ثلاث طرق لقتل مجد كيّال

حيفا، فضاء احداث رواية «نهر الكرمل» (2023).

 

قبل أشهر، كان عليّ أن ألقي برواية مجد كيّال الأخيرة «نهر الكرمل» (2023)، الصادرة عن «الدار الأهليّة»، في زاوية مظلمة في إحدى زوايا منزلي في عمّان. حدث ذلك بعد أن قرأت منها نحو 30 صفحة، رميتها على طول يدي دون تردّد، ولم يخطر لي حينها أنّني سأكتب عنها ولو سطرًا واحدًا، أو حتّى أن تعنّ لي على بال، وبالفعل، نسيت أمرها طوال هذه الفترة وكأنّها لم تكن موجودة من الأساس.

ربّما لم أكن مستعدًّا لقراءة أيّ شيء يتعلّق بحيفا في ذلك الوقت، خاصّة أنّني كنت قد خرجت منها مهزومًا، مثل ساحر مكسور يسير وسط أرانبه الكثيرة الضاحكة. كان ذلك في عام 2018 على ما أذكر، وهو العام الّذي خسرت فيه منزلي، بعد أن عجزت عن دفع الإيجار أو حتّى ثمن علبة سجائر. المهمّ أنّني خرجت من هذه المدينة، بسيّارتي (لانتيس 1998) المتورّمة بالبطّانيّات، والكتب، والصحون والطناجر العتيقة، وقناني البيرة الفارغة، عائدًا إلى بيت أمّي في الطيرة، وبينما كانت السيّارة الكهلة تندفع بي على شارع الشاطئ بأنفة وعنفوان كأنّها متحف من الخسارات المتوهّجة، كان صوت شفيق كبها يلعلع في داخلها "كسِّرررررر… ربّك بيسِّرررر". حتّى الملاعق كانت تغنّي معنا، وتهتزّ في الصندوق الخلفيّ للسيّارة، وكأنّنا في عرس لابن نائب رئيس بلديّة قلنسوة.

كنت طوال الطريق، لساعة ونصف، أغنّي مع شفيق كبها "يا زريفَ الطولْ ماشي الرُّودْ الرُّودْ… يا طَلْقِ ريحانْ رابي بْجَنْب الْحوضْ"، وأردّد في قرارة نفسي المليئة بالحقد والكراهية والضغينة، الّتي تشبه قطعة جبن متعفّنة معلّقة في أرنبة أنفي: لن أعود إلى هذه المدينة القحبة، لن أعود إلى مدينة شعرت فيها بالجوع، والأهمّ من ذلك كلّه، لن أعود إلى مدينة طُرِدْتُ منها مثل فأر يتخبّط مذعورًا بين المكانس العالية.

بالطبع، كلّ ذلك لم يكن مهمًّا، فقد عدت إلى حيفا لاحقًا، فأنا، وكما أعرف نفسي تمام المعرفة، ’لا أمون حتّى على صرمايتي‘، وسرعان ما أتراجع عن وعودي الّتي تشبه لعبة يويو في يد طفل أخرق.

ومثلما عدت إلى حيفا، عدت إلى «نهر الكرمل» مرّة أخرى. بحثت عنها حتّى وجدتها وراء مكتبتي وقد تكاثف عليها الغبار، وإلى جانبها صرصار ميّت مقلوب على ظهره، أمسكته من شاربه الطويل، وألقيت به في سلّة القمامة، ثمّ مسحت الرواية براحة يدي النظيفة، وشرعت في قراءتها مرّة أخرى من البداية، لكن هذه المرّة، قرأتها كما ينبغي لرواية أن تُقْرَأ، أو لنقل، قرأتها كما ينبغي لرجل عائد إلى مدينته المفضّلة.

الجنون، يا سادة، هو سيّد الموقف، الجنون هو أمّك وأبوك. الجنون كلبك المدلّل الممدّد عند الظهيرة على كنبة مليئة بالشَّعر...

