‫مداخلات الندوة السياسية-الفكرية بمناسبة مرور عام على غياب د. بشارة القسري (ملحق صحيفة "فصل المقال")‬

كلمات: ‫سونيا بولس، حسن جبارين، عوض عبد الفتاح، حنين زعبي، أمل جمال، أمنون راز، أنطون شلحت وجمال زحالقة * ونص الكلمة التي كان يفترض أن يلقيها د.محمد أمارة، وتعذر حضوره..

‫مداخلات الندوة السياسية-الفكرية بمناسبة مرور عام على غياب د. بشارة القسري (ملحق صحيفة
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

تسعى دولة إسرائيل في المرحلة الراهنة الى تنفيذ مخططين: السيطرة على أكبر رقعة من أرض فلسطين التاريخية مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين, وإعادة صقل هوية "العربي الإسرائيلي" بصورة تشبه النموذج التي سعت الى بلورته أيام الحكم العسكري وهو نموذج نقيد للجيل الجديد الذي نشأ وهو يعتز بعروبته وبقوميته. إن عملية إستهداف القيادات والأحزاب السياسية في الداخل هي جزء لا يتجرأ من هذه الأجندة. تقرير لجنة أور كان المؤشر الأول لمن سيكون المستهدف في السنوات التي تلت هبة أكتوبر. لجنة اور سعت الى تحميل كل من الدكتور عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح وعضو الكنيست السابق عبد المالك دهامشة جزء من مسؤولية مقتل وإصابة العشرات من أبناء شعبنا في الداخل, وذلك بناء على معلومات كان قد زودها لها جهاز الامن العام (الشاباك) حيث تطرقت هذه المعلومات، بالأساس، إلى تحليل التيارات السياسية في المجتمع العربي.

واتهمت اللجنة القيادات العربية المذكورة بشرعنة اللجوء للعنف كوسيلة لتحقيق المكاسب السياسية من خلال الإستناد الى تقارير الشاباك المبنية على أساليب ملتوية ومرفوضة كفصل مقولات عينية للقيادات العربية عن سياقها الأوسع أو الإستناد الى معلومات مغلوطة وغير دقيقة وغيرها من السبل. وفي الحقيقية إذا دققنا بشكل عميق وقرأنا تصريحات أعضاء الكنيست العرب جميهم بدون إستثناء بتلك الحقبة كنا سنجد مقولات تشبه المقولات التي نسبت لقيادة التجمع والحركة الإسلامية لكن تجاهل هذه المقولات الشبيهة عندما كان مصدرها أحزاب أخرى لم يكن "هفوة" أو خطأ غير مقصود, إنما هو يؤكد بأن الحركات الملاحقة والمستهدفة حددت بشكل واضح وعيني منذ تلك الفترة.

لماذا التجمع والحركة الإسلامية بالذات؟ بروفسور يوأب بيلد يجيب على هذا السؤال خلال شهادته أمام لجنة أور. فهو يقول بأنه يستشف من الاسئلة التي وجهت له من قبل اللجنة بأن مؤسسات الدولة حددت منذ البداية الدور المسموح به للقيادة السياسية العربية, وهو بالأساس دور المحافظ على سلامة الجمهور. لكن هذا المفهوم للقيادة ولدورها هو مفهوم خاطئ, خاصة عندما يدور الحديث عن قيادات سياسية لأقليات مضطهدة. دور القيادة الحقيقي هو العمل على حماية وتحصيل حقوق ومصالح الأقلية التي تمثلها, وأن تعبر عن ضاتقتها وطموحاتها وتطلعتها المستقبلية ونقدها لسياسات الدولة المجحفة بصورة لا تؤدي الى صدام, حيثما أمكن. وبما أن قيادة التجمع الوطني الديموقراطي رفضت قبول الدور المشوه الذي تتوخاه منها الدولة العبرية ومؤسساتها, بل هي أصرت على لعب دورها التاريخي والطبيعي بالدفاع عن قضية شعبها العادلة وجدت نفسها ملاحقة ومستهدفة من قبل أجهزة الأمن.

المواجهة مع التجمع الوطني الديموقراطي كانت أسرع من المواجهة مع الحركة الإسلامية لسبب بسيط وهو أن نقطة التقاء الاولى كانت اسهل وهي قضية خوض إنتخابات الكنيست. شعار "دولة كل مواطنيها" كان صفعة في وجه المؤسسة الإسرائيلية الصهيونية ليس لأن إطلاق هذا الشعار كان المناسبة الاولى التي يعبر من خلالها الفلسطنيون في الداخل عن مناهضتهم للصهيونية, بل لان هذا الشعار لم يكن شعارا رومانسيا له أبعاد تاريخية فحسب بل هو شعار يعكس قيم هي في صلب مفهوم الديمقراطية اللبرالية الحديثة وأهمها مبدأ المواطنة المتساوية. دولة اليهود لا تستطيع ان تكون دولة كل مواطنيها وبالتالي هي تتناقض مع اهم ركائز الديموقراطية. شعار دولة كل مواطنيها فضح زيف وهشاشة ما يسمى بالديموقراطية الأسرائيلية. والتوقيت الذي طرح به هذا الشعار كان ملائم أيضا. إذ أن نشوب حروب ونزاعات قومية وإثنية في دول شرقي أوروبا بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي حول تعريف الدولة وعلاقتها بالقوميات المختلفة داخلها وحول حقوق الاقليات فتح ملف الديموقراطية اللبرالية وملف المواطنة الديموقراطية من جديد. حتى في الغرب, في كندا على سبيل المثال, بسبب التركيبة السكانية وشعور الكنديين من اصل فرنسي بأنهم مهمشين ومواطنتهم منقوصة نتيجة لهيمنة الثقافة الانجلو-سكسونية تمحور النقاش في سؤال المواطنة حول إشكالية مفهوم "حيادية الدولة" ومؤسساتها الثقافية ورموزها إتجاه المجموعات السكانية المختلفة وما هي الخطوات التي يجب إتباعها لكسر هيمنة الاغلبية وضمان المواطنة المتساوية للجميع.

الحالة الإسرائيلية طبعا مختلفة تماما لان الدولة لا تدعي الحياد أصلا فهي لا تدعي على سبيل المثال أنها دولة كل الإسرائيليين وفي المقابل نحن ندعي بأن الثقافة الإسرائيلية تعكس هيمنة الأغلبية اليهودية. طرح خطاب دولة كل مواطنيها ومقارنته مع نضالات الاقليات في العالم لضمان حقها في المواطنة المتساوية فضح بصورة حادة عنصرية هذه الدولة. النقاشات حول يهودية الدولة والتي كانت نوع من انواع المحظورات لم تعد كذلك على الاقل في الأكاديمية الإسرائيلية.

هذا واقع جديد لم تتعود عليه المؤسسة الصهيونية وهي سعت لمحاربته بكل وسيلة. كانت هنالك اكثر من محاولة لشطب التجمع من خوض الإنتخابات لكن المحاولة الاخيرة عام 2003 كانت الأخطر وهي تختلف بشكل جدري عن محاولة شطب باقي الاحزاب العربية.

في المحاولات السابقة كانت المبادرة لشطب التجمع الوطني الديموقراطي هي من أحزاب اليمين أسوة بباقي الاحزاب العربية لكن في المحاولة الاخيرة لشطب التجمع المبادرة كانت للمستشار القضائي للحكومة والقاضي في المحكمة العليا اليوم الياكيم روبنشطاين وكانت هذه المحاولة مستندة التي تقارير مخابراتية للشاباك. محاولة الشطب الأخيرة كانت تستند الى إدعائين الإدعاء الأول هو أن طرح التجمع يلغي أو مناهض ليهودية الدولة اما الإدعاء الثاني مفاده بأن التجمع يدعم كفاح مسلح لتنظيم إرهابي ضد دولة إسرائيل (وهذا البند حول منع القائمة التي تدعم كفاح مسلح ضد إسرائيل تم إدخله بعد محاكة د. بشارة الجنائية حول خطابة في قرداحة وام الفحم).

تدخل الشاباك والمستشار القضائي للحكومةشخصيا لمحاولة شطب التجمع هو دليل على مأزق المؤسسة الصهيونية الأخلاقي وتخوفها من تبعات طرح شعار دولة كل مواطنيها المستقبلية, داخليا ودوليا. وبما ان محاولات شطب التجمع بائت بالفشل لان شطب حزب يطالب بأن تصبح الدولة دولة كل مواطنيها هو أمر لا يمكن تسويقه في العالم, كانت محاولات لشطب التجمع بناءا على التعديل الأخير متهمة إياه بدعم عمليات مسلحة ضد إسرائيل, لكن محاولتها هذه فشلت ايضا لانها كانت واهية ولا أساس لها.

وعندما فشلت المراهنات على شطب التجمع بدأت الملاحقة الشخصية لعزمي بشارة لانه كان ولا زال يشكل رمزا للحركة الوطنية الديموقراطية في الداخل فحاولت تجريم خطاباته السياسية وملاحقته جنائيا. لكن هذه المحاولة فشلت أيضا لان تجريم عضو في البرلمان بسبب خطابات سياسية هو أمر منافي بحد ذاته لروح الديموقراطية وبالتالي كان من الصعب على جها القضاء تبريره أو تسويقة كخطوة لا تتنافى مع الديموقراطية.

المرحلة الثالثة كانت تلفيق ملف أمني محكم ضد عزمي بشارة بعد حرب تموز بهدف إقصائه نهائيا من العمل السياسي. وتلت هذه المرحلة سلسلة من القوانين العنصرية التي تستهدف الحد من الحريات السياسية لقيادات التيار الوطني كمحاولة تمرير قانون لمنع كل من زار دولة "عدو" من الترشيح للإنتخابات أو محاولة تعديل القانون المواطنة بهدف سحب مواطنة كل من تتهمه إسرائيل "بخرق الولاء للدولة".

أما السلسلة الأخيرة من الملاحقات فهي تستهدف بالأساس النشطاء في الحركة الوطنية بهدف تخويفهم من المشاركة في الحياة السياسية من خلال اللجوء الى وسائل تتبع في الأنظمة الظلامية كتمرير رسالة واضحة لنشطاء التجمع بأنهم مراقبون من قبل أجهزة الأمن على مدار الساعة.

الجواب على هذه السلسة من الملاحقات هو التشبث بقوة أكبر بالثوابت الوطنية وبتوعية الجمهور وخاصة الشباب حول حقوقهم السياسية وتحشيد الرأي العام ضد هذه المحاولات البائسة بتخويف الناس. هنالك إجماع بأن القضاء الإسرائيلي قد فقد مصداقيته الى حد كبير فيما يتعلق بالدفاع عن حقوقنا المدنية والسياسية وهنالك محاولات أو حديث عن تدويل قضيتنا في الداخل. إذا كان المقصود بتدويل القضية التوجه للامم المتحدة ومؤسساتها فالتاريخ يثبت وللأسف مدى محدودية هذه الخطوة وعدم نجاعتها. أما إذا كان المقصود بهذه الخطوة التواصل مع اطر شعبية أخرى في العالم بهدف دعم قضيتنا كنقابات عمالية وإتحادات برلمانية وغيره من الاطر فهذه خطوة مهمة. في المقابل لا يجوز التعامل مع هذه الخطوة كمخرج أسهل أو كبديل عن دور القيادة الوطنية في الداخل بتصعيد النضال الشعبي لمواجهة مخططات الدولة القمعية. فتجربتنا وتجربة كل شعوب العالم ثتبت بأن النضال الشعبي والجماهيري الديموقراطي (كالتظاهر وإقامة لجان شعبية وغيرها من الفعاليات الإحتجاجية) هو الضمان الوحيد لإنجاز المكاسب. فالحلول والمكاسب لا تأتي مستوردة من الخارج أو من خلال التركيز على نضالات نخبوية.
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

يمكن أن نشير اليوم، وفي نظرة تفحصية إلى الوراء، إلى تحوّل بارز وواضح حدث مع العنصرية الإسرائيلية، يتمثل في أنّ إسرائيل مارست عنصريتها سابقًا، وحتى بضع سنين خلت، من دون قوانين رسمية ومباشرة، وكان هذا أحد الفروقات التي باينت بين إسرائيل وبين نظام الأبرتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا، الذي كان مكشوفا بقوننته المباشرة.

وإذا نظرنا اليوم إلى الضفة الغربية المحتلة، فسنرى أنّ الحديث يدور عن أبرتهايد بكل المعايير، مع أنه، ومن الناحية الرسمية، لا توجد قوانين أبرتهايد في إسرائيل، ونحن نعتقد أنّ إسرائيل أكثر ذكاءً من أن تسنّ قوانين أبرتهايد تقوم على الفصل العنصري الجليّ.

وما نلمسه اليوم في هذا السياق هو أننا دخلنا في مرحلة جديدة، تبدي إسرائيل فيها استعدادًا لتبني قوانين عنصرية مباشرة، وفي مقدمتها، كما رأينا، قانون منع لمّ الشمل بين الفلسطينيين على جانبي الخط الاخضر. ويمكن لقضايا د. عزمي بشارة وحزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، منذ العام 1995، وهذه التغييرات الرسمية المُقَوْننة، أن تعطينا فكرة عن التغييرات التي حصلت في الساحة الإسرائيلية، بحيث يجدر بنا البحث عن الأسباب، ومحاولة استشراف الإستراتيجيات.

الملف الأول كان في عام 1995، عندما تم تقديم طلبات لمُسجّل الأحزاب لمنع تسجيل "التجمع" كحزب سياسي، لكن مُسجّل الأحزاب أقرّ تسجيل الحزب. وفي العام 1999 قدّم اليمين طلبًا آخر في أعقاب مقابلة مع بشارة في صحيفة "هآرتس" العبرية الإسرائيلية، التي تحدث فيها عن أنّ مكونات الشعب اليهودي جاءت بعد قيام دولة إسرائيل، لكنّ المستشار القانوني روبنشتاين عارض طلب الشطب. وفي عام 2001 قدّم روبنشتاين بنفسه لائحتي اتهام بمساعدة جهاز الأمن العام، "الشاباك"، واعترف حينها بأنّ "الشاباك" كان أساس ادعائه في هذه اللوائح. وفي 2003 قدّم المستشار القانوني و"الشاباك" طلبًا آخر لمنع "التجمع" وبشارة من الترشح للكنيست، وهذا الطلب رفضته المحكمة العليا الإسرائيلية بأغلبية سبعة قضاة ضد أربعة.

لذا، وقبل العام 2000 كانت الملاحقة السياسية لبشارة و"التجمع" من طرف المجتمع المدني اليميني الإسرائيلي، أما التحوّل الذي حصل بعد عام 2000 يكمن في أنّ المؤسسة القضائية والأمنية بنفسهما أخذتا تلاحقان "التجمع" وبشارة، وفي بعض الأحيان "العليا" التي أعطت إذنا بالتنصت على بشارة، أكثر من مرة.

نحن نرى أنّ هذا التطور والتصعيد حصلا بسبب المشروع الإسرائيلي الإستراتيجي الجديد، وهو مشروع "الفصل" (הפרדה)، الذي يهدف إلى إعادة تعريف يهودية الدولة من جديد. فبعد أن أنهت إسرائيل مشروع التوسّع والسيطرة على فلسطين التاريخية، أصبح من غير الممكن الاستمرار في هذه الوضعية من السيطرة الدائمة، ولذلك بدأت إسرائيل تبحث عن تسوية تكون مبنية على أساس الفصل القومي العنصري في فلسطين التاريخية، ولذلك بدأت بإقامة جدار الفصل العنصري والطرقات الإلتفافية حول القدس، وشوارع الأبرتهايد في الضفة الغربية، إلى جانب فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة.
أما بالنسبة لداخل الخط الأخضر، فقد اتخذت سياسة الفصل العنصري شكلا ومنحًى آخريْن، إذ أنّه ليس بوسع إسرائيل أن تبني جدارًا أو طرقا التفافية أو شوارع أبرتهايد، مثلا، في داخل الخط الأخضر، ولذا نراها تلجأ إلى سياسة تفريغ الخط الأخضر من عروبته وهويته الفلسطينية، إضافة إلى مطلب الولاء للدولة اليهودية.

