الأزمة النفسية الناجمة عن الاعتداء الجنسي في ظل مجتمع ذكوري أبوي/ هُزام هردل *

لم تعد حماية النساء من الاعتداء الجنسي مجرد واجب أخلاقي وإنما حالة طوارئ ومسألة بقاء وطنية

الأزمة النفسية الناجمة عن الاعتداء الجنسي في ظل مجتمع ذكوري أبوي/ هُزام هردل *

إن خطورة ظاهرة الاعتداءات الجنسية لا تكمن فقط في حجمها، طبيعتها ومعدل حدوثها، بل فيما تولّده من مشكلات وخيمة وإسقاطات لاحقة على نفسية المرأة. وخطورتها لا تتمثل فقط بانتهاكها حرمة جسدها فحسب، بل بخرقها للنسق القيمي المجتمعي وبطمسها لكينونة نفسية فكرية قائمة.

إن اسقاطات الاعتداء الجنسي عديدة ومتعددة، تمسّ المستوى الشخصي، العائلي، المهني والتعليمي. وقد أكدت الأبحاث الأخيرة أن من شأن الاعتداء الجنسي أن يؤثر سلبًا على شخصية الناجية وعلى حالتها الجسدية والنفسية وكفاءتها في عملها. ولا غرو في ذلك، فانعدام الشعور بأمن الجسد وأمانه، مثيرٌ جدا للقلق والخوف، حيث يسبب تراجعا ملحوظا في القدرة على الإنجاز، العمل والمثابرة (يونس، 2005)، ومن شأنه أن يثير اضطرابات في العلاقات الأسرية (Boyd, 2011; Herman,1992)، وأن يجعل الناجية، في ظل إساءة تفسير ما حدث، فتلوم نفسها باعتبارها مسؤولة عنه، وهو ما يشير إلى تضاؤل ثقتها بنفسها وتدني تقييمها الذاتي في أعقاب تعرضها للاعتداء (يونس، 2005).

ما يهمني في مقالتي هذه، هو تسليط الضوء على الأزمة النفسية الناجمة عن الاعتداءات الجنسية، في ظل مجتمع ذكوري مبني على علاقات قوةٍ، يهمّش بحسبها النساء ويستضعفهن. كما وسأقوم بالتركيز على كيفية مساهمة هذا المجتمع في تفاقم الأزمة النفسية من خلال ادراجها تحت مسمّى "العورات الاجتماعية"، لا بل وفي تعزيز "غربة" المرأة وعزلتها في التعامل مع الصدمة النفسية الناجمة عن هذا الاعتداء.

تشير الأبحاث الأخيرة، إلى أنه في حالات تعرض النساء لاعتداءٍ جنسيّ صادم، فإن ذلك قد يزيد من احتمال إصابتهن باضطرابٍ نفسيٍّ شديدٍ، والمسمى باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD – Post Traumatic Stress Disorder)، وهو أحد اشكال اضطرابات القلق الناجمة عن التعرض لحدثٍ صادم (كالاغتصاب، حوادث طرق، عمليات خطف، أعاصير وكوارث طبيعية أخرى)، والذي يتمثل باستجابة متأخرة لحادثة صادمة ويسبب كربًا نفسيا شديدًا (الشربيني، 2007: 193).

تظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة الأولية بثلاثة أصناف مختلفة وهي: إحياء التجربة، التحاشي/التجنب، الإثارات الفسيولوجية ولوم النفس أو تذنيب الذات. إن استعادة ذكريات الصدمة وإحياء التجربة عند الناجية يكون على شكل تذكار صور من حادثة الاعتداء، مشاعر العجز التي شعرت بها، وأفكار مؤلمة حول مصيرها ومستقبلها، ولا تخلو هذه الحالة من الكوابيس المتكررة والأحلام المزعجة التي تؤرق نومها وتخيلات أمام عينيها وكأن الاعتداء يحدث من جديد. أما التجنب أو التحاشي وهو أحد الأعراض المركزية، فهي استجابات تجنبية لدى الناجية، والتي لم تكن موجودة من قبل، كتجنب الأماكن، الأشخاص الرائحة التي تذكّر بالحدث وتفادي التحدث عنها (Fortier et al. 2009).

