرة مع الغرباء عن المدينة، وغياب اللغة الإنجليزيّة عن أهل البلد؛ وهو ما يضطرّك إلى تعلّم التركيّة إذا ما أردت البقاء لفترة طويلة، وأنا حقًّا لا أفهم كيف لمدينة مثل إسطنبول ألّا يتحدّث سكّانها الإنجليزيّة في ظلّ موقعها وأهمّيّتها!

اليوم الأوّل لي في إسطنبول، كانت السماء ماطرة، والغيوم تحمل أطنانًا من المياه، الميادين شبه فارغة، إلّا من السكّان والوافدين، وتكاد لا تراهم في معظم الأماكن السياحيّة؛ بسبب إغلاق العالم في جائحة الكورونا، معظم المحلّات مكتوب على أبوابها «مغلق»، والمطاعم اعتمدت نظام «التيك أواي»؛ حتّى لا تُفْرَض غرامة على صاحب المكان. «شارع الاستقلال» الأكثر زحمةً في تركيا شبه فارغ إلّا من بعض السكّان المحلّيّين، وعمّال النظافة المضطرّين إلى التنظيف حتّى في ظلّ الجائحة. وحبيبي ينتظرني في «تقسيم»؛ الميدان الّذي في اللحظة الّتي عرفت فيها سبب تسميته، اختلفت مشاعري تجاهه ونظرتي إلى تفاصيله، يقول باموق: "فقد بدأ الإسطنبوليّون يقولون عن المنبسط المرتفع الّذي تظهر منه مناظر البوسفور والباعة والمقابر، ‘تقسيم‘، بسبب إنشاء مركز توزيع المياه فيه"، والّتي على ما يبدو جاء اشتقاقها من جذر اللغة العربيّة «ق.س.م»؛ فأُطْلِقَ هذا الاسم على المكان الأشهر الآن في إسطنبول، الذّي يلتقي فيه الجميع عند التيه، وعند المجيء للمرّة الأولى إلى المدينة.

اكتشفت جانبًا متديّنًا وتقليديًّا للشعب التركيّ؛ حين ذهبت مع زوجي إلى «طرابزون»، لاحظت أنّ الناس تقليديّون، كما فلسطين، تختلف المدن عن القرى والريف.

عشت مع المدينة حالة من الاغتراب؛ فهي من ناحية مكان مثاليّ للقاء عاشقَين، يمشيان معًا في سواحل «بيبك» و«أورتاكي»، عند غياب الشمس في الصيف اللزج، وتجيد إخفاء العشّاق في شتائها القارس بين مبانيها المتلاصقة، حيث بالكاد تستطيع سيّارة من اتّجاه واحد الدخول، ويلعب أطفال الحيّ في الشوارع المزدحمة، بينما الرجال يرتشفون الشاي في المقاهي الصغيرة كلّ مساء.

خلال الحجر الصحّيّ، كانت إسطنبول تتحوّل إلى مدينة أشباح في ساعات المساء، فلا تستطيع تمييزها عن الأيّام المليئة بالفوضى والصخب والسيّاح. من ناحية أخرى، اكتشفت جانبًا متديّنًا وتقليديًّا للشعب التركيّ؛ حين ذهبت مع زوجي إلى «طرابزون»، لاحظت أنّ الناس تقليديّون، كما فلسطين، تختلف المدن عن القرى والريف. تجري العادة بقدوم السيّاح في فصل الصيف، حين يغلب الاخضرار على المكان، وتكتسي الجبال الشاهقة في «ريزا» بالشاي والشجر الأخضر، بينما في الشتاء تخرج النساء صباحًا لجمع الحطب من الأحراش، بينما يتّجه الرجال للعمل في محلّاتهم الصغيرة، الّتي توفّر الاحتياجات الأساسيّة لسكّان المناطق الريفيّة، أو لإصلاح العطب في البيوت الخشبيّة القديمة؛ درءًا لمفاجَآت الثلج في الجبال الشاهقة.