وعليه، أصبحت سياسة الفصل العنصري الموجهة ضد فلسطينيي الداخل تنبني على الفصل عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، مستعينة بقوانين منع لمّ الشمل، ومن ثم منع الزيارات إلى دول عربية تعرّفها إسرائيل على أنها "دول عدو"، وإستعمال ما يعرف بـ "قوانين بشارة"، وحتى منع تلقي أبسط الخدمات من الاراضي المحتلة، مثل القانون الأخير الذي يمنع تصليح السيارات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، ونحن نرى في هذا فصلاً عنصريًا بامتياز، وفق كافة الأسس. و"الولاء" الذي نتحدث عنه ينعكس في مطالبة المؤسسة للمواطنين العرب بخدمة الدولة عن طريق ما تسميه "الخدمة المدنية"، ومطالبة القيادات بمباركة المشروع وعدم عرقلته، واقتراحات قوانين جديدة تطالب بالولاء من النواب العرب للدولة اليهودية، وتخوّل وزير الداخلية سحب المواطنة لمن لا يؤدي الولاء للدولة اليهودية، وهذا يعتبر صياغة جديدة للدولة اليهودية التي تعمل ضد الوجود العربي وتلاحقه، وتعمل على تعزيز الهوية اليهودية ضد الهوية الفلسطينية العربية.

إذًا، الدولة اليهودية، اليوم، هي ليست الدولة التي تريد أن تحقق حق تقرير المصير لليهود، فقط، بل هي أيضًا الدولة التي تعمل على معاداة الهوية العربية الفلسطينية داخل الخط الأخضر. هذا لا يعني أنها لم تكن معادية للهوية العربية والفلسطينية في السابق، لكنّ هذه المعاداة اليوم تأخذ شكلا قانونيا جديدًا ومختلفًا؛ ففي السابق كنا أزمة أمنية لدولة إسرائيل، أما اليوم فنحن أزمة أيديولوجية لها. من هنا فإنّ القوانين أصبحت تعبيرًا أيديولوجيًا عن هذه الأزمة.

من هذا المنظار، يأتي الهجوم على بشارة بسبب المشاريع التي يحملها، وبالتحديد مشروع "دولة المواطنين"، كونه النقيض لسياسة "الفصل العنصري"، والذي يتناقض بحدّ ذاته مع تعريف الدولة كدولة يهودية وديمقراطية. ومن الواضح أنّ مشروع "دولة المواطنين" يتصادم بشكل مباشر مع سياسة التسوية الجديدة المبنية على الفصل بين الفلسطينيين واليهود من جهة، وبين الفلسطينيين وبين أنفسهم من جهة أخرى. كما أنّ مشروع دولة المواطنين يؤكد على تواصل الفلسطينيين في الداخل مع أمتهم العربية كحق طبيعي، كمواطنين وسكان البلاد الأصليين، وهذا بالطبع يتناقض مع إعادة تعريف الدولة اليهودية، حيث تتناقض هذه الإعادة مع إمكانيات إبراز رموز عروبية للعرب في الداخل، ولذا نرى أنه بعد عام 2000 سُنّت قوانين جديدة تمنع زيارات لدول عربية عُرّفت كـ"دول عدو"، أو حتى لم الشمل مع مواطنين من هذه الدول.

نحن نتساءل أيضًا: لماذا لا يفكر "التجمع" في توسيع مشروع "دولة المواطنين"، بحيث يتطوّر باتجاه المطالبة بإقامة نظام ديمقراطي لجميع المواطنين في فلسطين التاريخية، حتى لو كانت هناك دولتان في المستقبل، حيث أنّ على النظام الديمقراطي أن يحترم حقوق الجميع، مثل حرية الحركة والمسكن والعمل في فلسطين التاريخية، وهذا بالطبع يشمل حق العودة. بإمكان هذا النظام الديمقراطي لجميع المواطنين أن يكون مشابهًا لنظام الاتحاد الأوروبي إذ أنّ هذا النظام يضمن الديمقراطية وحق الحركة لمواطنيه رغم تعدد الدول والقوميات في هذا الاتحاد. بإمكان هذا الاقتراح أن يتعدّى النقاش حول دولة واحدة أو دولتين من جهة ويشكل ردًا سياسيًا لسياسة الفصل العنصري في فلسطين التاريخية من جهة أخرى.
وهذا ليس بالجديد؛ فالمقالات الثلاثة الأخيرة لبشارة، التي نُشرت مؤخرًا، حول الخيار التاريخي، تعتبر مقالات مفصلية تؤكد على هذا التوجه في تطوير مشروع "دولة المواطنين" وتوسيعه.

لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

نقيم هذه الندوة الفكرية-السياسية لنؤكد أولاً على تمسكنا بالمشروع القومي الديمقراطي، مشروع النهوض بالمجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر بالترابط مع مصلحة عموم شعبنا في كل مكان. وثانياً لنؤكد تواصلنا مع قضية الدكتور عزمي بشارة، قائد الحركة الوطنية في الداخل ورفضنا للملف الذي فبركة الجهاز الأمني الإسرائيلي ضده، خاصة وأن الملاحقة السياسية لحزب التجمع متواصلة.

إخترنا أن نبدأ بندوة وليس بإجتماع شعبي، إحياءً لمرور عام على تفجير القضية، لنلفت نظر من غابت عنهم، من أنصار التجمع ومن غيرهم، معالم مشروع كبير قاده هذا المفكر السياسي، الذي يشكل ظاهرة متميزة على ساحة عرب الداخل، قبل أن يتحول إلى شخصية مثقفة ومناضلة معروفة في العالم العربي. أردنا أن نتحدث عن ونتوقف أمام إسهامات عزمي بشارة في مجال الفكر السياسي الحديث والثقافة النهضوية في معركة النهوض بمجتمعنا الفلسطيني والأمة العربية. لأنه إذا أردنا كنخب قيادية ملتزمة بقضايا المجتمع وهمومه وكأوساط لها تاثير في الرأي العام، علينا أن نجعل هذه الإسهامات الفكرية النوعية مادة مسهلة أمام أوسع هذه الأوساط في كفاحها من أجل الدفاع عن الوجود والهوية ومن أجل النهوض ضد التخلف والفوات الإجتماعي الذي يشكل معيقاً أساسياً من معيقات النجاح في التغلب على الإحتلال والقهر والإقصاء المفروض من الأجنبي. لقد أردنا أيضاً أن نقف أمام التحديات والواجبات المطلوبة منا كحركة وطنية للدفاع عن المشروع والمضيّ قدماً في تطويره.

لقد تحول مشروع التجمع الوطني الديمقراطي، أو خطابه، إلى خطاب العرب في الداخل وصدرت الوثائق الرؤوية العديدة بوحي وبتأثير منه. وشكل عزمي بشارة، بعد أن أصبح قائداً سياسياً لأحدث حزب على ساحة الداخل، مصدر قلق حقيقي للمؤسسة الصهيونية، وعادته النخبة الإسرائيلية بيمينها ويسارها (الصهيوني). وتجنّد الجميع في القبيلة العبرية، لنزع الشرعية عنه كمثقف وكمفكر ديمقراطي، دفاعاً عن قوميتهم الصهيونية (العرقية). وقد جاءت المؤامرة التي كشف عنها في غرف التحقيق في 23/3/2007 تتويجاً وذروة الملاحقات السياسية التي ابتدأت ضده منذ أوائل الألفين.

أرادت المؤسسة الأمنية والسياسية أن توجه ضربة للمشروع القومي الديمقراطي، عبر استهداف الرأ، رأس الحربة، وتنهي تفاعلات الفكرة التي يقوم عليها هذا المشروع – مشروع دولة المواطنين الذي قررنا منذ البداية أن يكون مفتوحاً للتفكير والعمل لتحقيق العدالة لعموم شعب فلسطين وإقامة المصالحة التاريخية مع اليهود الإسرائيليين على أساس المساواة الكاملة.

وفي الحقيقة إن هذه المؤامرة شكلت مفاجأة وتحدياً حقيقياً أمام حزب التجمع، ولم نستخف بها ولا نستخف بها لأننا عرفنا أنه سيكون لها تداعيات كبيرة إذا لم نُحسن التصرف والردّ عليها بحكمة وشجاعة. فهي قضية غير مسبوقة تقريباً في تاريخ عرب الداخل، أي أن يتعرض عضو كنيست عربي، وقائد حزب سياسي لمؤامرة من هذا النوع.


المؤامرة ليست معزولة عن السياق
قضية عزمي بشارة ليست قضية شخصية، وليست قضية حزبية فحسب، بل هي قضية وطنية وقضية سياسية عامة تهم كل عرب الداخل وكل الحركة الوطنية الفلسطينية ومن المفترض أن تهم كل ديمقراطي ومتنور ومناصر للحرية والعدالة.

لقد تم تفجير هذه القضية، كذروة الملاحقات السياسية المستمرة منذ انفجار الإنتفاضة الثانية، في سياق الصراع العام الدائر ضد الصهيونية وممارساتها ومشاريعها، وفي سياق الجولة الجديدة من الصراع (الإنتفاضة) والتي قادت إلى طرح الأسئلة الصهيونية الأولى المتعلقة بالعامل الديمغرافي (العربي) وبالنسبة لاحتمالية طرح مشاريع حلول عادلة (نسبياً) مثل دولة فلسطينية كاملة السيادة وتحقيق حق العودة وتحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين، أو دولة ديمقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية.
لقد أصرّت الصهيوينة منذ البداية على إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين وأصرت على أن يكون كيانها السياسي ديمقراطياً وفق النموذج الغربي. وبرز العامل الديمغرافي العربي منذ البداية كمشكلة تقف أمام هذا المشروع. لقد "حلّت" الحركة الصهيونية هذه "المشكلة" جزئياً عشيّة حرب 48 عبر التطهير العرقي ولكن بعد إقامة الدولة العبرية لم يتكون إجماع يهودي على مواصلة اعتماد الطرد الكلي للعرب الذين بقوا داخل حدودها والتي شملت أكثر من 25% من الأراضي التي كانت مُخصّصة للدولة العربية حسب قرار التقسيم. فاتبعت استراتيجية مختلفة، قوامها الإحتواء وسلب الأرض وطمس الهوية الوطنية والقمع المباشر. كان أيضاً في صلب هذه السياسة الحدّ من التكاثر الطبيعي للعرب ومن تمددهم في مدنهم وقراهم وعلى أراضيهم.

وبعد احتلال ما تبقى من فلسطين عام 67، ومن أجل منع إقامة دولة فلسطينية في المستقبل، زُرعت بالمستوطنات وقُطعت أوصالها، وأصبح فيها حوالي نصف مليون مستوطن. خاضت إسرائيل كل أشكال الحروب العلنية والسرية ضد الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية وقادتها وكتابها وشعرائها المناضلين.
وكانت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية أحدث وأخطر جولة صدام بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل.
صحيح أن هذه الحروب العدوانية وجولات الصراع لم تؤدّ إلى تحرير الوطن الفلسطيني حتى الآن، ولكنها فشلت في الحدّ من التكاثر السكاني وفشلت في فرض الإستسلام على الشعب الفلسطيني باستثناء جزء من النخبة التي أصبحت رهينة للمفاوضات المدارة أمريكياً وإسرائيلياً.

لقد ترسخت هذه النتيجة (أي الفشل في إملاء حل ظالم) في وعي النخب الإسرائيلية الأمنية والسياسية بما فيها وعي قطاعات واسعة في اليمين الإسرائيلي الذي انشق عن نفسه بقيادة شارون وشكل حزب كاديما، وهكذا أصبح شبه إجماع صهيوني على ضرورة الفصل وتشكيل كيانين؛ عربي فلسطيني شرق الجدار ويهودي إسرائيلي (بعدد قليل من العرب) غرب الجدار. دولة إسرائيلية كاملة السيادة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض وأقل ما يمكن من السكان العرب، مقابل كيان فلسطيني مقسم ومقطع الأوصال بالكتل الإستيطانية الكبيرة وبالشوارع الإلتفافية والبؤر الإستيطانية الصغيرة قبل شارون بإطلاق إسم دولة عليه. سعى شارون واليمين الإسرائيلي إلى منع إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع عبر سياسة السيطرة والإستيطان والتهويد المستمر في أرض يعتبرها المجتمع الدولي محتلة، ولكنه وجد نفسه أم خطرين أو خيارين: دولة ابارتهايد حيث يعيش قسم كبير من العرب الفلسطينيين بدون حقوق مواطنة، فيجتمع العالم ضدها ويبدأ مسار كفاحي جديد لإسقاط نظام الفصل العنصري، الخيار الثاني، دولة ديمقراطية علمانية أو ثنائية قومية في كل فلسطين. إسرائيل لا تستطيع أن تتحول في نظر المجتمع الدولي أو جزء منه، إلى دولة فصل عنصري قانونية بعد أن حظيت بشرعيتها ليس فقط بفضل كون اليهود ضحيّة النازية بل بكون "إسرائيل دولة ديمقراطية ودولة التنوّر في الشرق".
ومقابل استعداد إسرائيل (بقيادة حزبي كديما والعمل) في الأساس للتخلي عن جزء من الأراضي في قطاع غزة والضفة الغربية فإنها تريد أن تحصل على شرعية ليهوديتها وبنيتها العنصرية بحيث يتم دفن حق العودة للاجئين، وتنفيذ تبادل سكاني داخل الخط الأخضر، وفرض الولاء على من يتبقى من عرب الداخل لدولة إسرائيل كيهودية وكديمقراطية أو يواجهوا بخيار نزع حقوق المواطنة منهم.. وأن تنتهي المطالبة بتحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين وتحقيق المساواة الكاملة بين العرب واليهود أي تخلي الأكثرية اليهودية عن امتيازاتها على حساب العرب.

جاءت الهبة الشعبية داخل الخط الأخضر في أكتوبر عام 2000 وتلاحم فلسطيني الداخل مع فلسطينيي الضفة والقطاع كرد على القمع الوحشي للإنتفاضة وكتعبير عن حالة التهميش والإقصاء والتمييز العنصري، لتبعث المخاوف العرقية من جديد. فبعد أن كانت سياسة الدولة العبرية تجاه عرب 48 تتمثل في إبقائهم ضعفاء، بلا هوية وقابلين لدونيّتهم عبر عقد تسويات معهم على قضايا عينية، تحولت السياسة إلى عداء شامل لوجودهم – بسبب تكاثرهم الطبيعي وبسبب رفع سقف تطلعاتهم السياسية وإشهار أكبر تحدي ثقافي وسياسي لأيدلوجيا الدولة اليهودية عبر شعار دولة المواطنين وإلغاء البنية الصهيونية لدولة إسرائيل. وكان تصريح يوفال ديسكن، رئيس الشاباك بخصوص "الخطر الإستراتيجي" لتطرف عرب الداخل في نيسان عام 2007 أصدق تعبير عن هذا العداء.

بدأت المؤسسة الأمنية بتشخيص التجمع منذ الإنتفاضة الثانية كخطر أيديولوجي وسياسي على مجمل توجهاتها الصهيونية العرقية، خاصة بعد أن بدأ خطابه ينتشر بين الأوساط السياسية والمثقفة لعرب الداخل.. إلى درجة اعتبر بعض اقطابها وثائق الرؤية رغم نواقصها وقصوراتها حرباً على الدولة اليهودية. على أية حال، المؤسسة قالت كلمتها بوضوح ضد عزمي بشارة والتجمع، ونفذت مؤامرتها ضد الرأس.