لست بصدد الحديث عن الرواية، أو ما قدّمه مجد كيّال فيها، أو ما لم يقدّمه، فهذا شأن قرّائه ممّن أحبّوا الرواية أو لم يحبّوها، لا فرق، ولو كان لديّ ذرّة عقل واحدة بين عظام جمجمتي الملتهبة، لأغلقت حاسوبي واتّجهت لفعل أيّ شيء آخر، مثل مطاردة قطط الشارع وخنقها واحدة تلو الأخرى، أو الاتّصال على رقم الشرطة كفاعل خير؛ لأتحدّث معهم عن ميشيل فوكو، ومفهوم السلطة بالطحينة وأهمّيّتها لحرق السعرات الحراريّة، أو أن أكتب في أفضل الأحوال "إنّ هذه الرواية جاءت في 200 صفحة من القطع المتوسّط"، وبما أنّني رجل بلا عقل، فسأتحدّث عن التوحّش، عن الجوع والجنون وعضعضة الحياة بأسنان لبنيّة طريّة، وعن تلك الندب الكثيرة الّتي خلّفتها هذه المدينة بي على مرّ سنوات طويلة. ببساطة، لقد كانت هذه الحكاية مثل وليمة للحواسّ الجائعة، وبراعم التذوّق الصدئة.

الجنون، يا سادة، هو سيّد الموقف، الجنون هو أمّك وأبوك. الجنون كلبك المدلّل الممدّد عند الظهيرة على كنبة مليئة بالشَّعْر، والجنون غلّاية القهوة المنسيّة على النار منذ ربع ساعة، بينما أدخّن سيجارتي على النافذة، وأحدّق بوجه المدينة الشاحب، مثل فيل ضخم محشور في كابينة هاتف عموميّ ضيّقة.

 

الطريقة الأولى لقتل مجد كيّال

اتركوه يمرّ بسلام، كما يفعل كلّ يوم. سوف يطلّ في شارع مسادا، ويمرّ من أمام «بار إليكا»، وعندما يقف أمام الشجرة الحدباء الهرمة، سنكون نحن جاهزين في الأعلى، هذه هي اللحظة المناسبة، سوف نعدّ معًا: واحد، اثنان، ثلاثة، ونلقي عليه بيانو فرج سليمان من الطابق الرابع، بينما تزغرد خلود باسل من بعيد، وإلى جانبها الكلبة نيكيتا مشدوهة من هول منظر الخشب المحطّم، والمفاتيح المكسّرة، والنوتات الّتي اختلطت بدمائه، وتبعثرت على الرصيف.

كنت قد التقيت مجد قبل أسابيع في مسرح «خشبة» في حيفا، تحدّثنا حينذاك في أمور كثيرة، إلّا ما كان ينبغي التحدّث فيه فعلًا. سألني آنذاك عن الرواية، كنت أريد أن أقول له إنّني خرجت من «نهر الكرمل» مثل بجعة سوداء مصابة بأزمة هويّة تتراكض بين السيّارات على الطريق السريع، إلّا أنّني التزمت الصمت، لا لشيء، لكن بسبب بعض المشاهد الّتي حطّمتني في الرواية في أثناء قراءتها، خاصّة تلك الّتي كان يصف فيها مجد أمسية محمود درويش في مسرح «الأوديتوريوم» في حيفا في عام 2007، بعد عودته الميمونة، الّتي سبقت وفاته ببضعة أشهر.

التوحّش حرفة، وهذا ما فعله مجد في حكايته، أو هذا ما شعرت به على الأقلّ؛ فقد ظننت أنّني دخلت في البداية إلى هذه الحكاية - قارئًا - مثل وحش كاسر، إلّا أنّه سرعان ما اقتلع أسناني وأظافري ووضعها في كيس صغير، وأعطاني إيّاه، ثمّ قال لي: "سلّم على أمّك". أذكر تلك اللحظة تمامًا، ففي الوقت الّذي كان يصف الأمسية من داخل المسرح، كنت جالسًا مع أبي - العامل البسيط - على عتبة مسرح «الأوديتوريوم» نحدّق باللاشيء، بعد أن منعونا من الدخول إلى الأمسية بحجّة نفاد التذاكر.

أذكر أنّه في لحظة إعلان الأمسية، وفور طرح التذاكر، قلت لأبي: يجب أن تأخذني إلى حيفا. درنا لليلة كاملة في بلدتنا الصغيرة والبلدات المجاورة؛ في محاولة للحصول على أيّ تذكرة، إلّا أنّ الجواب كان واحدًا في جميع نقاط بيع التذاكر: "لقد جاء أحدهم وجمع كلّ التذاكر"، ولاحقًا، عرفنا أنّ «الحزب الشيوعيّ» وزّعها على رفاق الحزب ورفيقاته. لكنّ أبي لم ييأس، وكان مصرًّا على تحقيق حلم طفله بحضور الأمسية، فقرّرنا السفر إلى حيفا، لعلّنا نجد أيّ تذكرة على الباب، أو لعلّهم يدخلوننا بداعي الشفقة على الأقلّ، إلّا أنّ ذلك لم يحدث أيضًا، ووقعت في حينه مشادّة بين المنظّمين على الباب، وأبي الّذي كان يحاول إقناعهم - بانفعال شديد - بأنّ ما فعلوه من جمع التذاكر غير أخلاقيّ، وغير قانونيّ، وبعد فشل كلّ المحاولات، جاء أبي وجلس إلى جانبي على العتبة مكسورًا.

