دير الأسد: نزيف مستمر ومتاهة تستصرخ الضمائر والقوى الحية في المجتمع..

-

دير الأسد: نزيف مستمر ومتاهة تستصرخ الضمائر والقوى الحية في المجتمع..
دير الأسد المتكئة على كتف الشاغور، والممتدة بقامتها على سفوح الجليل الأعلى شمالا، بأهلها العشرة آلاف، بطيبتهم ونخوتهم، ينزفون واقع البلدة الدامي. فغالبا ما يستعين أهلها بطرقهم الشعبية للتخفيف من وطأة وجعهم وحسرتهم لما آلت إليها حال البلد.

ومثلها مثل حال الكثير من أخواتها من البلدات العربية تترنح وسط نارين؛ تحت قهرية السلطة الرسمية وانسداد الأفق من جهة، وغياب المنظومات والمؤسسات المتآكلة وانعدام الرادع الذاتي والقانوني لدى قطاعات شبابية واسعة من جهة أخرى. كما تغزوها الآفات من مظاهر العنف والسموم وبعض أعمال القتل وعلى أتفه الأسباب أحيانا، كما هو واقع الحال في بلداتنا العربية الأخرى.

ويكتمل المشهد المؤلم في الغياب شبه التام لدور السلطات المحلية وترهل دور النخب والأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية، لدرجة تنعدم فيها الأحلام والآمال، ولا حتى ما يلوح في الأفق المنظور من فعل الشعوذة أو سحر الآلهة. كما أن منهم من يتجاسر على وجع ونزيف الحاضر بالالتفات إلى الخلف، لاستحضار أناشيد كتبت بحروف وأبجديات أخرى في زمن آخر دون جدوى. وهناك من يستعرض جهنمية التخريب المنهجي للسلطة وأجهزتها واستهداف الحركة الوطنية والثقافية في أوج عطائها، لاسيما أواخر الستينيات وأواسط السبعينيات، واستبدالها بوكلاء الأحزاب الصهيونية بما أوكل لهم من دور مريض في دفع الشباب للالتحاق بصفوف الجيش والشرطة ومصلحة السجون.

ويعود البعض من أهلها بحسرة ذاكرته وحنينه لأمجاد الماضي ليستعرض الصفحات المشرقة لبلدة انتصبت بقامتها ومكانتها حتى أواخر السبعينيات كقلعة وطنية وثقافية ريادية. وبعضهم يستحضر بوجعه صورة الرموز الثقافية والوطنية المناضلة، وأبرزها نسر فلسطين القيادي في الجبهة الشعبية سعيد صالح عبد الهادي أسدي "أبو صالح" الراحل في لبنان عام 1997، بالقول إن أسماء الشهداء وحدها هي غير القابلة للتزوير (أحلام موستغانمي). وقد قيل في تأبينه: "الغزلان تحب أن تموت بين أهلها، لكن النسور لا يهمها أين تموت.. ذلك الرجل الذي عاش يرصد أحلام العودة، ويحمل الوطن على كتفيه ويوحد بين فلسطين الذاكرة وبين فلسطين الحكاية اليومية، نزف إلى مثواه عين الحلوة وزف في دير الأسد بين أبنائه الذي أنجبهم وهو في المنفى مع زوجته الباقية في بلدتها دير الأسد، حتى تحول ذلك الإنجاب إلى أحجية ولغز لدى الاستخبارات الإسرائيلية، الأمر الذي استدعى الاستجواب والتحقيق المتواصل مع الزوجة التي فكت اللغز بقولها لمحققيها.. وللحكاية بقية أخرى مثيرة تحكيها رواية اللبناني إلياس الخوري في صورتها الملحمية التي تحولت إلى عمل درامي إبداعي يحكي الرواية و يوثق الحكاية..

ولرصد واقع الحال في هذه البلدة المثيرة كان هذا الفصل الميداني، والذي لم تكتمل فصوله بعد..
حين تذكر دير الأسد فإن هناك نكهة خاصة تعيدنا إلى قلعة رائدة نضالا وفكرا وثقافة وحياة، وتاريخها حافل بالثقافة والشعر والزجل. كانت تعقد فيها الندوات الثقافية والأدبية والشعرية والزجل الشعبي، ويتحدث فيها الشعراء عن دور الشباب الواعد، وعما حدث في البلدة بالعلم والأرض والإنسان.