تداعيات وتحديات أمام عرب الداخل والحركة الوطنية

ليس سليماً تناول قضية عزمي بشارة أو التجمع الوطني الديمقراطي والتحديات التي تطرحها هذه القضية بمعزل عن التحديات التي تطرح الإستراتيجية الجديدة للدولة العبرية تجاه عرب الداخل وقضيتهم وتجاه القضية الفلسطينية ككل وإتجاه الصراع العربي الإسرائيلي الشامل. ولكن غياب العمل الجماعي الحقيقي وواقع التعددية السياسية وما يترتب على ذلك من تحمل كل حزب العبء الأكبر في مواجهة ملاحقته والتضييق عليه، فقد كان أمراً طبيعياً أن ينخرط التجمع بكل قوته في التصدي للمؤامرة وكان يدرك في الوقت ذاته أن لهذه المؤامرة خلفيات وتداعيات تمس بمجمل الحركة الوطنية في الداخل وبتطلعات المواطنين العرب المشروعة.

لقد إختار التجمع أسلوب الهجوم بدل الدفاع وحوّل المؤسسة الإسرائيلية إلى مـُتـّّهم بدل مُتّهـِم من خلال استحضار سياسات إسرائيل ضد العرب، وملاحقات عزمي بشارة، وتصريحات ديسكن وغيره.
وقامت قياداته بحشد صفوف الحزب والأصدقاء والأنصار، وبالتواصل مع الأحزاب والحركات السياسية الوطنية. ومنذ تفجر القضية، والتجمع يعمل في هذا الإتجاه محاولاً التغلب على نقاط ضعفه ومستفيداً من نقاط القوة الكبيرة التي بحوزته.

لقد خيّب حزب التجمع وقياداته توقعات المؤسسة الأمنية بأن ضرب الرأس سيؤدي إلى انهيار الجسد. فأثبت التجمع طيلة العام الماضي، بنشاطاته السياسية والثقافية، والشبابية والطلابية، ومواقفه الوطنية الصلبة والثابتة والواضحة، أنه حزب ثابت وله مؤسساته وقياداته وله رؤوس عديدة رغم الصعوبات العديدة التي يواجهها. كما استطاع التجمع أن يقزم تلك الأوساط السياسية التي لجأت كعادتها المزمنة إلى تشويه القضية والتحالف موضوعياً مع المؤسسة الأمنية. فانحسرت وأصبح تحريضها وإشاعاتها غير الأخلاقية وغير الوطنية مقصوراً على صفوفها وقواعدها وحلقاتها الضيقة.
لقد راهنت تلك الأوساط ورغبت بصورة مرضية، ان ترى التجمع ينهار أو يضعف وعوّلت على جني (ما تقوله في صفوفه) غنائم في انتخابات قادمة. إن التاريخ يعيد نفسه، هكذا كانت الحالة مع حركة الأرض قبل اربعين عام.

إن التجمع يتعرض مؤخراً لحملة ملاحقات واسعة وغير متوقفة. فاستمرار التجمع كحزب فاعل ومؤثر على الساحة السياسية قلب مراهنات السلطة وحلفائها. ويتوقع أن تشتد الملاحقة، وربما تهدف السلطة الآن من خلال هذه الملاحقات، إلى نشر الخوف والتخويف بين الناس وإبعادهم عن التجمع تمهيداً لإضعافه لأن إمكانية شطبه غير ممكنة قانونياً. وسيخوض الإنتخابات البرلمانية القادمة مثل كل الأحزاب.

سنخوض الإنتخابات كحزب مستقل وسنكون دائماً مُهيئين كما تهيئنا في السابق، لخوض الإنتخابات لوحدنا وسنحقق النجاح كما حققنا النجاح في السابق رغم تحريض البعض ورغم محاولات السلطة السابقة شطب القائمة. ولكن دون التخلي عن العمل الجدي والمثابر والمبدئي باتجاه توحيد التيارات السياسية الثلاث في قائمة انتخابية واحدة إنطلاقاً من الرؤية القومية الشاملة المتعلقة بإعادة تنظيم العرب على أساس قومي وديمقراطي، وهي رؤية تزداد حاجتها وضرورتها في ضوء العداء المتفاقم ضد العرب، وفي ضوء انحسار المشاركة الشعبية في الإنتخابات للكنيست.

المهمات المطروحة أمام التجمع

1. التمسك بمشروعه وعدم التراجع، بل والسعي الى تطويره وفتح آفاق أوسع لهذا المشروع في ضوء تطور المعطيات التي تفرضها إسرائيل على الأرض.
2. مواصلة تعزيز وتوسيع صفوف الحزب وتقوية مؤسساته الحزبية، والجماهيرية، والثقافية والإعلامية، وخلق آليات جديدة أكثر تطوراً لتحقيق هذه الأهداف.
3. تعزيز علاقاته مع أنصاره وقواعده، وعموم الناس وتطوير الإهتمام بقضاياهم وهمومهم.
4. تعزيز العلاقات مع حلقات المثقفين والأكاديميين المناصرين للفكرة القومية الديمقراطية، ولحامل مشروع هذه الفكرة أي التجمع، وخلق تفاعل افضل معهم لتحقيق المزيد من الإفادة من طاقاتهم وأفكارهم.
5. مواصلة تطوير العلاقة مع القوى الوطنية والحركات الإسلامية في الداخل وتعميق الوعي بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية كمكوّن أساسي من مكونات الهوية القومية العربية، من أجل تحمّل الهمّ المشترك وصدّ السياسات العدائية ضد المواطنين العرب وحركاتهم وقياداتهم ونشطائهم، والسعي لبث خطاب وطني بديلاً عن الخطابات القبلية والفئوية والطائفية التي من شأنها أن تساهم في توطيد النسيج الإجتماعي بين طوائف شعبنا وتسهيل مواجهة أعدائنا بقوة الوحدة القومية المبنية على النظرة الإنسانية.
6. تعميق المعرفة والإلمام بالجوانب المختلفة للمشروع في أوساط شعبنا وخاصة الأوساط المؤثرة في الرأي العام وليس فقط الجانب القومي، بل الجانب الديمقراطي والتنويري العقلاني والنهضوي – أي اعتماد العقلانية وقبول التعددية ومبدأ المساواة بين أفراد المجتمع – بين المرأة والرجل، ومحاربة التعصب القومي والطائفي والقبلي.
7. عزل الفئويين الحاقدين والمتربصين بالحركة الوطنية ومواجهتهم بخطاب وطني أخلاقي جامع وتفنيد ادعاءاتهم بالعلمانية التي هي ليست إلا دوغمائية بالية ومحاولة لكسب أوساط تعتبر نفسها متنورة، ومحاولاتهم الأخيرة بإضفاء مسحة قومية شكلية ومفتعلة على خطاباتهم التي هي ليست إلا محاولة رخيصة لممالأة الميول القومية الطبيعية لشعبنا. إذ كيف يمكن تفسير هذه التغيرات (اللفظية) في خطابهم في الوقت الذي لا تتوقف ماكناتهم الإعلامية الفردية ضد التجمع ورئيسه – ليس على شكل نقاش فكري رصين أو سياسي وهو أمر مشروع ومطلوب، إنما عبر اجترار الأحقاد والإشاعات الرخيصة.
8. تطوير العمل والعلاقات مع قوى ديمقراطية غربية وتعريفها بحقيقة الدولة العبرية وممارساتها ضد العرب ككل وضد قواهم السياسية الديمقراطية التي تطرح حلاً ديمقراطياً وإنسانياً للمسألة الفلسطينية واليهودية في فلسطين.
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

شكلت قابلية تحول فكر عزمي بشارة لمشروع سياسي وتحوله الفعلي لمشروع سياسي، تحديا لإسرائيل. لكن التحدي الذي شكله بشارة لم يقتصر على الفكر وعلى المشروع السياسي. حضور عزمي بشارة شكل تحديا، صياغته للفكرة وللمشروع الذي يحملها شكلت تحديا، المطابقة بين الشعار والممارسة شكل تحديا. قدرته على أن تفهمه الضحية المهزومة بالحس والغريزة والفطرة إن لم تستطع بالفكرة هي تحد، واقعيته التي أصر أن لا تستنفذ العدل هي تحد.

وقد شكل المشروع السياسي لعزمي بشارة تحديا، ليس فقط لأنه غير في الخطاب السياسي السائد، بل لأنه أحيى السياسة، وأعاد للعمل السياسي زخمه ولونه وإبداعه. وإحياء السياسة لا تكون بضخ إبداع سياسي ما فقط، بل بأحياء حامل السياسة، أو حامل المشروع السياسي، الإنسان.
المشروع السياسي لعزمي بشارة أحيا الوجدان النفسي للكثيرين، وشحذ الهمم. وكما أعطى فكره للشعور الوجداني والتاريخي للضحية مشروعية عقلانية علمية مقنعة في كثير من الأحيان حتى للعدو نفسه، زود مشروعه السياسي الضحية بأدوات سياسية عالية الإبداع، وعرف كيف يعيد للأخلاق وللحق قوتهما. الضحية بفكر عزمي أصبحت تتحدث مع المنتصر كضحية، بعد أن اعتادت مخاطبته كرعايا عاجزة نسيت مأساتها التاريخية. الضحية أصبحت تتحدث مع المنتصر ليس فقط كضحية، إنما كضحية قوية، قوية لدرجة أنها تريد أن تفتح الملف من أوله. وهي تريد أن تفتح الملف من أوله، ليس لأنها تريد أستعادة الماضي، أو تغيير نتائجه، بل لأنها تريد السيطرة على حاضرها ومستقبلها، وهي تعرف أن ذلك لا يستقيم مع ملف أغلق بشكل غير صحيح.

الكبرياء والكرامة والذاكرة والتاريخ والانتماء، في فكر عزمي ومشروعه، انتقلت من عناصر رومانسية محفوظة لأدي المقاومة وشعره، إلى أدوات سياسية أخترقت الواقع والأذن الإسرائيلية، بعد أن كانت ضمن القاموس الفلسطيني الداخلي.

فكر عزمي استنهض الضحية وهيج المجرم.

حفز إسرائيل مجددا، بعد أن ارتاحت من الشكل الذي اتخذه النضال العربي منذ أوائل الثمانينات وإلى أوسلو، حيث استقر النضال إلى مطالب مدنية بحتة، وإلى مساواة غير متساوية، تقبل بكل نتائج الهزيمة بما فيها الطابع العنصري واليهودي للدولة. المشروع السياسي لعزمي بشارة استنهض الدولة اليهودية لأنه لم يقبل بجميع نتائج هزيمة ال48 كما حددتها إسرائيل.

فهو أولا: أعاد صياغة البعد الوطني في الصراع، وفي المواجهة. وأعاد صياغة علاقتنا مع حركة التحرر الوطني ليس كعلاقة تضامن أو كجسر سلام، بل كعلاقة عضوية. وأعاد الصراع إلى جذوره التاريخية، وأعاد النكبة إلى حسابات الصراع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بعد أن اقتصر هذا البعد على اللاجئين. وهو ثانيا: أدخل التصادم مع هوية الدولة اليهودية لساحة النضال المدني، أي أصبحت مواجهة صهيونية ويهودية الدولة جزءا من حسابات المواطنة. الورقة (المواطنة) التي ظنتها إسرائيل رابحة دائما، و التي أرادت بها ترتيبا سياسيا مدنيا وخدماتيا، تضمن عن طريقها سيادتها واستمرارية مشروع بناء دولة اليهود، أصبحت في فكر ومشروع عزمي بشارة جزءا من صدامنا القومي مع الدولة.

بهذا التعريف القومي الوطني للنضال، وبهذا التعريف غير المؤسرل، بل المواجه ليهودية الدولة، أعاد بشارة الصراع من أجل المساواة إلى جزء من نضال فلسطيني وليس إلى نضال إسرائيلي، وشدد على أننا نطالب بالديمقراطية ليس كإسرائيليين بل كفلسطينيين. وفي نفس الوقت شدد بشارة على أنه حتى مشروع تأسيس خطاب المواطنة على البعد التاريخي لنا كأصحاب وطن هو ليس العدل المطلق، بل هو بحد ذاته "الثمن" الذي ندفعه، والمساومة التاريخية التي قبلنا بها. مضمون المواطنة هو الثمن الذي لم نسلم به، وهو الذي نعيد صياغته كأبناء وطن سلبت سيادته منا. لكن يبقى سياق المواطنة هو الثمن الذي سلمنا به.

الوعي القومي في فكر ومشروع بشارة تحول من "عثرة" في طريق الأسرلة، إلى مشروع سياسي-ثقافي مركزي لدى النخبة السياسية".

فكر عزمي بشارة هو تحد، وإسرائيل لا تبالغ في هذا: النموذج الوحيد في العالم الذي طالب بحقوق مواطنة من كيان سياسي، بعد أن نزع ملامح هذا الكيان السياسي عن المواطنة التي يطالب بها. باختصار نحن نطالب إسرائيل بمواطنة غير إسرائيلية!

صحيح أننا الوحيدون الذين نطالب من دولة بمواطنة لا تشبه الدولة في شيء، لكن هذا ليس لأننا مبدعون. بل لأن الدولة مبدعة، أبدعت مواطنة لا تشبه المواطنات في شيء. أبدعت مواطنة تشبه العضوية في حزب. أنت تختار أن تكون عضو في حزب لأنك توافق على أيديولوجيته وسياساته. وأسرائيل تعرض عليك مواطنة الشرط فيها أن تكون صهيوني تحارب العربي أو عربي تسكت على محاربة العربي، أو عربي لا ترى ما يجري حولك. بكلمات أخرى إسرائيل تعرض عليك مواطنة حزبية.

الدول ليست حزبًا، كي أكون عضوا فيها عليّ أن أقبل بأيدلوجيتها، الدول كيانات سياسية عليها أن تكون محايدة للأيديولوجيات. ومنطقي أكثر أن تكون الصهيونية حزب، ولو كانت كذلك في دولة طبيعية لأخرجت عن القانون. إذا نحن في دولة لو تبنى حزب أيديولوجيتها لأخرج عن القانون!.

هذا الكلام هو كلام ليبرالي بسيط، صالح حتى دون أخذ السياق التاريخي لأصحاب الوطن بعين الاعتبار، لكنه في دولة عنصرية يصبح تحديا كبيرا. المطالبة بمواطنة ليبرالية هو مطلب ديمقراطي، لكن المطلب الديمقراطي في دولة عنصرية يتحول لمطلب مهدد.

عندما يربط عزمي المواطنة في الهوية القومية، فهو لا يربطها بواو العطف. أي الشعار هوية قومية ومواطنة كاملة هو شعار فيه أكثر من تبسيط، فيه إجحاف لفكر عزمي، ولو أنه هو نفسه الذي اختار هذا الشعار.
في شعار هوية قومية ومواطنة كاملة، نحن نعرض لعلاقة أفقية بينهما. بينما الهوية القومية في مشروع عزمي هي مرجعية للمواطنة. الهوية هي العمق لتاريخي الذي على المواطنة أن تستند عليه، بالتالي هي مرجعية للمواطنة وهي التي تمدها بمضامين سيادية غير موجودة في المواطنة الليبرالية الحقوقية. هذه المواطنة السيادية، تسترجع شكلا من أشكال السيادة على أرضنا وعلى أدوات تشكيل هويتنا وعلى علاقتنا مع العالم العربي. المواطنة هنا تستند على التاريخ والذاكرة الجماعية لتمدنا من هناك بشرعية هذه السيادة. ومن هنا أن المواطنة كما نطالب بها في دولة المواطنين هي مواطنة تحتكم لمرجعية خارجة عن إسرائيل الدولة.