كان أبي مثل تحفة فنّيّة لم ينتبه إليها أحد. بالطبع، لم يكن أبي يعرف محمود درويش أو سمع به من قبل، وعندما سمع اسمه لأوّل مرّة، ربّما ظنّ أنّه أحد اللاعبين الجدد الّذين انضمّوا إلى «نادي أبناء سخنين»...

كان صوت درويش يتسلّل خافتًا من شقوق الأبواب، وبالكاد كان صوت التصفيق مسموعًا، وأنا، لم أكن أرى في تلك اللحظة إلّا آثار الدهان والباطون على يديه الخشنتين. كان أبي مثل تحفة فنّيّة لم ينتبه إليها أحد. بالطبع، لم يكن أبي يعرف محمود درويش أو سمع به من قبل، وعندما سمع اسمه لأوّل مرّة، ربّما ظنّ أنّه أحد اللاعبين الجدد الّذين انضمّوا إلى «نادي أبناء سخنين»، وربّما أيضًا، لم يكن يعرف معنى الشيوعيّة والشيوعيّين، وكذلك أنا، إلّا أنّه قال لي بعد لحظات: "شوف يابا… مش عارف مين هذول ولا شو بيعملوا… بس لا تصدّقهم. هذول كذّابين".

وبعد أن تأكّد من لمعة الانكسار في عينيّ، أعاد جملته الشهيرة الّتي عادة ما يقولها بعد أن يعجز عن تحقيق أيّ أمنية لي، وقال: "شو رايك بسندويشة شاورما مرتّبة مع كولا؟ مش أحسنلك من محمود درويش؟". كانت هذه هي المرّة الأولى الّتي أدخل فيها إلى حيفا، وكانت كذلك الندبة الأولى لصبيّ قادم من آخر الدنيا لسماع شاعره المفضّل.

أنهيت «نهر الكرمل»، وشتمت مجد بكامل مخزون الشتائم عندي، كنت مثل ماكينة معطّلة لبيع التذاكر في محطّة القطار، تقذف في وجه المارّة كلّ ما في جعبتها من عملات معدنيّة، ثمّ بحثت فورًا عن الأمسية في يوتيوب، وأعدت مشاهدتها مرّة واثنتين وثلاثًا، وفي كلّ مرّة، كنت أعيد ذلك المقطع الّذي يقدّم فيه الأمسية دُغْفُل الشيوعيّة والشيوعيّين؛ العضو أيمن عودة، بخطابته الممجوجة، وأخطائه الكثيرة، وخرائه المكثّف اللزج، ووصفه لشراء الناس للتذاكر بـ ’الهزيع الأوّل‘، إلى درجة أنّني نسيت محمود درويش تمامًا، وفي كلّ مرّة أيضًا، كنت أقول في نفسي: لا ريب أنّ أعلى مرتبة يمكن الإنسان أن يصل إليها في «الحزب الشيوعيّ» أن يتحوّل إلى شيوعيّ سابق.

آه يا درويش! لو رأيتَ هزيع أيمن الأخير، بعدما دخل وأدخلنا معه إلى مجاهل السياسة الإسرائيليّة، وأصبح مثل "عنكبوت الحمّام، فصّ بيوخذه وفصّ بيجيبه".

لاحقًا، اتّصلت بمجد وتحدّثت معه حول أمسية درويش في «الأوديتوريوم»، كنت أبحث عن أيّ تفاصيل أخرى لم ترد في الرواية، ضحك بعنف، ثمّ قال بهدوء الواثق: "أنا مكنتش موجود هناك أصلًا".

 

الطريقة الثانية لقتل مجد كيّال

علينا ألّا نستعجل، سنكون ملثّمين، سوف نختبئ خلف الدرج بجانب مسرح «خشبة»، يجب ألّا نصدر أيّ صوت، أو يحسّ بنا أيّ أحد، وعندما يغلق المسرح بابه الأسود الكبير، ونرى مجد يتهادى خارجًا منه، سنصرخ فجأة، وبصوت عالٍ: "الله أكبر"، ثمّ ننهال على رأسه بمضارب البيسبول، بينما تزغرد خلود باسل من بعيد أيضًا، وتقف الكلبة نيكيتا إلى جانبها، وقد أصابتها صدمة عصبيّة، وبعد أن يسيل دمه القرمزيّ، ويتصفّى على الدرج، سنقول له: "نجوان درويش بيسلّم عليك".