من ناحيةٍ، يحاول الإسطنبوليّون التشبّه بالغرب، بينما تشدّهم بقيّة المحافظات للحفاظ على التقليديّة التركيّة. قلّما تجد أشخاصًا يتحدّثون الإنجليزيّة هنا، إلّا في مناطق محدّدة، «جهانجير» و«كاديكوي» مثلًا، في «تقسيم» لا يتحدّثونها بشكل محترف، إلّا أنّهم ربّما اكتسبوها بسبب وجود عدد مهول من السيّاح كلّ عام، ورغبتهم في جذب العالم من خلال تسمية الأشياء بأسماء إنجليزيّة وفرنسيّة، يقول باموق: "الهزيمة حوّلت المدينة إلى مكان ناقص، لم تعش المدينة التغريب الّذي تشير إليه إعلانات الجدران، وأسماء الدكاكين والمحلّات والشركات المأخوذة أغلبها عن الفرنسيّة والإنجليزيّة، بقدر ما تتحدّث عنه أبدًا. كما أنّ المدينة لم تعش الحياة التقليديّة، الّتي تشير إليها كثرة الجوامع وكثرة المآذن والأذان والتاريخ. كلّ شيء ناقص، وغير كافٍ، وغير مكتمل".

سواحل المدينة مختلفة، تبدو كأنّها تحتضن المدينة بعد حضارات كثيرة، مشاكل وفضائح احتفظ بها الإسطنبوليّون لأنفسهم؛ كي لا يدخل العالم بينهم وحكّامهم من المداخل الضيّقة، تبدو الشوارع كما لو أنّ قصصًا كثيرة حدثت أمامها وابتلعتها، وترفض بتاتًا الحديث عن خصوصيّاتها أمام الغرباء.

يذكر باموق، بما معناه خلال الرواية، أنّ أهالي المدينة حاولوا الحفاظ على عائلاتها، رغم اختلاطهم دائمًا بالأجانب عنها، وكانوا يميّزون العائلة الإسطنبوليّة الأصيلة، من خلال مميّزات بيوتهم، وشكلها الخارجيّ، ونوع السجّاد والأواني المستخدمة. اليوم، لا يختلف الإسطنبوليّون كثيرًا عمّا مضى؛ فقد استبدل التمييز القائم بحسب المحافظات إلى تمييز بحسب العِرق.

أتساءل لو أنّ باموق كتب روايته في أثناء النزوح السوريّ، لكم كان سيكتب حول العنصريّة الّتي كبرت في صدور فئة من الإسطنبوليّين، الّذين يحسدون السوريّين على وضعهم السيّئ...

يتعامل الإسطنبوليّون مع السوريّين على أنّهم قد جاؤوا رغبةً منهم في ترك بلدهم، وليس بسبب الظروف الاستثنائيّة، الّتي مرّت بها سوريا وأجبرت الناس على النزوح والاستقرار في مختلف المحافظات التركيّة. ثمّة أحياء في إسطنبول تتحدّث بشكل كامل باللغة العربيّة، عندما تدخلها وتجد الإعلانات على أطراف الشوارع تشعر نفسك في دمشق أو حلب باختلاف اللهجات بينهم، حيث يبيعون المنتجات العربيّة في الأسواق الشعبيّة، أو الشاورما والكبّة اللبنيّة والشيشبرك. أتساءل لو أنّ باموق كتب روايته في أثناء النزوح السوريّ، لكم كان سيكتب حول العنصريّة الّتي كبرت في صدور فئة من الإسطنبوليّين، الّذين يحسدون السوريّين على وضعهم السيّئ؛ فقط بسبب تساهل الحكومة مع وضعهم الخاصّ.

إنّ إسطنبول الحقيقيّة، في أزقّتها الكثيرة وبناياتها العالية والشرفات المتقاربة، مختلفة كلّيًّا عن إسطنبول الّتي نشاهدها في أثناء عبورنا بالطائرة من فوق، أو في أثناء نزولنا في فندق خمس نجوم. أضحك في سرّي حين يقول لي أحد أصدقائي: "أنت محظوظة؛ تسكنين إسطنبول الآن"، وأُخفي حقيقة أنّنا نواجه هنا غربة واغترابًا، لا يشبهان بأيّ شكل ما نشاهده من صور حول علمانيّة المدينة وتقبّلها للآخرين.

 

 


ميساء منصور

 

 

 

كاتبة ومدرّسة للّغة عربيّة، تكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.