وإسرائيل خافت من مواطنة دولة المواطنين هذه ليس فقط لأنها تحتكم لمرجعية خارجها بل وحتى مناقضة لها، بل وبالأساس لأنها رغم الاحتكام لتاريخ يقع خارج إسرائيل، هي متصالحة أيضا مع مفاهيم الديمقراطية، التي تحاول إسرائيل احتكارها واستعمالها كسلاح في يدها ضد كل ادعاء. دولة كل المواطنين هي محاربة الخصم بأسلحته.
مشروع عزمي بشارة هو ليس مشروعًا قوميًا فقط، وهو ليس مشروعًا قوميًا وديمقراطيًا، بل هو مشروع قومي ديمقراطي، حيث الديمقراطية هنا هي صفة القومية وليست فقط صفة المشروع. القومية التي تحدث عنها عزمي بشارة هي قومية حداثية، تتعامل مع القومية ليس كجوهر ثقافي، وليس كصفات عضوية، بل كسياق تاريخي جغرافي عيني، يحمل سمات ثقافية جامعة ومتجددة، ومتشكلة ضمن مشروع سياسي لتنظيم المجتمع. التعامل الحداثي هو في النهاية تعامل يضع الإنسان في المركز، يضعه بذاكرته التاريخية وبانتمائه الجماعي.
والمشروع القومي الذي يتحدث عن حقوق وعن مساواة سيادية تنتزع من دولة لا يستطيع إلا أن يكون مشروعا ديمقراطيا، لأنه وكما يشدد بشارة "البنى الاجتماعية التقليدية لا تتوقع المساواة من الدولة، بل تحاول أن تتقي شر الدولة. وهي لا تتوقع المساواة للمواطن ولا تطالب بها، لأنها هي ذاتها لا تعترف بالمواطن الفرد ناهيك عن المواطنة الأنثى".

منذ بداية التسعينات طالب عزمي بشارة بتطوير قوى سياسية تحمل الأفكار السياسية التي طرحها. كل هم فكري سياسي طرحه، ترجمه فورا إلى مشروع سياسي واضح، ودعا لمن يحمله. دعا أولا لقوى تحمل المطالبة القومية الصدامية مع دولة اليهود، ثم دعا لقوى تحمل المشروع القومي الديمقراطي داخل الدول العربية. وفي الحالتين عزمي بشارة كان هو الحامل الأول، لقد دعا ثم لبى هو دعاءه. لقد نظر فكريا، ثم طور المشروع السياسي الحامل للفكرة، ثم حمل المشروع السياسي الذي طوره.

عزمي بشارة حمل مشروعه حمله منفيا ومغتربا داخل البرلمان الإسرائيلي، كما حمل المواطنة منفيا ومغتربا عنها، وكما قبل بمواطنة أراد الانتصار عليها، قبل ببرلمان أراد أيضا الانتصار عليه.

إسرائيل لم تستطع مواجهة عزمي المشروع السياسي، ولن تستطيع. فظنت أنها تستطيع أن تقضي على عزمي الإنسان، تستطيع اختصار حربها ضدنا بحربها ضد عزمي. وهي بذلك تخطئ مرتين، مرة لكونها تظن أننا سنتبرأ ممن تخافه، ومرة لأنها تظن أننا براء من مشروع تخافه.

نحن لن نتبرأ من عزمي بشارة، ولن يكون بوسع أي أحد أن يتراجع صراحة عن المشروع الذي طرحه، هنالك إمكانية أخلاقية واحدة فقط، التقدم بهذا المشروع إلى الأمام.
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا
الصفحة الثانية

لا مجال للنقاش والجدل بأنّ الدخول القويّ لعزمي بشارة الى الساحة الأكاديمية والسياسية قبل عقدين أثر الكثير وأدى الى تحوّل جذري في الخطاب السياسي ليس للعرب في الداخل فحسب وإنما كان له أثر كبير على الخطاب السياسي الإسرائيلي بشكل عام. فمن غير الممكن ان نحاول تفنيد وتحليل الخطاب السياسي لعرب الداخل أو الخطاب السياسي الإسرائيلي بشكل عام دون أن نلتقي بكتابات بشارة حول القومية والديمقراطية والدين والمواطنة والمجتمع المدني والحداثة والنهضة والتنوير. وقد أحدث عزمي نهضة نوعية في الخطاب السياسي لعرب الداخل بعد أن كان هذا الخطاب اقتصر على كتابات متبعثرة والتي في أغلب الأحيان اقتصرت على مساهمات حزبية بحتة. ظهور عزمي على الساحة الأكاديمية والسياسية في الداخل أعطت الخطاب السياسي طابع شامل حيث نجح في تجاوز محدوديات الواقع العربي في إسرائيل واخترق الخطاب السياسي الإسرائيلي من جهه والخطاب السياسي في العالم العربي من جهه أخرى. وتحوّل عزمي بشارة بسرعة كبيرة الى مفكر تقرأ كتاباته في أروقة الجامعات الإسرائيلية والعربية على حدٍ سواء، إضافتًا للإهتمام السياسي والإعلامي بكتاباته الغزيرة. وبالرغم من إتساع فكر عزمي السياسي، إلاّ أن أقوالي التالية ستقتصر على توجيه الأنظار الى تأثير فكر عزمي على الخطاب السياسي لعرب الداخل وهي لا تجمل مساهماته الجمة في مجالات عدة. ومن الممكن محورة تأثير فكر عزمي بشارة في عدة موضوعات أساسية أهمها:

1. فك حصار خطاب المواطنة الإسرائيلية للهوية والإنتماء الوطني والقومي لعرب الداخل كما أرادته السلطات الأسرائيلية المؤتمنة على صناعة الوعي وأدلجة المخيلة الجماعية لمختلف المواطنين في إسرائيل. طرح عزمي مسألة الهوية القومية والوطنية ببعدها التاريخي الذي يستبق نكبة 1948 وإقامة دولة إسرائيل وأكّد أهمية ومركزية التواصل ما بين تاريخ الشعب الفلسطيني وتاريخ الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، والتي حاولت الدولة محورة هويتها بإنتمائها المدني وتاريخها الإسرائيلي. وأكدت كتابات عزمي على أهمية الإسقاطات المنهجية والسياسية للقطيعة المتجذرة في الدراسات الإسرائيلية بين تاريخ وواقع الشعب الفلسطيني بشكل عام وتاريخ وواقع الفلسطينيون في إسرائيل. من هنا أتى نقده لخطاب "العربي الإسرائيلي" كخطاب مبتور يؤكد الفصل ما بين أجزاء الشعب الواحد، مركزًا على مركّب المواطنة أكثر منه على مركّب الإنتماء الوطني وبالتالي يقبل الخطاب الأسرائيلي بكل ما يتعلق بالمستقبل السياسي للشعب الفلسطيني. وبيّن عزمي الحاجة الى التأكيد على طرفي الإنتماء – المواطنة الكاملة والأنتماء الوطني الغير منقوص - لكونهما يكملا أحدهم الآخر إذا ما أردنا إحقاق حقوق الأقلية الفلسطينية والتي هي أقلية وطن أصلانية لها الحق الكامل على وطنها.

2. من خلال تفكيكه لخطاب "العربي الإسرائيلي" طرح عزمي منهجًا بحثيًا نقديًا لدراسة واقع عرب الداخل مستقيًا أفكاره من المدرسة النقديّه الألمانية المتمثلة بشخصيات متنوعة مثل كارل ماركس من جهه وفريدريخ نيتشه من جهه أخرى وتلاميذهم في دراسات العلوم الإجتماعية والتاريخ مثل مدرسة فرانكفورت وغيرها. لهذا الجانب أهمية كبيرة في فهم عطاء عزمي الفكري. وقد بيّن هذا السياق بأن الهوية ليست معطى حتمي وإنما نتاج لعملية تراكم وبناء من خلال الخطاب التحليلي السائد وأن الآليات التحليلية والوقائع التاريخية المستعملة في التحليل لا تعكس الواقع كما هو وإنما تصنعه وتشرعنه وبالتالي فان استعمال آليات المواطنة الإسرائيلية ومدى تقبّل العرب لها أو الوقوف عندها ومحورة التحليل حولها لا يقدم تفسير للواقع فقط وإنما يخلق وعي كامل متكامل محولا المواطنة الى مقياس وبنية قانونية وسياسية تقاس الوقائع بحسبها، الشيئ الذي خدم ويخدم خطاب ونوايا المؤسسة الإسرائيلية. ويبيّن عزمي من خلال منهجه النقدي بأن هنالك إنتقائية في قراءة الواقع المشكّل للوعي وهذه الإنتقائية هي سياسية ولها إسقاطات ليس فقط على فهم الواقع وإنما على شرعية التصرّف فيه. فعزمي يقبل المقولة الماركسية بأن الواقع والممارسة فيه يحددا الوعي. ولكن تحديد الممارسة وحدودها هما عملية إنتقائية يقوم بها المحلل وبالتالي فأن الأنتقائية في التحليل لها أبعاد إدراكية يجب أخذها بعين الأعتبار. وقد انتقت الأكاديمية الإسرائيلية المواطنة الإسرائيلية كالسياق الواقعي والبنية العملية للنظر لتصرفات وخطاب العرب في إسرائيل وأهمية فكر عزمي في هذا السياق هو تفكيك حدود المواطنة وتبيان نزعتها القسرية والسياسية وخلق فضاء تحليلي جديد يتجاوز الخط الأخضر ويخلق تكامل بين قضية اللاجئين الفلسطينيين ونشوء مجموعة إجتماعية تسمى عرب الداخل. خلق هذا التواصل على مستوى التحليل اخترق فضاء التحليلات الإسرائيلية محوّلا عرب الداخل وقضاياهم الى مسألة وطنية وقومية متكاملة مع القضية الفلسطينية والمسألة العربية بشكل عام. من هنا أوضح عزمي بأن التحليلات والتعليلات والحلول المطروحة على الساحة الأكاديمية والسياسية الإسرائيلية ومدى التكامل بينها تغذي الواقع السياسي والإجتماعي والديموغرافي الذي أنتجته النكبة، ولهذا قدّم عزمي منهجًا تحليليًا وفكريًا وخطابيًا جديدًا ومناهضًا لما كان مقبولا تجاوز كل ما كان موجود على الساحة الإسرائيلية. وبيّن عزمي العلاقة العضوية بين المنهج التحليلي والإلتزام السياسي موضحًا أن الكثير من الأكاديميين العرب يقعون في مطب المنهجيات والتحليلات المتجذّرة في المؤسسات الأكاديمية والسياسية الإسرائيلية وبذلك يغذّوها ويعطونها الشرعية. هذه المساهمة المنهجية التحليلية تشكل من أهم مساهمات عزمي الفكرية وهي التي نبهت الى مدى نجاح الفكر الصهيوني في إحتكار الفكر والمعرفة في إسرائيل بما في ذلك في قطاعات واسعة من المجتمع العربي في الداخل بكل مايتعلق بالواقع السياسي والإجتماعي للعرب والفلسطينيين.

3. طرح عزمي خطاب الفكر القومي وإنعكاسات الفكر التنويري الأوروبي الليبرالي فيه بشكل قوي وأكد على أهمية الفردانية كمنهج تستقي فيه القومية نزعتها الديموقراطية. ومع أن عزمي لم يكن الأول الذي عالج القضية القومية إلا أنه كان المنظّر الأوسع أفقًا عند عرب الداخل في تعامله مع تطوّر الحركة القومية في أوروبا والوقوف عند عواملها وأبعادها. وتواصل هنا مع مفكرين أوروبيين ومفكرين عرب محاولا الوقوف عند محاور القومية المختلفة الاثنية الشوفينية منها والمدنية السياسية منها. وتساءل عزمي عن مدى كون الهوية القومية معطى أحادي يتعلق بأصول اثنية أو عنصرية أو ثقافية قديمة أم أنها نتاج لحركة الحداثة والتكوين الثقافي والإدراكي الناتج عن مصالح مجموعات سياسية تود الحفاظ على موقعها المهيمن. وطرح عزمي الهوية القومية بشكل نقدي مبينًا شقيها، الإثني من جهه والمدني من جهه أخرى ونبه عزمي الى أبعاد وإسقاطات القومية الإثنية المغلقة والمؤدية حتميًا للعنصرية والتعصّب والبطش في علاقاتها مع الآخرين كما هو الحال في الحركة الصهيوينة. ومن خلال نقده للقومية الاثنية طرح القومية المدنية كبديل لتشكيل المجموعة ذات السيادة على مستقبلها بشكل إرادي وكون القومية المدنية سياسية في جوهرها جامعة بطبيعتها تفسح المجال لتواجد مجموعات إنتماء مختلفة داخل الأمة وتحترم فردانية الفرد وبالتالي قادرة على إستيعاب التنوّع والإختلاف كجزء من سيادة الأمة على نفسها. ومن هنا أتت نظرته للقومية كهوية جماعية تحدد طبيعتها من خلال التواصل بين مكوناتها الإجتماعية المختلفة وأن القومية هي عملية صياغة هوية متواصلة وليست معطى تاريخي ذو طبيعة جامدة. وربط عزمي بين القومية والتي هي هوية تحدد العلاقات والحدود بين المجموعة القومية والآخرين وبين كون الإنتماء القومي يتشكل كمجتمع مدني من الداخل. وبعبارة اخرى فان القومية المبتغاه وهي الهوية الحداثية الأكبر نجاحًا لا يمكن إلا أن تكون ديمقراطية وتعبّر عن الإرادات الداخلية للأفراد وللمجموعات المشكلة للأمة المكوّنه لها بمحض إرادتها ومشاركتها المتساوية في صياغة المشروع القومي. ومن هنا فما القومية إلا مجتمع مدني من الداخل وهوية وإنتماء من الخارج. بناءً على ذلك أتت معالجة عزمي للقومية العربية ولأزمة الهوية الوطنية في المجتمع الفلسطيني والعربي على حدٍ سواء. ومن هنا دخل عزمي في مواجهه مباشرة مع النزعات الطائفية والعشائرية والقبلية وإستخداماتها المختلفة في المجتمع العربي في الداخل وفي المجتمعات العربية في الدول العربية لأنها تحوّل الإنتماء الى المقياس الأساسي للحقوق الشيء الذي يرسخ سياسات الهوية الإحترابية والتي تنتزع الشرعية من المواطنة المتساوية. كما دخل في مواجهه مع بعض المفكرين الإسلاميين الذين حصروا الأسلام بكونه أيديولوجية سياسية توفر الحل للمشاكل والعقبات التي تواجهها المجتمعات العربية وحولوا الأنتماء الحضاري للأسلام الى مجرد نزعة طائفية لا تفي الأسلام حقه. ومن المهم الاشارة الى أن عزمي كان وما زال من المفكرين السياسيين الذي يرى بالقومية كالمشروع السياسي والهوية الوحيدة القادرة على تجاوز ومعالجة الأزمات والخلافات والإخفاقات المختلفة في المجتمعات العربية. ويرى عزمي بالقومية كهوية حداثية تمكينية وكمشروع سياسي يوفر الحل الأحسن لمواجهة التقوقع الطائفي والإحتراب القبلي والعصبية العشائرية من جهه ولتجاوز الإستبداد للدولة القطرية والنخب المهيمنة عليها والتي هي رهينة للبنية الإجتماعية القبلية وللإقتصاد الريعي وللهيمنة الأمريكية من جهه أخرى. ويطرح عزمي المشروع القومي المدني كمشروع يواجه الصهيونية والتي هي ضرب من أضراب الهوية الاثنية المتقوقعة حول الذات العنصرية. وفي كتاباته انتقد الفكر الصهيوني مبينًا مكنوناته الاثنية التي تستثني الآخر والتي كانت من وراء التعامل مع الفلسطيني بالقمع والإقصاء والمحو الفعلي والرمزي. وواضح بأن القومية اليهودية الإثنية تشكل عائق لتطور هوية مدنية إسرائيلية علمانية جامعة وبالتالي تعطي الأفضلية لليهود المتدينين في صراعهم مع العلمانيين حول الهوية اليهودية المستقبلية. وفي نفس الوقت تُشكِّل الهوية القومية الاثنية عائق لتطور حيز مدني عام ومواطنة إسرائيلية متساوية. وبالتالي فان الإدعاء بإمكانية المساواة بين العرب واليهود في إسرائيل من خلال الأندماج في المواطنة كما تطرحها الدولة ليست قائمة وذلك لكون البنية السياسية والعقد الإجتماعي ذوي طابع اثني مغلق. وكان هذا الإدعاء ضربة لكل سياسات الإندماج والمشاركة المتساوية التي روجت لها قوى سياسية عربية مختلفة خصوصًا تلك التي ارتكزت على الشراكة العربية اليهودية بشكلها الأممي والتي قللت من أهمية الإنتماء القومي في الصراع حول المساواة في إسرائيل. وأوضحت كتابات عزمي بأن المساواة ما هي إلا إدعاء فارغ وان العوائق للمواطنة الإسرائيلية المتساوية تنبع من عدم إلتزام الأغلبية اليهودية بالهوية الإسرائيلية من الأساس وتأكيدها على إنتمائها القومي الآني كمصدر للحقوق في الدولة. ومن هنا أتت فكرة دولة جميع مواطنيها كمشروع سياسي وأفق فكري. وبالرغم من كون المصطلح قائم في الخطاب السياسي قبل ظهور عزمي إلا أنه لم يكن بالزخم الذي رأيناه في سنوات التسعينات بعد بروزه على الساحة الأكاديمية. وكان عزمي الأول في صياغة فكرة دولة جميع مواطنيها كمشروع سياسي أتى لتفكيك العلاقة المتينة بين الهيمنة الإقصائية لليهود على مؤسسات الدولة وبين مفهوم حق تقرير المصير لليهود في إسرائيل. كما وجه الأنظار الى الإختلاف بين الحق التاريخي والحق النابع من الواقع الإنساني الحالي. وبهذا وبخلاف مع بعض القوى العربية التي اعترفت مبدئيًا أو عمليًا بحق الشعب اليهودي التاريخي على الأرض أتى عزمي لينسف هذه المقولة والإدعاء موضحًا بأن الإلتزام الاخلاقي للشعب الفلسطيني يلزم بتوفير حل إنساني مقبول للمجموع اليهودي الذي تطور في إسرائيل وتشكل هوية وطنية جديدة يجب التعامل معها. وكان هذا الإدعاء قَلب للموازين والمعادلات وتحويل الأنظار الى تكامل الحق الفلسطيني التاريخي والأخلاقي كالمنطلق الأساسي للتعامل مع الواقع. وكان هذا الخطاب نسف للخطاب الصهيوني الذي يتعامل مع الفلسطينيين كمجموع أجزاء يجب توفير له الحلول على مستويات مختلفة تتلائم مع الحق اليهودي على الأرض. وقلب آليات التفكير من خلال تغيير منهج النظر الى الواقع وتحليله نبع من الرؤية القومية المدنية وكل ما يترتب عليها من مواطنة متساوية وشراكه تامة في صياغة المشروع السياسي المشترك لجميع المواطنين في الدولة. وأرفق عزمي لفكرة دولة جميع مواطنيها مشروع الحكم الذاتي الثقافي الذي أتى لكي يلزم الدولة بالتراجع عن الهيمنة التامة على آليات الجتمعه وبناء الوعي الجماعي من جهه وجعلها مسؤولة عن اعطاء عرب الداخل حق ولو جزئي بتقرير مصيرهم من خلال ما أسماه الحكم الذاتي الثقافي. ومن أن بعض الاكاديميين العرب واليهود حاولوا الإدعاء بأنه ثم تناقض بين فكرة دولة جميع مواطنيها وفكرة الحكم الذاتي الثقافي إلا أن القارئ المتعمق بفكر عزمي وإجتهاده بكل ما يتعلق بمفهومه للمجتمع المدني ولفكرة القومية المدنية الليبرالية يرى بأن هذه الإدعاءات تنبع من جهل أكثر منه من إدعاء له ركائز تحليلية في فكر عزمي. ومن هذا المنطلق أوضح عزمي إلتزامه الفكري والعقائدي وربطه العضوي للقومية والديمقراطية واللبرالية معًا.