في الوقت الّذي كان مجد يفكّر داخل روايته في "قتل المحرّر وإخصاء المدقّق وطخّ المترجم في ركبته"، كنت أتساءل: من أين يمكن للإنسان أن يشتري مضرب بيسبول في حيفا؟ ربّما نجح مجد في كلّ ما كان يسعى إليه، إلّا أنّه لم يستطع قتل القارئ، أو حتّى أن يمسّه؛ فالقارئ في نهاية المطاف، هو مَنْ سيمسك به من قفاه ويجرجره من «ستيلا مارس» إلى البلدة التحتى، ويعلّقه بالقرب من مدخل «الكرمِليت» في البلدة التحتى، مثل كيس ملاكمة، أمام كلّ هؤلاء الغرباء العابرين الغاضبين من زيادة أسعار البنزين والكهرباء.

كلّ ذلك بدا واضحًا لي مع القراءة؛ تلك الأخطاء الإملائيّة أو النحويّة الّتي قصدها مجد حين تتحدّث شخصيّاته؛ شخصيّات مأزومة تراوح مكانها في مسوّدة حياتها الأولى؛ مسوّدة بلا تعديلات. لقد اتّبع ما يمكن أن أسمّيه أسلوب الكتابة الدائريّة، الّتي تراوح مكانها أيضًا، ولا تتقدّم في الأحداث، وتعيدك دائمًا إلى النقطة نفسها؛ النقطة الّتي مهما حاولت مغادرتها أو الهرب منها، فسيأتيك ذلك الصوت الإلهيّ المخمليّ القادم من مكان مجهول: "أيّها الحمقى… أتفرّون من قضاء إلى قدره؟ هاا؟".

لقد كانت الرواية ’رحلة دون وجهة‘، إنّها لا تصل إلى مكان ولا تنطلق من مكان، كانت أشبه بحلزون يبحث عن صَدَفَة، ويمكن أن يرضى بغطاء علبة بيبسي إذا لزم الأمر. حكاية تدور في مكانها مثل إعصار صغير في مدينة هادئة لم يسمع بها أحد من قبل، أمّا أنا فقد كنت مثل حصان جامح تحرّر من إسطبله الضيّق وأخذ يركض، إلّا أنّ خطّ النهاية كان يتحرّك باستمرار، ويبتعد كلّما اقتربت منه، كانت عالمًا من العبث المطلق، وبهذه الطريقة تركتني هذه الرواية أتساءل بيني وبين نفسي: ربّما عليّ تأجيل الاتّصال بالشرطة، وأن أتّصل بجهاز الإطفاء لأحدّثهم عن حموضة المعدة، وعادتي الجديدة بشرب لترين من الماء يوميًّا.

ثمّة روايات لا يستطيع المرء إكمالها، إلّا أنّه يعود إليها مرغمًا ككلب بين الحين والآخر، وثمّة روايات يقرضها المرء على نفس واحد مثل فأر جائع، إلّا أنّه لا يتذكّر منها أيّ شيء على الإطلاق، وهناك روايات تُوضَع إلى جانب السرير، وروايات تُوضَع إلى جانب مقعد الحمّام، ولكن عندما يتعلّق الأمر بـ «نهر الكرمل» - الّتي لا أنصح أحدًا بقراءتها - فأنا أنصح بأن تُلْقى من الشبابيك. دعوها ترفرف مثل أيّ طير مهاجر، اتركوها وشأنها، دعوها تتعلّم القفز الحرّ، وانظروا جيّدًا كيف يكنس عمّال البلديّة مفاتيح بيانو فرج سليمان عن الرصيف.

الروايات كلّها تبدأ وتنتهي عند نقطة معيّنة، إلّا أنّ رواية مجد كانت تتلاشى بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وهو الخيار البصريّ الّذي اختاره لنهاية أحداثه وشخصيّاته...