يشكل التجنّب والامتناع مسألة مهمة وأساسية لدى الناجيات من الاعتداءات الجنسية، بكونه يتناول المصادر الخارجية للقلق (كالرائحة، حالة الطقس، الأماكن) وربطها بالمصادر الداخلية (كالعاطفة والحب والجنس).

أما عن الصنف الثالث، فهو الإثارات الفيسيولوجية، فهي تعرّف كحالات من فرط الاستثارة التي تصيب الناجية بعد تعرضها لصدمة الاعتداء الجنسي، والتي لم تكن موجودة عندها قبل الاعتداء، وهي أحد الأعراض المركزية لهذا الاضطراب، ومنها: صعوبات في النوم وشدة الأرق، اضطراب في الذاكرة وصعوبات التركيز، التشنج العضلي، ضغط الدم المرتفع، المبالغة في ردود الفعل، نوبات غضب شديدة وسلوكيات عدوانية (المركز الاسرائيلي لعلاج الصدمة).

إن لوم النفس وتذنيب الذات كأثر جانبي، وتواجده كحالة ثابتة ودائمة لدى الناجية، يدل على حالة اضطرابية شديدة (Markman, Miller & Hanley , 2007): "أنا المذنبة في كل ما حدث"، "لماذا لم أقاوم أكثر مما قاومت"، "لماذا لم أصرخ بصوت أعلى عندما اقترب مني". والذي يعززها أكثر هذا الفكر الذكوري المتعسف.

هذه هي الأعراض العامة والأولية لاضطراب ما بعد الصدمة، وهنالك أيضا أعراض أخرى مصاحبة وثانوية: كالقلق الشديد، الكآبة، الشعور بالدونية وأفكار انتحارية. تخلق هذه الأعراض المذكورة صعوبات في تأدية المهام والوظائف اليومية، وتعيق بصورة خطيرة روتين حياة من تنجو من الصدمة وحياة من حولها (يونس، 2005). غير أن هذه الأعراض طبيعية تمامًا في الفترة التي تعقب الحدث الصادم مباشرةً، وهي أعراض تتلاشى بالتدريج خلال الأسابيع والأشهر التي تلي الحدث. ويعرف الشخص المصاب باضطراب ما بعد الصدمة، اذا توفرت بضعة أصناف الأعراض بعد مرور بضعة أسابيع على الحدث، وإذا كانت هذه الأعراض تزداد شدةً بدلا من أن تتناقص مع مرور الوقت (كما يحددها دليل التشخيص الاحصائي DSM).

العوامل التي تؤثر على حدة الصدمة جراء اعتداء جنسي فهي: مدى توقع الاعتداء، ومن المعتاد أن تكون الحادثة الفجائية أعمق أثرًا وضررًا. مدة التعرض للاعتداء ومن المعتاد أن الاعتداءات المتكررة أشد ضررا، والخوف من التكرار هو نوع من أنواع اجترار الصدمة. نوعية الصدمات المرافقة للاعتداء هل الاعتداء مرافق بعنف وتهديد وهو الأشد ضررا (الخطيب، 2007). ان مسألة "الحفاظ على السر" تلعب دورًا هامًا ايضا في تحديد مدى حدة الصدمة، فالتذنيب الذاتي لدى المتعرضة، عدم تصديقها وتذنيبها، التهديد الذي تتعرض اليه المتعرضة من قبل المعتدي، عدم وجود بيئة داعمة ومُتيحة للمشاركة بهذه الصدمة، خوفها من التفكك الأسري بحالة كشف السر والمسؤولية الواقعة عليها في الحفاظ على تماسك العائلة قد يعطي الصدمة صيغةً أكثر تعقيدًا ويجعلها اكثر تأزمًا. فهي تفضل الحفاظ على هذه السر والتكتم عنه كي تختصر كل من التذنيب العائلي، الاجتماعي والمؤسساتي الذي يمكن أن تواجهه في هذا المسار المضني.