4. محور أساسي في فكر عزمي والذي كان له أثر كبير على الخطاب السياسي لعرب الداخل على وجه الخصوص وعلى الخطاب السياسي الإسرائيلي بشكل عام هو محور المواطنة. وقد عالج عزمي ظاهرة المواطنة من أساسها حيث تطورت في الغرب وتشكلت حول مركزية المواطن الفرد وحقوقه المدنية والسياسية والإجتماعية. وأظهر الشرخ القائم ما بين مشروع الدولة اليهودية وفكرة المواطنة الفردانية والجماعية المتساوية ممحورًا نقده في فكرة الدولة اليهودية الديمقراطية. وبناءً على نقده للمواطنة العربية في الدولة الإسرائيلية طرح فكرة المواطنة الكاملة القائمة على الشراكة الكاملة أو ما أسماه Shared Civility. وفكرة المواطنة الكاملة تعني تفكيك الدولة من هويتها الاثنية وتحويل هذه الهوية الى مستوى أو سقف تحت مستوى الدولة بحيث أن مستوى الدولة ينعكس من خلال ما أسماه "الأمة المدنية" التي من الممكن بأن تكون شاملة لهويات وطنية مختلفة يكون الإنتماء اليهودي جزء منها. وكان من ترجم هذا التوجه بشكل خاطئ على أنه إندماجي ولكن بإعتقادي أن فكرة الأمة المدنية تفسح المجال لحلول سياسية مستقبلية تتجاوز حل الدولتين المطروح في واقع يتنافى معه دون إسقاط الحق المتساوي والشراكة التامة بين العرب واليهود وذلك في دولة ثنائية القومية تكون مبنية على كونفدرالية. وقد اصطدم هذا المشروع الفكري مع الواقع السياسي خصوصًا عند دخول عزمي الى الكنيست وإحتدام الصراع حول هوية الدولة ومحاولات فرض الأغلبية اليهودية لهوية الدولة اليهودية كشرط مسبق للدخول الى اللعبة السياسية وبأن كل مشروع سياسي يتصادم مع تعريف الدولة لنفسها كيهودية هو غير قانوني. من هنا أتت كل المحاولات للحد من حق عزمي وحزبه المنافسة الإنتخابية والدخول الى الكنيست. كما أن مشروع المواطنة الكاملة مع كل ما يعني ذلك من تبعات سياسية وقانونية هو الذي حذى بالمؤسسة السياسية والقانونية تصويب سهامهم على فكر عزمي بشارة وحزب التجمع الوطني الديموقراطي. وإزدادت حدة تصويب السهام عندما بدأ هذا الفكر بالتفشي في إدراك ووعي عرب الداخل على جميع أطيافهم السياسية ومشاربهم الفكرية وتحول الى الخطاب المهيمن على الساحة المحلية بالرغم من أنه لم يحصل على دعم أغلبية الجماهير على المستوى الحزبي. لا بد من التنويه هنا بأن هنالك فرق كبير بين نجاح فكر عزمي في إختراق وعي المجتمع العربي وبين نجاح حزبه في تحويل هذا الإختراق الى دعم إنتخابي وذلك يعود لأسباب سياسية وتاريخية تنظيمية لا يمكن الخوض بها في هذا السياق مع أنها تتطلب إجابات جدية. وقد أثار هذا الفكر ضغينة المؤسسة لأنه صبغ الفكر السياسي العربي في الداخل بلونه.

5. لا بد من التطرّق ولو بشكل مقتضب للعلاقة المركبة التي طرحها عزمي بين الفكر القومي والإسلامي. وطرح عزمي التعقيدات الكثيرة في العلاقة بين الفكر القومي والفكر الإسلامي مبينًا بأن هنالك علاقة عضوية بينهما بحيث أن الإسلام هو الحضارة التي تدور في فلكها القومية العربية من جهه ولكن لا يمكن أن يتم تحويل الإنتماء للإسلام الى إنتماءٍ طائفي يشق الأمة القومية ويقصي أجزاء منها من جهه أخرى. ويشدد عزمي على عروبة الإسلام وكون الأخير مركب واحد من مركبات الهوية القومية وبوصلة أخلاقية تهذيبية لها. ولكنه يبيّن أيضًا بأن من يرفض أن يكون الإسلام مجرد مركب واحد في الهوية القومية يؤدي الى تحويل هذه العقيدة والحضارة الى مجرد طائفية تشق وحدة الأمة وتمنع تفرّد الفرد كمواطن في الدولة القومية. وأكد عزمي على أهمية عدم تحويل الإسلام الى طائفة منغلقة على نفسها كما هو الحال في سجالات بعض المنظرين والمفكرين الإسلاميين، وهاجم تحويل التديّن الى آلية مركزية في النضال لإحقاق الحقوق الفردية والجماعية لما في ذلك من شطب لقوى سياسية علمانية، ولما في ذلك من تحويل الإيمان الديني الى مجرد عصبية شوفينية منغلقة على ذاتها وغير متواصلة مع التعددية الإجتاعية التي تميّز المجتمعات العربية جميعها وذلك دون المس بالحق في الايمان والتدّين.

وبالرغم من عدم إرادة بعض الأشخاص نسب بعض الأفكار لعزمي في الكثير من الأحيان وبالرغم من أن عزمي طور بعض الأفكار التي كانت قائمة في بعض الخطابات السياسية بعد أن رقدت مدة طويلة دون أن يداعبها أحد، لا يمكن الحديث عن تطور الفكر السياسي العربي في الداخل دون التطرق الى محورية عطاء عزمي وتأثيره. ومع أن الفكر لا يمكن أن يكون حكرًا لأحد ولا يمكن أن يتم شخصنته إلا أن الأمانه الفكرية والتاريخية والأخلاقية تلزم توجيه الأنظار الى فكر عزمي وعطاءه الكتابي كحالة خاصة في تاريخ الفكر السياسي العربي في الداخل وفي السجالات الفكرية السياسية في العالم العربي في العقد الأخير، حتى في الحالات التي لا نتفق معه في التفكير أو التحليل. وبعد أن قلت ما قلته يطرح السؤال عن آفاق هذا الخطاب في المستقبل خصوصًا على خلفية سياسات الدولة وقياداتها. إذا تم الإتفاق على أن الفكر، سياسي أو آخر، غير قابل للشخصنة وإذا إتفقنا بأن تشكُّل الوعي الفردي والجماعي هو عملية تراكم مستمر تعمل فيه وعليه قوى مختلفة فلا بد من القول أن الخطاب السياسي الذي طرحه عزمي سيدوم لفترة طويلة جدًا بالرغم من تطرف الدولة وكل محاولات إحتوائها له. فالوعي السياسي لعرب الداخل متأثر من حالته المادية اليومية وما هو فكر عربي إلا ترجمة للأحاسيس والمشاعر والمعاناة والألم اليومي لكل عربي. فالفكر غير منزه عن الواقع وواقع عرب الداخل صعب خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الإعتبار سياسات الدولة الإستيطانية داخل الخط الأخضر وخارجه والهادفه الى تقويض الوجود العربي وإضعافه الى حد محوه الرمزي إن لم يكن الفعلي. وسياسات المصادرة أو الإقتطاع للأراضي وعمليات بناء المستوطنات الجديدة أو توسيع القائمة في المناطق المختلفة على حساب البلدات العربية تجعل الوجود والواقع العربي اليومي مهدد وصعب. ومن هنا فان فكر عزمي مستمد من هذا الواقع ومطالبته بتفكيك يهودية الدولة لأنها العدو الأساسي للكيان العربي وتكريس فكرة دولة جميع مواطنيها والمواطنة الكاملة يتواصل مع إحساس كل مواطن عربي على المستوى اليومي. وقد تواصل فكر عزمي مع كل مواطن عربي حتى وان انتمى هذا المواطن الى حزب معادي لعزمي. كما أن فكر عزمي اخترق الخطاب السياسي للأحزاب الأخرى وتحوّل الى جزء لا يتجزء من الفكر السياسي لهذه الأحزاب حتى وان حاولت صياغة هذا الفكر بعبارات مختلفة. كما أن لفكر عزمي مستقبل طويل الأمد لأنه تمؤسس في مستندات "التصورات المستقبلية" المختلفة الّتي تم نشرها في السنة الأخيرة. وهنا لا بد من الإشارة بأن نواة الفكر القائم في هذه التصورات ما هي إلا ترجمات مختلفة لفكر سياسي أحياه عزمي وأعطاه صبغة خاصة من خلال كتاباته السياسية في العقدين الأخيرين.
ولا بد من الإشارة الى أن فكر عزمي له إسقاطات وأبعاد كبيرة ومن غير المهم إذا وافقنا معه على كل شيء أم لا وذلك لكون هذا الفكر أصبح ذو تأثير في العالم العربي أجمع ولكون الكثير من المفكرين العرب والأجانب يكنّو له الإحترام والود ولكون الشخص ما زال حي يرزق ويكتب بغزارة كبيرة.

ولكن وهنا النقطة الهامة وهي الى أي مدى ما قلته عن فكر عزمي ومستقبله ينسحب على مشروعه السياسي. وهنا أفصل بين الفكر كخطاب متداول ووعي يشكل عامل مهم في صياغة الوعي الجماعي وبين كونه مشروع سياسي. بدون شك أن المشروع السياسي المتمثل في حزب التجمع الوطني الديمقراطي مهدد وبقاءه في الكنيست غير مضمون بتاتًا وذلك لعدة أسباب أهمها:

1. شراسة عداوة الدولة له والمترجم من خلال إقصاء الشخص نفسه في البداية من خلال الحد من شرعيته السياسية والرمزية ومن ثم من خلال إقصاءه الفعلي وإبعاده الجسدي. كما أن هذه العداوة مترجمة من خلال التنكيل بأتباعه والقائمين على بقاءه والاعتقالات والتحقيقات ما هي إلا أحدى أوجه هذه العداوة. وجهها الآخر ممكن أن يترجم قانونيًا أو قضائيًا في الدورة الانتخابية القادمة، بحيث تتم محاولات إستعمال الإتهامات الموجهه لعزمي لشطب الحزب وتحويله الى تنظيم لا يفي بالشروط المسبقة التي يحددها القانون للدخول الى المعترك الإنتخابي.

2. المصالح الحزبية السياسية الضيقة والمتمثلة في محاولات منافسيه السياسيين إضعاف هذا المشروع من خلال إما إقتباس أجزاء منه أو معاداته ووضعه تحت التساؤل مثلما وضع الشخص تحت التساؤل عندما قرر عدم تسليم رقبته لجزاره. وبإعتقادي أن تصرفات بعض القوى السياسية العربية ممكن أن تكون لها تبعات وإسقاطات ذات أهمية تتجاوز موقف السلطة وذلك لأنها تنبع من داخل المجتمع العربي وبالتالي تضفي الشرعية على سياسات السلطة تجاه حزب التجمع. كما يجب التنويه الى أن تعامل بعض القوى السياسية مع قضية عزمي ومستقبل التجمع في الإنتخابات القادمة ستكون لها أبعاد على المستقبل السياسي ليس للتجمع فقط وإنما لكل القوى السياسية العربية.