قليلة هي الروايات الّتي استطاعت أن تثير حنقي وغضبي بهذا الشكل، وهي الّتي ما زلت أذكرها على الرغم من مرور سنوات طويلة على قراءتها، وسط روايات وحكايات أخرى طواها النسيان، بعد أن تحوّلت أحداثها وشخصيّاتها إلى طحالب على جدران الذاكرة. لكنّني أعرف أنّ هذا النوع من الكتابة في «نهر الكرمل» هو ما يمكن أن يبقى معي، على الرغم من غضبي ونقمتي؛ فالروايات كلّها تبدأ وتنتهي عند نقطة معيّنة، إلّا أنّ رواية مجد كانت تتلاشى بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وهو الخيار البصريّ الّذي اختاره لنهاية أحداثه وشخصيّاته، فمَنْ وصل إلى الصفحات الأخيرة - على الرغم من صعوبة ذلك - سيعرف معنى أن تتلاشى الحكاية؛ أن تختفي؛ أن تهرب منك ويبهت حبرها شيئًا فشيئًا، حتّى يصل القارئ في النهاية إلى صفحات ناصعة البياض.

الرواية هنا حدس، والحدس بوصلة تدور بعنف، لقد كان مجد مثل قطّة تلاحق ذيلها في غرفة مليئة بالخيوط العشوائيّة، أمّا أنا فلا أشعر بنفسي إلّا سمكة زينة تُبَلْعِط داخل حوض صغير أمام هذا البحر الواسع، وربّما، في يوم ما، سأكون حاضرًا في إحدى أمسيات محمود درويش في جهنّم، وهذه المرّة بلا تذاكر أو هزيع، بينما يجلس أبي مسترخيًا في جنّة الربّ، حيث لا رفيق هناك، إلّا الرفيق الأعلى.

لقد نصح المحامون مجد أن يكتب في بداية روايته، بأنّ "كلّ ما تحتوي عليه المخطوطة لا يمتّ إلى الواقع بأيّ صلة، بغضّ النظر عمّا كان من نسج الخيال"؛ لتجنّب المساءلة القانونيّة، وأعتقد أنّ عليّ فعل الشيء نفسه في هذا النصّ، فكلّ ما كتبته هنا لا يمتّ إلى الواقع بصلة أيضًا، وأقدّم اعتذاري لجميع مَنْ وردت أسماؤهم هنا، ما عدا أيمن عودة طبعًا.

 

الطريقة الثالثة لقتل مجد كيّال

المدينة لا تحتاج إلى النوم بعد اليوم. استيقظوا جميعًا، واجلسوا في الصفّ الأوّل على مقاعد الـ (VIP) لتشاهدوا ما لم تشاهدوه من قبل. مَنْ يحتاج إلى النوم أصلًا في هذه المدينة؟ مَنْ يحتاج إلى الكتابة وهو يرى المدينة تتبخّر أمام عينيه؟

سوف نتسلّل بخفّة وهدوء المهرّجين. سوف ندخل منزل مجد في الرابعة صباحًا. استطعت الحصول على المفتاح بطريقتي. سيكون أخوه ورد نائمًا على الأغلب، لا تزعجوه، سنسير على رؤوس أصابعنا، حتّى نصل إلى غرفته بخفّة، سيكون مجد نائمًا أيضًا مثل طفل في الثانية والثلاثين من عمره، وبضربة سريعة وخاطفة، سنكمّم فمه بمنشفة صغيرة، ونلفّ حول بطنه حزامًا ناسفًا زهريّ اللون، ثمّ نلفّه داخل سجّادة، وننزل به مسرعين إلى الميناء، سننتظر قليلًا حتّى يبدّل الحرّاس ورديّتهم، وفي هذه اللحظة، سنتسلّل إلى رصيف الميناء، حتّى نصل إلى الغوّاصة النوويّة النائمة إلى جانب الرصيف. سنقوم بربطه على ظهر الغوّاصة، لقد جلبت معي حبلًا متينًا على كلّ حال، ثمّ نعود أدراجنا مسرعين إلى جبل الكرمل، وما إن نتأكّد من أنّ كلّ شيء على ما يرام، سأعدّ؛ واحد، اثنان، ثلاثة، سأغمض عينيّ وأبتسم، ثمّ أضغط الزرّ الأحمر؛ ليتوهّج العالم فجأة وتعلو سحابة الفطر الهائلة فوق المدينة، بينما تزغرد خلود من بعيد، وتختبئ نيكيتا وراءها وهي تلفّ ذيلها بين قدميها، وتعوي بصوت خافت في قرارة نفسها الكلبيّة الحكيمة: (E=mc²).

 


 

نواف رضوان

 

 

 

شاعر وكاتب. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «الصلاة الأخيرة على باب الكنيسة»، عن «المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر» (2013)، ومجموعة تحت عنوان «حقيبة مليئة بالضحك»، عن «منشورات المتوسّط» (2018).