كل هذا كان في الماضي في عهد المختار و بمبادرات أفراد وليس في عهد المجلس المحلي. وما أحوجنا اليوم لنزيل ما حل بالبلدة من تقهقر ثقافي اجتماعي رغم التزايد الهائل لحملة الشهادات، إذ أن هناك حادثة تذكرنا وتتردد في الدواوين، أن في إحدى القرى المجاورة حدث وكان الشاعر الشعبي المرحوم" أبو سعود الأسدي" في أحد الأعراس، ودار حديث بين الموجودين حيث قال أحدهم موجها الحديث لـ أبو سعود، الحقيقة أن كل يوم بطلع من بلدنا أربع - خمس سيارات مليانة بالصيادين بروحوا بتصيدوا حجل وغزلان، ورد عليه أبو سعود قائلا الحقيقة كل يوم بطلع من بلدنا أربع - خمس باصات مليانة بالطلاب، بتعلموا بمدرسة الرامة الثانوية..

ولو سألت اليوم أي رئيس مجلس سابق لاستعرض انجازاته حتى الاختناق، بل ستعتقد أن بلدنا متقدمة أكثر من جارتنا مستوطنة "كرمئيل"، لكن سرعان ما تكتشف الواقع المر..
وبطبيعة الحال ستتساءل حول المؤسسات والمراكز الثقافية؟
أقول لك بعد ثلاثة وثلاثين عاما من وجود المجلس المحلي، أتساءل أين القاعات الرياضية؟ وأين المراكز الثقافية؟ أين المكتبات العامة؟ وأين الملاعب؟.. الفريق الوحيد لكرة القدم يعاني الأمرين من شح الميزانيات وأماكن اللعب والتدريب. لكنك ستعلم بالتالي أن جميعها قيد التخطيط؟؟

وهنا ستعرف أن خيبة الأمل تكتمل مع المشهد الكارثي للبلدة من عمليات تخريب وحرق وتدمير وقتل، أحداث يخجل منها كل ديراوي حر وشريف. هذا رغم أننا كنا نتفاخر، ونفتخر أننا من دير الأسد..لكن إلى جانب هذه الصورة القاتمة فهناك بعض من يحرص على رفع شأنها. ولو بشكل متواضع، فهناك فرقة الأصايل للدبكة الشعبية وإحياء التراث الشعبي، وهناك نادي الشباب، كما أن هناك بعض الأدباء والشعراء ممن لهم باع طويلة بالإصدارات التربوية الثقافية والتعليمية. لكن كل ذلك أو أمام حجم الخراب هو غير كاف، ولن أشير إلى من هو المسؤول في السنوات الأخيرة، لكن ما ذكرت يضاف إليه سبب آخر وهو قولنا جميعا "وأنا ما لي "؟
في نجاحنا في أول انتخابات محلية عام 1976 والتي أتت بعد انتزاعنا القرار للتخلص من اللجان المعينة والزعامة التقليدية والتعصب العائلي، استلمت جبهة دير الأسد التقدمية برئاستي أول سلطة محلية منتخبة، وانطلقنا بالعمل بشكل جماعي ممثلين بكل العائلات، في حينه لم يكن عندنا إلا مدرسة ابتدائية واحدة، وأغلبية الغرف كانت مستأجرة، والبلدة تفتقر لكل مقومات البنية التحتية، أي أننا بدأنا من تحت الصفر مقابل حصار سلطوي حيث كان متصرف لواء الشمال "كبنغ" بوثيقته العنصرية الشهيرة يمارس ضغوطات ويستهدف المجالس والبلدات التي تقودها جهات تقدمية، لكن دير الأسد فوتت الفرصة عليه وانطلقت بموجة عمل تطوعي غير مسبوقة ولطبيعة البلد الطوبوغرافية استوجب هذا أعمالا كبيرة وشاقة جدا إلى جانب التجاوب والمساهمة الكبيرة من قبل الناس بما فيها النساء. وهذا بدوره ساهم في توحيد البلد وتعزيز الانتماء في أجواء من التآخي والسلم الأهلي.. كما قمنا بتأسيس بنى ثقافية تحتية وخلق حياة وحراك ثقافي. وكذلك الأمر من الناحية السياسية حيث شاركنا في كل نضالات شعبنا. واستمر هذا الوضع حتى عام 1983 وبدأ التراجع في ظل التدهور العام الذي يعود لأسباب خارجية وداخلية. وهناك كانت نقطة تحول على مستوى وجهة البلد وتغلغل المصالح الشخصية ومنطق السوق وانهيار الكثير من القيم والمعايير.