3. تصرف القيادة الحالية لهذا المشروع السياسي وإئتلافاتها وتحركاتها تشكل عامل مهم في تحديد مستقبل هذا المشروع. نحن نعي بأن حزب التجمع مع وجود عزمي لم يحظى بالدعم المتوقع من الجمهور فكم بالحري عندما أخرج عزمي خارج اللعبة السياسية المباشرة؟ ليس من المنصف أن نبت في إمكانيات ومستقبل القيادة الحالية من الآن. ولكن يجب أن نطرح التساؤلات حول قدرتها على حمل أعباء هذا المشروع إيصاله الى بر ألأمان في الظروف العاصفة الحالية ويجب أن نطرح تساؤلات حول ما هي نوعية الخطوات التي يجب إتباعها من أجل ضمان بقاء المشروع وما هي الإئتلافات والتعاقدات اللازمة لذلك. لا توجد لدي حلول جاهزة ولكن لا بد من تكريس الكثير من التفكير لهذا الموضوع خصوصًا ونحن نعي أهمية تواجد التجمع وبأننا نقترب من ساعة الصفر الإنتخابية بسرعة.
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

في مطلع سنوات التسعين طرح عزمي بشارة تحدّيًا كبيرًا أمام الدولة اليهودية: لقد نادى بتحويلها إلى دولة جميع مواطنيها. ومع أنه كان هناك من سبقوه ومن شاركوه في تصميم الفكرة، إلا أنه لا شكّ في أنّ من منح المبدأ أيضًا الأرضية الإنتلكتوالية المتينة، وخصوصًا الأرضية السياسية، هو بشارة. وقد كمنت أهمية المبدأ الكبيرة في القدرة على تحويل المعارضة عند الأوساط القومية في المجتمع العربي إلى قاعدة لنقاش شامل في أوساط الإسرائيليين-اليهود وفي أوساط العرب- على حدٍّ سواء. وعلى خلاف مثقفين آخرين الذين يكتفون بالكتابة، توجه بشارة، أيضًا، نحو تطبيق الموقف وتحويله إلى فعل سياسي، بدأ في المرحلة الأولى في إطار محاولة إقامة "ميثاق المساواة" كحركة عربية-يهودية مشتركة، وبعد فشل هذه المحاولة (التي لم تكن لتنجح في ظل الظروف التي سادت) توجه نحو بناء حركة عربية غيّرت وجه الخطاب في إسرائيل، وهي "التجمع الوطني الديمقراطي".

لم يكن طرح "دولة المواطنين" الخاص ببشارة شبيهًا بأنموذج (موديل) سياسي، بل وبالأساس موقفًا متحديًا ومعارضًا ضد تعريف الدولة القائم، الذي لا يكتفي بإقصاء الأقلية العربية منه، بل يسعى، فعليًا وباستمرار، ضد هذه الأقلية، عن طريق منظومات هدفها التهويد. وقد اُستُبدِلت المطالب السابقة بالحصول على المساواة بمطلب المساواة والمشاركة التامة في تعريف الدولة، من دون التنازل عن الوعي والموقف القومييْن.

لا شكّ، إذًا، في أنّ تثبيت هذا الموقف نجح في تغيير طابع الخطاب في الدولة. وكانت مسألة تعريف إسرائيل طُرحت في السابق من طرف الحركة التقدمية التي سعت نحو تغيير التشريعات وتعريف الدولة على أنها دولة الشعب اليهودي. والآن، حظي هذا الموقف بانطلاقة جديدة أكثر تبلورًا، حيث لم يعد تعريف الدولة مفهومًا ضمنًا، وتشهد على هذا أكوام الأوراق والمقالات التي كتبها مثقفون إسرائيليون، في السنوات الأخيرة، من أجل تبرير تعريف الدولة على أنها دولة يهودية وديمقراطية. إلا أنّه، ورغم هذه الحقيقة، يزداد تركّز الجمهور اليهودي، على أرض الواقع، في "الدولة اليهودية"، حيث تحول مبدأ يهودية الدولة، ولعظم المفارقة، إلى اللبنة الأساسية في "العملية السلمية". فهدف إسرائيل المعلن ليس في التوصل إلى تسوية تستند على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، بل الانسحاب من بعض المناطق سعيًا لضمان الأغلبية الديمغرافية اليهودية في الدولة. وهكذا، تُحوّل هذه العملية المواطنين العرب إلى أعداء. وبينما ينعكس هذا العداء في المناطق المحتلة على شاكلة "كانتونات" وجدران وحواجز ومصادرات، إلى جانب حكم ذاتي ينحصر أساس مهماتها في ضمان الأمن للإسرائيليين، فإنّ هذه العملية تعزز إقصاء المواطنين العرب، مرفوقة بتحريض غير مسبوق.

هذا هو أساس الحملة ضد بشارة شخصيًا وضد "التجمع" بأسره: سبب ذلك الوعي الإسرائيلي بأنّ أفكار "التجمع" آخذة في النهوض و اكتساب الزخم. وعندما اتضح أنّ هذه الأفكار قُبلت حتى من طرف الأحزاب المنافسة (التي لا تتورع عن الاستمرار في مهاجمة "التجمع" والتملق للقيادة الإسرائيلية)، برزت حاجة النخب الإسرائيلية في العمل ضد "التجمع" ومحاولة عزله، خاصة مقابل "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة". وقد أثبتت الوثائق المنشورة في السنة الأخيرة شكلَ قبول وتبني هذه الأفكار حيث تحوّلت، فعليًا، إلى أساس النقاش الدائر وسط الجمهور العربي برمته. وفي هذه الأثناء يُنظر إلى "التجمع" على أنه تهديد، وفي حال نظرنا إلى الواقع الإسرائيلي القومويّ الحالي، فإنّ السماح لـ "التجمع" بخوض للانتخابات، موضع شك كبير.
وبعد أن اتضح أنّ الدعوة إلى "دولة جميع مواطنيها" أثارت تحديًا عند اليهود، أيضًا، اتضح إلى جانب ذلك أن اليهود المُسمّون "بوست صهاينة" لا يقبلون الشق الثاني من الموقف، وهو الضروري كي يكتمل مضمون الموقف: الموقف القومي العربي ورؤية العرب في إسرائيل كجزء من الشعب الفلسطيني ومن الأمة العربية. هذه نقطة جوهرية لا يمكن من دونها التحدث عن المساواة، ولا يمكن الحديث عن دَمَقرَطة حقيقية. وبنظري، هذا هو التحدّي الحقيقي الماثل في موقف "التجمع" المزدوج. ومعارضة هذا الخط جسّدت أيضًا محدودية تلك الأوساط المُعرّفة كنقدية: منظومة "دولة المواطنين" البوست صهيونية تعتمد على دمج العرب في داخل الثقافة الإسرائيلية التقدمية، ظاهريًا. إلا أنّ هذه الثقافة، ثقافة تل أبيب، ترى في نفسها جُدّ تقدمية ولبرالية، إلا أنها في الواقع أجّلت تحدّي الاعتراف بالقومية العربية. ويتضح أنّ أولئك اليهود الذين يرون أنفسهم "لا يهود"، "بوست يهود" أو "أمميين"، لم يقبلوا حق الفلسطينيين بتقرير المصير، وبهذا نفوا، في الواقع، قدرتهم على المقاومة. ويبدو، وبالذات، أنّ اليهود الذين يتحملون مسؤولية يهوديتهم (أي يتحملون مسؤولية حقوقهم الزائدة كونهم يهودَ)، بوسعهم أن يقبلوا التعريف القومي الفلسطيني كشرط لأي تقدم. ونشوء مثل هذا الوعي، أي الوعي بأنّ دَمَقرَطة الدولة تُلزم اعترافًا بالحقوق القومية للفلسطينيين عمومًا، هو أمر حيوي في هذه الفترة.

عندما طرح عزمي بشارة فكرة "دولة جميع مواطنيها"، وقتها، بدا أنّ حلّ الدولتين لا زال واقعيًا. كان هذا في بدايات العملية السلمية، أو خلالها. وكانت أهمية هذا، في ذلك السياق، توضيح أنّ حلّ الدولتين هو جزء ليس إلا من الحل الحقيقي، ويمكن أن يحظى بمعنى فقط في حال احتوائه على نقاش يتطرق إلى المنظورات الأخرى الخاصة بمسألة فلسطين: مسألة اللاجئين، من جهة، ومسألة مواطني إسرائيل الفلسطينيين، من جهة أخرى. وحاليًا، تغيّر الواقع بشكل كبير، خصوصًا في ظلّ انهيار حلّ الدولتين كأساس لفضّ النزاع برمته. والدولة الفلسطينية التي يتحدثون عنها اليوم لا تشكل حتى مخرجًا للمصالحة، أو كما ذكر بشارة مؤخرًا: ليس لأنها لا تستند على اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بل لأنها تنكر هذه الحقوق. وفي هذا السياق، يتطلب إجراء تعديل على هذا الشعار، وبنظري فهي تغيّر أيضًا مهمة عرب 48 التاريخية: فإذا كان التوجّه السائد السابق يقضي بأنّ على الفلسطينيين في إسرائيل أن يسعوا للعمل والتصرف وفق المبادئ المتعارف عليها في "م.ت.ف."، فإنّ انهيار "م.ت.ف." وتحويلها إلى سلطة أدّى إلى تغيير ذلك بحيث صارت مهمة الفلسطينيين في إسرائيل استغلال وضعيتهم من أجل تثبيت الأسس المبدئية لكل تسوية: مبادئ العدل، تحقيق الحقوق القومية والمساواة. وفي الظروف الحالية، لم يعد ممكنا، مرة أخرى، الفصل بين الأسئلة: عندما يُعرض "السلام" في إسرائيل على أنه تحقيق لمبدأ دولة يهودية ذات أغلبية ديمغرافية، تنشأ الحاجة لوجود تحدٍّ مُكمّل.

وقد نشر بشارة، مؤخرًا، سلسلة من ثلاثة مقالات هامة يحلل فيها الوضع ويفككه، ومن الجدير أن تُوضع هذه المقالات في مركز نقاش متجدد. فهو يعرض إسرائيل في هذه المقالات كدولة صليبية تنشط وفق مبادئ متشابهة (مع أنها غير متطابقة) مع تلك الخاصة بالدولة الصليبية المسيحية التي قامت في العصور الوسطى، وعملت من أجل خلق علاقات مع الحكام اللوائيين. وفي ذات الوقت، يطرح الحاجة من أجل التعامل بجدية مع فكرة الدولة الواحدة، التي طرحتها مؤخرًا للنقاش سلسلة من المثقفين العرب واليهود، بأشكال وطرق مختلفة. ومن ضمن سائر الأمور، يورد بشارة ملاحظة حول أنّ الصيغة ثنائية القومية يمكن أن تكون أكثر راحة لليهود كونها تحتوي على بُعد من التعريف الذاتي القومي اليهودي المستقل.

وبودّي أن أدّعي هنا أن للصيغة ثنائية القومية أهمية أكثر وسعًا، لهذا السبب على الأقل: صحيح أنّ هناك من أسمع أفكارًا عن تسوية ثنائية القومية من بين يهود في المركز، مؤخرًا، إلا أنّ هذا لا يعني أن الكثيرين سيدعمون هذه المبادئ قريبًا. إلا أنني أرى في هذه الصيغة أهمية ليس لكونها تعريفًا لتسوية سياسية أيًّا كانت ("دولة ثنائية القومية")، بل كونها أساسًا دالاً للنضال. وتكمن أهمية هذه الصيغة في أنها تُموضِع القومية الفلسطينية والحقوق القومية الفلسطينية في مركز النقاش. وفي الواقع الحالي، وفي ظل سياسة إسرائيل بتحطيم الشعب الفلسطيني، تنصّ هذه الصيغة، وبما لا يقبل التأويل، على أنّ المسألة الفلسطينية هي مسألة واحدة وأنّ القومية الفلسطينية موحدة.

فكرة الدولة الواحدة هي، بطبيعة الحال، الرؤيا الوحيدة التي يمكن أن نحلم بها، إلا أنها تظل في ظل الظروف الحالية بعيدة المنال. وبنظري، تكمن أفضلية الصيغة ثنائية القومية في أنها تُمكّن أيضًا من توفير أرضية لنضال مستمر وأرضية لدمج نضالات الشعب الفلسطيني المختلفة، من خلال التطرق إلى كيان يهودي-قومي ومن خلال جاهزية للاعتراف بهذا الكيان شريطة أن يقبل بمبادئ العدل التاريخي والمساواة والديمقراطية.

وهناك من سيقول إنّ هذا الموقف يشكل تسوية من وجهة النظر الفلسطينية، كونها تتضمن اعترافًا بالوجود اليهودي-الإسرائيلي. إلا أنّ هذا الاعتراف يُلزم تغيير الوجود الإسرائيلي وتجريده من كولونياليته. وفي هذه الأثناء، يظلّ هذا الاعتراف الطريق الوحيدة للوقوف في وجه الدعاية الإسرائيلية التي تعرض كل من يعارض تعريف إسرائيل كدولة يهودية، عدوًا و"لا ساميًّا". وبكثير من التناقض، يصير الاعتراف بحقوق اليهود (ويحث لليهود التمتع بحكم ذاتي ثقافي-قومي...) الطريقة التي تمكن من طرح المطالب الفلسطينية العادلة. وفي ظل الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني معزولا، من دون دعم دولي يُذكر، حيث التفت اليسار أيضًا إلى مسائل أخرى، يُعتبر هذا الموقف نهجًا نضاليًا. لا يمكن تحقيق تسوية من دون مساواة قومية ومدينية، وهناك عدة طرق لتحقيق هذا الهدف. أضف إلى ذلك أنّ رؤيا الدولة المدينية، كما وردت في عدة وثائق، تتعامل مع هذه الدولة على أنها إطار منقطع عن المنطقة التي تنتمي إليها: طوباوية غربية مثالية لدولة ديمقراطية. وفي مقابل هذا، يُلزم الموقف ثنائي القومية، أصلا، بالتطرق إلى السّياق العام، وإلى أنّ شرط قبول إسرائيل هو نفي طابعها الصليبي واندماجها في المنطقة.

الطريق طويلة، وهذه في نظري الإستراتيجية المطلوبة من خلال تحليل عزمي بشارة. فهو يطرح من خلال تحليله النقديّ أمام إسرائيل، بالذات، الإمكانية الوحيدة لوجود يهودي مستقل في المنطقة. وبدلا من أن تقبل إسرائيل بالتحدّي فإنها تتعامل معه على أنه عدوّها وتلاحقه نتيجة لأفكاره ونشاطاته السياسية. ويمكن لبشارة أن يعود إلى إسرائيل، فقط في أعقاب اعتذار صريح: فإلغاء الاتهامات هنا لا يكفي، بل المطلوب الاعتراف بالمبادئ. ومن أجل هذا، هناك حاجة للسعي، ويجب الاستمرار في التوضيح والبلورة، حتى لو كان داعموه من اليهود في إسرائيل اليوم، أقلية. ومع هذا، أنا أومن بأنّ الأزمة العميقة التي يتواجد فيها المجتمع الإسرائيلي ستدفع بقسم غير قليل إلى الاعتراف بهذه الطريق.

يمكن أن ندّعي أنه لو كانت إسرائيل دولة صليبية، فليس لنا إلا انتظار نهايتها. ولكن، وكما يوضح عزمي بشارة، هذا صحيح جزئيًا فقط. الفرق كامن، أيضًا، في علاقات الدولة الصليبية-الصهيونية مع الغرب، وخصوصًا كونها مسلحة بسلاح نوويّ يشكّل تهديدًا على سائر المنطقة. إسرائيل لن تختفي قبل أن تلحق الدمار، ولذلك يجب نزع أسلحتها- الإيديولوجية والنووية. نحن في طريقنا نحو كارثة. ونأمل، في ظلّ الظروف القائمة، من بعض الأوساط العربية التي تتعاون في عرض "التجمع" على أنه "متطرف"، أن تستعيد صوابها، وأن تفهم أنّ محاولتهم التقرّب والتحبب إلى إسرائيليين مُعيّنين يُسهمان في ضياعهم.
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

سوف أتناول جزئية فقط من المساهمة الفكرية- الثقافية لعزمي بشارة، وتحديدًا في محوري هوية الفلسطينيين في الداخل، ومعيقات النهضة المرتجاة.