أما الاستجابة للصدمة النفسية فهي مسألة نسبية إلى حدٍ بعيد، فقد تتعرض امرأتان لاعتداء جنسي متشابه، إلا أننا نلاحظ اختلافًا في استجابة كل منهما. كما أن ردود الفعل للضغوط تتوقف على عدد من العوامل التي تتحدد في السياق التي تحدث فيه الصدمة، إذ أنه لا توجد علاقة طردية مباشرة بين التعرض للصدمة وحتمية اضطراب ما بعد الصدمة (الخطيب، 2007)، بمعني أنه ليس بالضرورة لكل إنسان يتعرض لصدمة اعتداء جنسي أن يطور اعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

للعلاج النفسي في مثل هذه الحالات من اضطرابات ما بعد الصدمة، أهمية فائقة لصحة المرأة النفسية، حيث تكمن أهميته في محاولة استعادة الثقة بالنفس وتقدير الذات، وفي التخلص من الأفكار السلبية التي ترافق المتعرضة، كما ويساعد الناجية على إعادة تركيب هوية "الآن" كهوية متماسكة أكثر وغير منوطة بحادثة الاعتداء وبوجود المعتدي. وعلى إعادة قدرتها على الحلم، الأمل والتفكير الإيجابي، وعلى استرجاع قدرتها على الطموح لمستقبل أفضل (Wiliams,1994).

إن إدراج الصدمة والأزمة النفسية ضمن تسلسل الأحداث في الذاكرة والوعي ومعرفة التعامل معها هي أحد الأهداف الأساسية للعلاج، بكونه يربط الشعور مع الأفكار والسلوك.

إن مجرد الاحتمال الوارد لكل امرأة بالتعرض لاعتداء جنسي قد يخلق واقعا إرهابيًا يهدد النساء عامةً، وذلك يعود لصعوبة الاعتداء كحدث صادم بحد ذاته، للأزمة النفسية الناتجة عن اعتداء جنسي ولنظرة المجتمع المستهينة والمستسهلة بأبعاد هذه الأزمة.

قد يلعب المجتمع الذكوري الأبوي دورا هامًا في مفاقمة أزمة الاعتداء الجنسي لدى النساء الفلسطينيات، ليس فقط بكونه مستهينًا بالأزمة النفسية الناتجة عن اعتداء جنسي، بل بتكاتفه مع المؤسسة الإسرائيلية التي بدورها تهمّش المرأة الفلسطينية ولا توفر لها الخدمات النفسية والمراكز العلاجية الكافية كي يتسنّى لها الخروج من الضائقة النفسية التي ألمّت بها.

إن هذا التواطؤ بين خدمات المؤسسة الإسرائيلية وبين المجتمع الفلسطيني المتبني لأنماط فكرية ذكورية قد يزيد من حدّة الأزمة النفسية وتفاقمها، وقد ينعكس هذا التواطؤ في تحميلها مسؤولية ما حدث، في عدم شرعنة أزمتها النفسية، كما وينعكس بشكل واضح في شُحّ الخدمات النفسية المتاحة لها في القطاع العام.