ويضيف: وباعتقادي أن هذا عمل منهجي تم بأدوات محلية، كما أن غياب القوى السياسية الفاعلة والفعاليات الثقافية إلى جانب المصاعب المعيشية، يجعل المظاهر المزعجة ومظاهر العنف تتفشى إلى جانب ظاهرة الالتحاق بأجهزة الجيش والشرطة لأسباب معيشية ووجود أزمة سكن. وهناك حالة من شبه اقتناع بأننا إسرائيليون، وهذه ظاهرة مزعجة نابعة من قلة وعي وتفكير. ونقول للشباب عودوا لمجتمعكم، أنتم بحاجة له وهو بحاجة لكم.
إن النهوض بالحياة الثقافية والاجتماعية يقف في رأس سلم أولوياتنا في الانتخابات البلدية المرتقبة.

ويضيف: "البلد تعيش أزمة ثقافية عميقة ومحزنة رغم الطاقات الكامنة والهائلة، لاسيما وأنها اعتادت أن تكون مركز إشعاع ثقافي ووطني على مر عقود خلت. هذه البلد ربت المبدعين من الموسيقيين والمثقفين والمناضلين الذين تحولوا إلى رموز، والشعراء أمثال محمود شاكر أمون، محمد أبو سعود الأسدي، وأبو غازي الأسدي، وأحمد صنع الله، والموسيقيين الشباب أمثال إياد وبشير الأسدي وسناء موسى، وعدد الخريجين الجامعيين، إلى جانب الدور الوطني الريادي البارز محليا وقطريا. ونستذكر في المناسبة أبو صالح سعيد عبد الهادي أسدي الذي برز دوره القيادي في الجبهة الشعبية، والشخصية الوطنية المؤثرة في أوساط حركة المقاومة الفلسطينية عموما، والذي ألقى بظلال مناقبه على وعي ووجدان الناس في البلد. لكننا نشعر بالحسرة والحنين لتلك الأيام، ناهيك عن أن إغلاق المركز الثقافي الصرح الوحيد في البلد الذي كان يعج بالنشاطات الثقافية النوعية ترك فراغا كبيرا، ليحل محله تسكع الشباب في الشوارع دون وجود أي اطر حاضنة أخرى ودون معنى. لكني مع ذلك متفائل، وربما ستتاح لنا فرصة أخرى في الانتخابات المحلية المرتقبة بعد فك الدمج والتي سنخوضها قريبا ليكون موضوع النهوض بالحياة الثقافية والاجتماعية على رأس سلم أولويات قائمتنا الانتخابية مع كل الغيورين الشرفاء في هذا البلد.
الثقافة الحقيقية لا ترضى عنها إسرائيل وكل ثقافة إبداعية حقيقية تتعرض للحصار من قبل المؤسسة فكم بالحري عندما تغيب المؤسسات والكوادر والنخب المحلية. وباعتقادي إننا يجب أن نعتمد على ذواتنا في تفعيل مؤسساتنا وأحزابنا ومؤسسات المجتمع المدني وهيئاتنا التمثيلية بما يليق بأقلية قومية. أذكر أنني عندما كنت اعمل في المحجر وأنوي كتابة قصيدة كنت استدعي أجيرا مكاني.. وفي ظل التمييز العنصري أقول إن الحقوق تؤخذ ولا تعطى وأن نترفع عن صراعاتنا الداخلية.دير الأسد محاصرة حتى الاختناق، عانت مصادرة معظم أراضيها، ومنها ما قامت عليها مدينة كرمئيل بالكامل، إلى جانب طوق المستوطنات المحيط بالبلدة. كما تعيش أزمة سكن خانقة ومعظم سكانها هم من العمال الأجيرين، ناهيك عن غياب منطقة صناعية وغياب الأرض أصلا لهذا الغرض، فالأزمة تكتمل في انعدام فرص التطور الاقتصادي والمعيشي وأزمة السكن والبطالة المتفشية وأزمة ثقافة وقيم مقارنة مع ما كان في السابق. أما بما يتعلق بالانتخابات المحلية المرتقبة فإنني لا أعول عليها لأن أفضل قائمة انتخابية لن تكون إلا عائلية حتى تلك الحزبية منها، وهذه بمجملها لن تعطي الإجابة الشافية لكل هذه الأزمات بما فيها ما تشهده البلد من أعمال تخريب وحرق وعنف في غياب للقانون....

التعليقات