يبدو لي بشأن المحور الأول- سؤال الهوية- أن مساهمته، التي بلغت شأوًا متميزًا في أواسط التسعينيات وبالذات بعد انطلاق "عملية التسوية" في طريق لم تكن مشقوقة من قبل، كانت رائدة، لناحية تحليل عناصر الشخصية العربية في الداخل، التي رأى أنها شخصية تتنازعها عمليتان متناقضتان: الأولى كونها فلسطينية، والثانية عملية الأسرلة.

إنّ أهمية هذا التحليل استثنائية، علاوة على كونه تحليلاً ذا دلالات متعددة لعل أهمها ما يلي:
- أنه ثقب في حينه فكرة شائعة مضللة تقول إن "فلسطينيي الوطن أفشلوا تمامًا المحاولات الدؤوبة للمؤسسة الإسرائيلية الرامية إلى طمس هويتهم القومية أو إذابتها أو تشويهها".
- أنه لا يضع الرغبة بديلاً عن الواقع، كما فعلت ولا تزال تفعل قوى سياسية أخرى لغاية في نفس يعقوب.

- أن هذا التحليل على مستوى التشخيص شكل تُكأة لتطوير الرؤية الإستراتيجية والاستحصال الموضوعيّ، على مستوى المستقبل عامة، وفي المفارق التاريخية خاصة.
وفي الإمكان إيجاز النتائج المقصودة بهذا التحليل ضمن النقاط الرئيسة التالية:
أ. الأسرلة في حالة الفلسطينيين في الداخل نجمت في البداية نتيجة لإجراءات اغتصاب قسرية، غير أنها في ظروف اجتماعية- سياسية معينة يمكن أن تغدو جزءًا لا ينفصل عن الثقافة السائدة خاصة عندما لا تصبح ظروف المعيشة ظروف ضائقة (كما في الحالة العامة للفلسطينيين في إسرائيل، مقارنة مع غيرهم من قطاعات الشعب الفلسطيني خصوصًا في الضفة والقطاع). وعندما يرتفع مستوى الدخل ومستوى الاستهلاك يصبح "الاغتصاب" أمرًا مرغوبًا في اللاوعي- إن لم يكن في الوعي التام- ويبقى التمييز العنصري موضوعًا للإحصاءات الصحيحة عن الهوة بين العرب واليهود، لا أكثر. هناك فرق بين تمييز يحمل في طياته خطر الموت جوعًا وبين تمييز يتيح إمكان العيش في مستوى حياة لائق مقايسة بالماضي، ومقارنة كذلك مع الفلسطينيين في غزة وسائر المناطق المحتلة.
ب. لا تعني الأسرلة أن العرب في إسرائيل أصبحوا إسرائيليين قلبًا وقالبًا أو تخلوا عن ثقافتهم القومية، بل تعني حصول تغيير في ثقافتهم بصورة تتيح لها شرعية الدخول في الإطار الإسرائيلي، أو بمعنى أدق تشويهها.

جـ. سيرورة الأسرلة تتواتر، بين الفلسطينيين في إسرائيل، من غير منطق يحكمها... وعندما يتناقض واقع المنطق مع منطق الواقع لا مناص من تغيير المنطق أو العمل على تغيير الواقع.
د. اختيار الهوية الفلسطينية في معرض الإجابة على استبيان سوسيولوجي، من طرف الغالبية الساحقة من العرب في إسرائيل، هو أولاً ودائمًا وسيلة تسعفهم في المحافظة على التوازن النفسي أو الأخلاقي أو في ما يسمى بـ "التعويض الذاتي"، وربما الضميري، جراء الانخراط في حياة إسرائيلية. يجري التعبير عن ذلك من خلال المطالبة بالمساواة الجزئية في دولة إسرائيل التي جرى تشييدها على أنقاض الشعب الفلسطيني. وحتى هذه الوسيلة تتراوح بين مدٍ وجزر ارتباطًا بتطورات الواقع الفلسطيني الخارجي (في المناطق المحتلة والشتات)، مثلاً: حرب لبنان - الانتفاضة.

هـ. على مستوى العلاقة الداخلية الفلسطينية- الفلسطينية برزت من جهة حقيقة أن مواطنة العرب في إسرائيل تمنحهم حقوقًا وامتيازات أعلى درجات من حقوق وامتيازات فلسطينيي المناطق المحتلة. ومن جهة أخرى كانت هناك بوادر تشي بتبلور سياسة رسمية فلسطينية تميل إلى إضفاء جانب من الشرعية على وجهة تأسرل المواطن الفلسطيني في إسرائيل، والتي (الوجهة) ينظر إليها، على صلة بشرعنتها، باعتبارها وعاء/ أداة سياسية ضرورية لخدمة "عملية السلام" التي انطلقت في بداية التسعينيات، في علاقة طردية مع التطورات الإسرائيلية الداخلية.

و. طوّر الفلسطينيون في إسرائيل، حسبما يمكن ملاحظة ذلك في الآونة الأخيرة، أربعة أجهزة (وسائل) أساسية للتكيّف مع تناقضات حياتهم المذكورة. هذه الوسائل هي:
- التأييد غير المشروط للسلام الإسرائيلي- الفلسطيني، من خلال تجييش المواقف التي يتبناها الجانب الفلسطيني المخوّل.

- بعث الانتماءات الطائفية على المستوى القطري والحمائلية على المستوى المحلي.
- الانخراط في "الحوار الصهيوني" (من خلال الأحزاب الصهيونية).
- التبني التدريجي للمصطلحات والثقافة والعادات الإسرائيلية، من خلال وسائل الاتصال الإسرائيلية المختلفة.

هذا على مستوى التشخيص، فماذا عن الاستحصال؟
لقد رأى بشارة ما يلي:
1. أنّ تسوية المسألة القومية الفلسطينية، في إطار الحل المطروح دوليًا وعربيًا وفلسطينيًا وإلى حد ما إسرائيليًا على أساس "دولتين للشعبين" بجوار بعضهما البعض: إسرائيل وفلسطين، لن تؤدي إلى حلّ مشكلة هوية العرب الفلسطينيين في إسرائيل.
2. "الأسرلة" لا تعدّ خيارًا واقعيًا بالنسبة لهؤلاء العرب. ومهما تكن الأسباب الواقفة خلف ذلك فإن سببين منها لهما وقع خاص:
أ. "الأسرلة" لا تنطوي على حلٍّ للمشاكل المتعلقة بهؤلاء العرب بنتيجة المسألة الفلسطينية والصراع القومي مع إسرائيل.
ب. إسرائيل كما هو معروف ليست دولة للإسرائيليين وإنما دولة لليهود فقط. ومن هذا المنظور تعني الأسرلة دفع العرب، دفعًا أبديًا، نحو هامش المجتمع الإسرائيلي.
3. حلّ مشكلة العرب في إسرائيل (بما في ذلك سؤال الهوية) ممكن في إطار واحد من خيارين:
أ. إنشاء دولة ثنائية القومية.
ب. الاعتراف بهم كأقلية قومية في دولة تعرّف نفسها بأنها دولة لجميع المواطنين فيها.

لا يقل أهمية عن ذلك أن بشارة فتح العلاقة بين السياسة والثقافة على أفق الحوار، باعتبار ذلك شرطًا من شروط تحديث الوعي الاجتماعي، وإقرارًا بأن أي مشروع سياسي هو مشروع ثقافي بامتياز. ولذا فقد بقي مهجوسًا بالنهضة الثقافية، والذي جاء كتابه "طروحات عن النهضة المعاقة" بمثابة إنباء مدو به.
لقد رأى أن معركة النهضة ليست معركة حرية تعبير، وإنما معركة دفاع عن العقل ضد الخرافة، عن العلم ضد الجهل، عن التجريبية ضد الغيبية، عن النقد العلمي ضد العقائدية.
إن المعركة هي الدفاع عن صحة الرأي الصحيح لا عن "حق صاحب الرأي في التعبير عن ذاته، ولو كانوا لا يتفقون معه".
كما رأى أن معيقات النهضة هي معيقات اجتماعية ناشئة تاريخيًا، وليست عربية الجوهر، مركزًا على المحاور التالية:
- العلاقة مع الحداثة: نقد الحداثة في الغرب بمصطلحات ما بعد الحداثة عادة ما يستعمل كمبرّر لعداء التحديث في مجتمعات لم تبلغ الحداثة بعد كي تقفز إلى ما بعدها، كما في حالة المجتمعات العربية.
- الغيبية في السياسة، بما في ذلك الغيبية في "صنع صورة الآخر".
- مناقشة المتكلم هروبًا من مناقشة كلامه.
- الحرية هي جوهر الفكرة الأخلاقية في التنوير.
- الفكرة القومية الديمقراطية، والتي تعتبر بصمته المخصوصة أكثر شيء. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى توكيده أن الفصل بين المفهومين يجعل القومية شوفينية وسياسات هوية خاوية، كما أنّ غياب الوجهة الديمقراطية التنويرية للفكر القومي يؤدي إلى وجهة أخرى أصولية، لا تنأى عن الأصولية الدينية، من حيث نمط الوعي أو من حيث الإكثار من استثمار الخرافات والأساطير.
على أن بشارة لم يتوقف عند جوهر المعيقات الرئيسة للنهضة، وإنما تعدّى ذلك لمسح النماذج البشرية، التي تجسّد تلك المعيقات في الحياة والممارسة اليومية. إن تقديم هذه النماذج البشرية عادة ما يجري على قاعدة التعرية وسبر غور المكنونات، وصولاً إلى هتك الغلالة السميكة عن مسلكيات وقعت تبيئتها وظل وعينا غافلاً عنها حتى استحال إلى ما يشبه لاوعي يتحمل، بدوره، جانبًا من المسؤولية عن عدم محاصرة تلك النماذج. وهذا النسق من المسح ينطوي على موقف نقدي للكاتب يعتبر، في الآن ذاته، مساهمة في التحدي والمواجهة.
ويمكن أن نشير، بعجالة، إلى بعض هذه النماذج:
1. فئة المتعلمين الجديدة الساعية إلى استخدام التعليم كوسيلة للحُراك الاجتماعي، وتحويل "الشهادة الجامعية" إلى "خيار سياسي" أو "خيار اجتماعي"، مع ما يترتب على ذلك من تناء طوعي عن المجال الثقافيّ أو عن مجال الاختصاص والإنتاج الفكريّ.
2. "المثقف التمثيلي"، والذي يكرّس في واقعنا في الداخل معادلة "الباحث عربيًا" بدلاً من "العربي باحثًا"، وقد رأى بحق أن الهدف من وراء ذلك هو تحويل العلوم الاجتماعية إلى تابع على أجندة البحث الإسرائيلية.
3. الناقد الذي لا يستعمل أداة النقد استعمالاً صحيحًا.
4. الواشي.
5. الرخوي من ناحية الوازع الأخلاقي، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية، ومنها بل وعلى رأسها قضية قتل النساء على خلفية ما يسمى "شرف العائلة".
يمكن القول، من دون خشية الوقوع في المبالغة، إن مساهمات بشارة لا تزال وستبقى معينًا ثرًا في فهم واقعنا الاجتماعي، فضلاً عن واقعنا السياسي.
ولئن كانت المتغيرات السياسية تبدو سريعة برسم تبدلات الواقع السياسي، فإن المتغيرات الاجتماعية قد لا تتبدل سريعا في واقع اجتماعي معين.
لقراءة الكلمة من ملف pdf كما وردت في الملحق أنقر هنا

عام مضى على المنفى الاضطراري لعزمي بشارة، وما زالت الملاحقة السياسة للتجمع الوطني الديمقراطي مستمرة. فقد ظنت إسرائيل انها باستهداف بشارة تستطيع ان تضرب التيار السياسي الذي قاده والحزب الذي أسسه. وبعد ان اكتشفت ان التجمع بخير، وان الحرب ماض في طريقه ولم يحد عن دربه وعن مبادئه قيد أنمله. وبعد ان تبين لها، انه وبرغم الفراغ الكبير الذي تركه منفى عزمي بشارة، فإن التجمع تجاوز التحدي بكل قوة وعزيمة واستمر في العمل بهمة اشد وهامات مرفوعة، مستندا إلى قيادته وكوادره وجمهوره وإلى التفاف كل الوطنيين الشرفاء ووقفتهم المشهودة معه. بعد أن فشلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في ضرب الحركة الوطنية باستهداف قائدها، عزمي بشارة، لجئوا إلى الملاحقة السياسية المعهودة في محاولة بائسة لتخويف الناس من خلال التحريض ومن خلال استدعاء كوادر التجمع إلى التحقيق في المخابرات وتحذيرهم من النشاط السياسي ومن أي صلة مع بشارة.

إن الموجة الجديدة من الملاحقة السياسية التي يتعرض لها التجمع هي دليل على فشل المؤامرة التي حاكتها أجهزة الظلام الإسرائيلية ضد التجمع الوطني الديمقراطي. صحيح ان بشارة في منفى اضطراري، لكن المؤامرة عليه وعلى التجمع كانت اكبر من ذلك بكثير، فقد كانت تهدف الى زج بشارة في السجن بحيث لا يخرج منه حياً، وإلى القضاء على التجمع وضرب الحركة الوطنية. وهكذا ولأن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية محبطة من إخفاقها، عادت إلى أسلوبها المعهود، أسلوب ملاحقة كوادر الحركة الوطنية، وبهذا هم فاشلون حتماَ.
بعد مضي عام على المؤامرة، يتكرر السؤال لماذا استهدفوا بشارة وحاولوا تصفيته؟ إسرائيل، ببساطة، لم تعد تتحمل بشارة وما يمثله من فكر وسياسة، فلجأت إلى توجيه تهم أمنية خطيرة ضده، يعرف كل من يعرف إسرائيل انها صممت بغرض زجه في السجن بحيث لا يخرج منه. تمثلت المؤامرة ضد بشارة في تحويل التحديات السياسية والأيديولوجية التي طرحها الى قضية أمنية، كأنها ألغام فكرية، كأنها متفجرات سياسية.
عشية انتخابات عام 2003، جرت محاولة لمنع التجمع الوطني الديمقراطي وعزمي بشارة شخصيا من خوض الانتخابات. وعندما طرحت القضية في المحكمة العليا، عللت النيابة العامة،موقفها على لسان داليا ساسون، ممثلة المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية, وادعت ساسون عندها أن التجمع وبشارة يمثلان خطرا على الدولة كدولة يهودية، ومكمن الخطر هو مطلب المساواة الكاملة مئة بالمئة، الذي يتضمنه مشروع دولة الموطنين، الذي يعني إلغاء الامتيازات الممنوحة لليهود في دولة اليهود مثل قانون العودة ومكانة المؤسسات اليهودية وقضية الأرض وغيرها. قاطعها محامي الدفاع قائلا أن هناك الكثير من الأكاديميين في الجامعات يؤيدون فكرة دولة المواطنين ولا احد يطلب معاقبتهم. هنا ردت عليه داليا ساسون بأنه لا مانع لديها ولدى دولتها بأن يكون بشارة في الجامعة ويكتب ويقول ما يشاء، ولكن الخطر هو ان بشارة اسس حزبا وخاض غمار العمل السياسي والانتخابات واستغل منبر البرلمان للترويج لافكاره.