إن شح الخدمات النفسية المتاحة في القطاع الأخير لا يتمثل فقط في قصور بتأهيل طواقم علاجية ملائمة لمعالجة أولئك النساء، لا بل في السيرورة البيروقراطية المضنية المرافقة لذلك، حيث يتطلب من المتعرضة المكوث في قائمة انتظار طويلة ممكن أن تمتد قرابة عام كي تصل إلى المسار العلاجي النفسي الملائم. وإن وصلت، فإنها لن تجد معالجات/ين متحدثي لغة عربية ليقوموا بدورهم بتفهم سياق أزمتها النفسي، الاجتماعي والثقافي. أما على صعيد القطاع الخاص، فتكاليف العلاج النفسي لدى أخصائيين نفسيين قد تعجز المتعرضة عن دفعها، وتضطر عندها للّجوء إلى محاولة تجاهل الاعتداء وإنكاره نفسيا ليجعلها عرضةً للألم الصامت، المشاعر السلبية، فقدان الثقة بالآخرين كما ويجعلها عرضةً لتطوير شكل آخر من أشكال الصدمة، وهو الصدمة المركّبة (Complex Trauma) ((McLean & Gallop, 2003.

إن محاولات سلخ أزمة الاعتداء الجنسي وتجريدها من سياقها الاجتماعي - السياسي هي عملية واعية مدركة، والتي بدورها تزيد من حدة الأزمة وتجعلها مسألةً قابلة للطعن. وهي تمثل أحد امتدادات الفكر الذكوري، الذي لم يكتفِ من وقوفه صامتا حيال قضايا الاعتداءات الجنسية وتذنيب المتعرضة به، بل يقوم بالتنصل من مسؤولية دعمها واحتوائها وتوفير إطار علاجي يساعدها على استيعاب وهضم ما حدث. بهذه الطريقة، يبني هذا الفكر صيغةً جديدةً للأزمة النفسية، غير المعرّفة مضمونًا، السهلة الممتنِعة تنفيذًا، ويحمّل الوقت مسؤولية نسيانها للصدمة وتطويرها قدرةً على اجترارها.

تقع مسؤولية التصدي لظاهرة الاعتداءات الجنسية ومحاربتها على المجتمع بأسره، رجالًا ونساءً، كما وتقع على مؤسسات المجتمع الأهلي، المدني وعلى مؤسسات الدولة، التي بدورها قادرة على تعديل ميزان القوى.

إن تخاذل المجتمع الفلسطيني مع مثل هذه القضايا وتكاسله قد يزيد من تقاعس مؤسسات الدولة في اتخاذ إجراءات صارمة بحق المعتدي، وقد تخلق شرعيةً جديدة لعدم توفير خدمات نفسية ملائمة ومُتاحة. فمجتمعنا الذكوري، في أيامنا هذه، لا يساهم بتعزيز فكره عبر صمته وتكتمه عن ظاهرة الاعتداءات الجنسية، بل يساهم، بوعيِ وإدراك، في زيادة حدة الأزمة النفسية المتراكمة والحد من حق المرأة في العمل والتطور المهني والتعليمي، والأهم، في العيش بأمان وكرامة.
إن المتعرضة لاعتداءٍ جنسي، لا تتعرض لاعتداء جنسي وجسدي فقط، بل لاعتداء اجتماعيّ بنيويّ.

لم تعد حماية النساء من الاعتداء الجنسي مجرد واجب أخلاقي وإنما حالة طوارئ ومسألة بقاء وطنية، وهي مسؤولية عظيمة مشتركة بين الأسرة، المجتمع ومؤسساته الأهلية والمدنية. ولهذا، من واجبنا كمؤسسة اجتماعية داعمة تقديم يد العون والمساعدة للنساء اللواتي مررن، وما زلن، في مثل هذه الأزمة، ومن واجبنا التشديد على أنه مسؤولية الحد من هذه الظاهرة هي مسؤولية جماعية تقع على كل فرد من أفراد هذا المجتمع وعلى كافة مؤسساته. كما وندعو كل النساء المتعرضات لمثل هذه الأزمة لمشاركتنا أزمتهن عبر خط الطوارئ التابع لحركة السوار 8533044 – 04 لإيصال صوتهن ولتلقي الدعم والمساندة.

التعليقات