ما أثار المؤسسة الاسرائيلية ليس مطلب المساواة، بل تحويله الى مشروع مناهض للصهيونية توجهه بوصلة دولة المواطنين والتأكيد على الهوية القومية. ما ازعجهم في بشارة، هو انه مثقف عضوي بالمفهوم الغرامشي، خاض معمعان العمل السياسي والجماهيري، وليس مثقفا تقليديا يقبل على نفسه الانحسار في الدوائر الأكاديمية.
لو كان بشارة مثقفاً رخواً، وهو ليس كذلك، لما اقلفتهم أفكاره مهما كانت راديكالية بنظرهم.

وضع بشارة امام الدولة العبرية ثلاث تحديات، لم تحتملها فقررت التخلص منه. هذه التحديات هي التحدي الديمقراطي والتحدي القومي وتحدي التواصل والموقف من القضايا العربية. ولعل أهم مساهمات عزمي بشارة الفكرية الربط بين القومي والديمقراطي، وإن كان له مساهمات ذات وزن في كل منهما على حدة. وحين صاغ بشارة أفكاره على شكل مشروع سياسي متكامل واقتحم ساحة العمل السياسي به، أدى ذلك الى انقلاب حقيقي في الخطاب السياسي للعرب في الداخل، وكان تأثيره اوسع من إطار التجمع الوطني الديمقراطي، وحتى الخصوم السياسيين انبروا يقلدونه ويرددون أفكاره، دون الإفصاح عن مصدرها او الاستعداد للاجابة على سؤال من اين لكم هذا.

ولو ان المشروع السياسي لبشارة بتفاصيله المثيرة، يحمل مضامين عينية ومخصوصة، الا أنه وبكل تفاصيله يستند إلى المبادئ الكونية، التي يؤمن بها بشارة وتعتبر بوصلته الأساسية في كل نتاجه الفكري ونشاطه السياسي. وهذا ايضا اربك النخبة الإسرائيلية التي اعتبرت الديمقراطية والعناصر المكونة لها، ملعبها البيتي، وطالما استغلتها كسوط مسلط على رؤوس الشعب الفلسطيني والأمة العربية على اعتبار ان النهج الإسرائيلي هو "الديمقراطية الوحيدة"، وأن العرب هم اعداء الديمقراطية. جاء بشارة واستل السوط من ايديهم وحمله مدافعا عن قضية الشعب الفلسطيني العادلة, وعن حقوق الفلسطينيين في الداخل على وجه الخصوص.
وحين طرح بشارة التحدي القومي، فقد كان حريصا على وضع المحاذير اللازمة لمفهوم القومية كسياق للحداثة، واقفا ضد التعصب القومي ومفاهيم القومية العضوية، مؤكدا على القومية التي يدعو إليها هي تحررية ومتنورة ومنفتحة على الواقع والتاريخ. وصاغ بشارة التحدي القومي باتجاهين، مطلب الحقوق القومية وفي مركزها الحكم الذاتي الثقافي كخط مواجهة مع السلطة، وفي موازاة ذلك تنظيم الجماهير العربية كأقلية قومية متماسكة، لها قيادتها القومية ومؤسساتها الوطنية. هذا الأمر قض مضاجع السلطة الاسرائيلية، التي ترى في ذلك خطرا استراتيجيا على يهودية الدولة قد يؤدي إلى التحول نحو دولة ثنائية القومية.

لقد شب بشارة عن الطوق الذي عملت اسرائيل عقودا طويلة على فرضها على الفلسطينيين في الداخل كجزء من مشروعها لشرذمة الشعب الفلسطيني. بشارة لم "يحترم" الحدود التي رسمتها اسرائيل لما تسمح به او تحتمله في فضاء السياسة، وهو بنظرها قد قطع الحدود، لذا حاولت الانتقام منه وتصفيته. هي فشلت، لأن الحركة الوطنية مستمرة على دربها, وبشارة رغم المنفى، في قمة عطائه الفكري والسياسي. ونحن فخورين به، كما يحب أن نفخر به، كابن بار لشعبه الفلسطيني وأمته العربية، انطلق من مشاعر آلام الضحية وعذاباتها ليشق الطريق الصعب لضحية تتحدى مصيرها ولا ترضخ له.

قد يتفق البعض مع بشارة وقد يختلفون معه، لكن لا احد يتمتع بادنى حد من الاستقامة الفكرية، يستطيع التهرب من التعامل مع الاسئلة الكبرى التي طرحها. وعلينا ان نتذكر دائما ان طرح الاسئلة الصحيحة هو منتصف الطريق نحو الحل.



..(فيما يلي نص الكلمة التي كان يفترض أن يلقيها د.محمد أمارة في الندوة، إلا أنه لم يتمكن من حضور الندوة، لأسباب خارجة عن إرادته)

عام مضى على غياب عزمي بشارة عن المشهد السياسي الفلسطيني في إسرائيل في ظروف سياسية غير واضحة واتهامات صعبة للغاية، منها الأمنية ومنها المادية، ولحق ذلك تحقيقات مع مؤيدي التجمع وتحذيرهم من الاقتراب لبشارة "خوفا من تجنيدهم" لصفوف حزب الله (والحقيقة أنها عملية ترهيب من قبل المؤسسة الإسرائيلية). فغياب بشارة وعدم تأثيره المباشر على الحزب وعدم قيادته للحزب ولأول مرة منذ تأسيسه، وضعت حزب التجمع أمام تحديات هي الأصعب في تاريخه. فهذا الحزب ما زال يمر بأوقات عصيبة ومفصلية من الناحية السياسية والتنظيمية.

وللتاريخ نقول، إن الفكر الذي يمثله الحزب انتشر خلال العقد الأخير بين شرائح لا يُستهان بها من أبناء المجتمع الفلسطيني في الداخل. فبهذا يقدم التجمع حالة سياسية لحزب له حضور فكري، لكنه يواجه تحديات تنظيمية كبيرة، وهذا التحدي الأكبر أمام التجمع في تحويل حضوره الفكري لترجمة سياسية على ارض الواقع.

بدأت الهجمة السلطوية على عزمي بشارة ولكنها لم تنته هناك. فالملاحقة السياسية لقيادات عربية ولمؤيدي الفكر المتحدي للهيمنة اليهودية-الصهيونية ما زالت مستمرة وبوسائل متنوعة. فهنالك رقابة ومطاردة لكل من يجرؤ أن يتحدث أو يتحدى أو يناقش قضايا تتعلق بالدولة وجوهرها، أو يقدم خطابا سياسية مختلفا ومتحديا، أو يحاول العمل على تغيير الطابع اليهودي للدولة حتى بوسائل مسالمة أو ديمقراطية.

فالمؤسسة الإسرائيلية ترى بالفكر والنهج الذي يتحدث عن مواطنة جوهرية، والتأكيد على هوية قومية تحديا وإحراجا لها. وبدأ التأكيد على أن خطاب الفلسطينيين في إسرائيل يؤكد على أنهم أبناء هذا الوطن الأصليين وليسوا مهاجرين، بل ملتحمين بوطنهم عضويا، ونفسيا، وتاريخيا، وثقافيا، ولديهم رؤية واضحة للتواصل مع الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وخطاب واضح لقضاياهم الوطنية والمدنية، وتحول كل ذلك إلى أبجديات في الخطاب السياسي الفلسطيني بالداخل. فبدأت المؤسسة الإسرائيلية ترى أن هذا الطرح يهدد الدولة الإسرائيلية كدولة يهودية-صهيونية، ولذلك عليها اجتثاث هذه الظاهرة وإزالتها من المشهد السياسي الإسرائيلي، بكل الأساليب، حتى لو أدى الأمر إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية، بما فيها تدخل سافر للأذرع الأمنية في الدولة. وتعتقد المؤسسة بأنها بعمليات الترهيب والتخويف تعيد العرب إلى أيام الحكم العسكري، في محاولة جديدة لبناء "العربي الجيد"؛ أو العربي-الإسرائيلي المدجن والمفصل على مقاس الدولة اليهودية-الصهيونية.

كيف يستطيع التجمع في ظل هذه الأجواء الغائمة أن يواجه هذه التحديات الكبيرة؟ كيف له أن يتجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر وان يعطي نفسه فرصة تاريخية لاستمرار حضوره كقوة فاعلة في المشهد السياسي واستمراره في العمل السياسي بكل أشكاله؟

إذا أراد التجمع أن يتجاوز هذه المرحلة عليه أن يطرح بجرأة وبشفافية الإشكاليات الحالية التي يمر بها بعد غياب عزمي بشارة عن المسرح السياسي المحلي وان يقوم بعملية فحص معمقة، واتخاذ مواقف حاسمة وإجراءات لربما تكون مؤلمة. ومن التحديات التي على التجمع إعطاء الإجابات عليها والتعامل معها:

• التجمع ارتبط حضوره باسم عزمي بشارة، وبشارة ارتبط اسمه بالتجمع. هذا يعني أن هنالك من ارتبط بالتجمع سياسيا وفكريا وحتى انتخابيا بالتجمع بسببه. بمعنى سياسي، فان شخص عزمي وكاريزماتيته لها قيمة أساسية لمخزون التأييد الذي يحظى به التجمع. والسؤال، هل توظيف اسم بشارة وكل ما يحمله يشكل مخزونا مهما للتجمع اليوم؟ أم انه عبء على الحزب الذي أسسه؟ هل من الصحيح إبراز بشارة كمفكر عربي أم كمؤسس للحزب؟ الآراء اليوم متباينة، ولكن استطلاع بين مؤيدي الحزب سيعطي فكرة أكثر صدقا عن توجهاتهم.

• على الحزب أن يمتنع من أن تكون هنالك قيادة الخارج، ممثلة ببشارة، وقيادة الداخل، الممثلة بأعضاء الكنيست الحاليين وأعضاء آخرين بارزين في الحزب، لان ذلك سيؤدي إلى ازدواجية القيادة وتعطيل اتخاذ القرار الناجع وإفقاد القيادة الداخلية شرعيتها.


• المُنظر الأساسي للحزب هو عزمي بشارة. فمن خلال مقالاته، محاضراته، ولقاءاته في وسائل الإعلام صاغ وأرسى فكر التجمع محليا وعربيا، لا بل ساهم فكر عزمي بإعادة إنتاج الفكر القومي في العالم العربي من خلال طرحه للربط بين المواطنة، الديمقراطية والفكر القومي، فحضوره الفكري ليس محليا فقط بل عربيا، الأمر الذي عمق من التواصل بين الحزب والعالم العربي ثقافيا وفكريا وحتى سياسيا. على الحزب أن يبني استراتجيات وآليات للحفاظ على هذا البعد الهام ليس فقط من خلال بشارة.

• بسبب مركزية والكاريزما والحضور التي يتمتع به عزمي بشارة، لم تُعط الفرصة الكافية للشخصيات داخل الحزب بالبروز كقيادة تستطيع أن تملأ الفراغ الذي تركه في ظروف غيابه عن الساحة، وهذا أمر طبيعي في التنظيمات السياسية الحديثة، حيث يلعب القائد دورا مركزيا من خلال حضوره الكبير في منع بروز قيادات أخرى، بدون قصد، بسبب حالة البناء والتنظيم التي تفرض نفسها على الحزب، والتجمع بحاجة إلى تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة إفراز قيادات وبناء وإعادة بناء قيادات شابة وجديدة. طبعا بناء قيادات لربا سيستغرق وقتا ما، ولكن إعادة الهيكلة للقيادة الحالية وتعزيزها بشخصيات قريبة فكريا من الحزب ولها وزنها ومصداقيتها سيساعد الحزب على أن يكون متماسكا، وأن يسير في الاتجاه الصحيح لتجاوز المرحلة الحالية. على الحزب أن يقوي تنظيمه بحيث يستطيع هذا التنظيم القيام بإفراز قيادات جديدة بشكل دائم من خلال تراتبية تنظيمية سليمة، وفي نفس الوقت بناء تنظيم يستطيع الصمود أمام العواصف الحالية والمستقبلية بحيث يؤدي غياب الأشخاص (وخصوصا بالاعتقال) إلى بقاء واستمرارية التنظيم.


• عند نشأة الحزب كانت هنالك شريحة لا بأس بها من المثقفين أو الأكاديميين تدعم الحزب. ولكن لأسباب تاريخية وتنظيمية وسياسية ابتعدت عن الحزب. وفي هذه المرحلة الدقيقة يفتقد الحزب لمثل هذا الحزام الواقي. على التجمع أن يراجع ذاته في هذه المسألة. على التجمع أن يستقطب وجوها لها وزنها ومصداقيتها لتقدم الزخم والثقة للداعم والمتعاطف مع التجمع، وإضفاء الأجواء انه لا خوف على الحزب رغم المستجدات والظروف التي حلت به.

• فكر التجمع، دولة كل مواطنيها، في صدام مع الدولة، فلذلك ستراقب الدولة بعيون ثاقبة ما يدور بالحزب والمحاولة لإضعافه بكل الوسائل. الدولة تراقب بكل عيونها ما يدور بالشارع العربي-الفلسطيني في إسرائيل، وسيكون التجمع وأعضاؤه في هذه المرحلة هم المستهدفون. فعلى الحزب أن يني استراتجيات لمواجهة هذا الوضع الجديد، لكي لا يكون لا انحناء ولا انكسار أمام ضغوطات المؤسسة الإسرائيلية.


• لا شك أن ضغوطات المؤسسة موجهة للجماهير العربية برمتها والتي تراها المؤسسة بأنها عبء أمني وحتى البعض يرى بها تهديدا استراتيجيا للدولة. الأحزاب العربية لا تعمل سوية على مواجهة هذه التحديات، ولا توجد هنالك استراتجيات واضحة في هذا الشأن. فالأحزاب والحركات العربية في المدة الأخيرة تخفف من حدة الخطاب الموجه للدولة، إما بالتزام الصمت، أو عدم طرح قضايا تثير إشكاليات مع الدولة. بمعنى، أنها غير موافقة على نهج التجمع وان لم تقل ذلك علانية.

لا شك أن بعض هذه التحديات التي طرحتها تتطلب من الحزب فحصا داخليا جديا لنهجه وهيكلته التنظيمية. هل بعد مرور عام على غياب بشارة عن المسرح السياسي هنالك هيكلة تنظيمية وفحص معمق لنهج وبناء استراتيجيات وآليات لمواجهة التحديات؟

المراقب للأحداث، والأهم من ذلك الداعمون للحزب، لم يدركوا أن هنالك تغيرات جدية في الأمور المطروحة سابقا إلى الآن. ولم يشعر الإنسان العادي أو الداعم للحزب أن القيادة الحالية في ظل غياب القائد بشارة عن الساحة أن الأمور تسير في مسارها الصحيح وان الحزب لن يتأثر وسيجتاز نسبة الحسم في الانتخابات القادمة.

رغم الصعاب التي يمر بها التجمع، عليه أن يقوم بمشاورات مكثفة مع المقربين منه فكريا وأيديولوجيا، وحتى مع من يحملون فكره ولكنهم غير منظمين سياسيا، ومحاولة إقامة تحالفات سياسية وفكرية، وذلك لرص الصفوف، والتنسيق مع المجوعات الأخرى حول القضايا الجوهرية والامتناع عن الدخول في شخصنة المسائل. شخصنة الأمور في هذه المرحلة ليس من صالح أحد وخاصة التجمع.

أما على صعيد الدولة، طبعا مسألة المواطنة الجوهرية هي مسألة محسومة بالنسبة للتجمع، ولكن طرحها يجب أن يهدف إلى بناء شراكة حقيقة مع الأغلبية اليهودية، شراكة تحفظ للعرب كأقلية ماء الوجه وحقوقا تكون مستمدة من كوننا مواطنين أصلانيين وليس مهاجرين، أو كمنّة من أحد علينا. هنالك حاجة للتأكيد على أن الحوار الحقيقي، وان كانت الطريق طويل، هو الباب لبناء الشراكة. في هذا الحوار يجب أن يكون التأكيد على القيم الإنسانية والليبرالية في هذه المرحلة.

التعليقات