70 عاما على النكبة: إعدام الشيخ فرحان السعدي (8)

القصة الكاملة حول اعتقال ومحاكمة وإعدام الشيخ السعدي، كشاهد تاريخي على "عدالة" المحاكم البريطانية بحق الشعب الفلسطيني، تماما كما كانت "عدالتها" بارزة بروز الشمس، في تعاملها مع "أحلام بني صهيون"، على حساب شعبنا وأرضه وعرضه وتاريخه

70 عاما على النكبة: إعدام الشيخ فرحان السعدي (8)

أرشيفية

 "عدالة" بريطانية - قصة استشهاد الشيخ فرحان السعدي كاملة


بعد أن كتبت الحلقة الرابعة، والتي تحكي قصة اغتيال الجنرال أندروز، والتي ادعيت فيها أن منفذي الاغتيال لم يُقبض عليهم قط، اتصل بعض الأصدقاء، وقالوا لي إن إحدى التهم التي وُجِّهت إلى الشيخ الشهيد فرحان السعدي، كانت اغتيال الجنرال أندروز، بل إنها التهمة الرئيسيّة التي أدت إلى إعدامه، من قبل سلطة الاحتلال البريطاني، وذلك بعد مدة قصيرة، لم تتجاوز الشهرين، من حادثة الاغتيال.

بناءً عليه، قررت أن أفحص هذا الادعاء، خاصة أن محكمة الشيخ السعدي، كانت قصيرة جدًا بحيث لا يمكن أن تحتوي على تحقيق بشأن قضية كبيرة كقضية اغتيال حاكم الجليل.

هذه العجالة تأتيكم بالقصة الكاملة حول اعتقال ومحاكمة وإعدام الشيخ السعدي، كشاهد تاريخي على "عدالة" المحاكم البريطانية بحق الشعب الفلسطيني، تماما كما كانت "عدالتها" بارزة بروز الشمس، في تعاملها مع "أحلام بني صهيون"، على حساب شعبنا وأرضه وعرضه وتاريخه.

(تفاصيل المحاكمة أوردها بدقة لاحقا في هذه العجالة، كما وصفت في الصحف الفلسطينية الصادرة في ذلك الحين).

السيرة الذاتية للشيخ فرحان السعدي

هو من مواليد قرية مزار السعدية من منطقة جنين، وذلك عام 1858، تعلم القراءة والكتابة في الكتّاب والمدرسة الابتدائية في جنين، ثم أكمل تعلم الفقه في عكا.

كان مزارعا، يمتلك أربعة عشر دونما من البساتين، وعمل إمام جامع في بيسان، وهناك ابتدأ نضاله ضد الاستعمار البريطاني في بداية العشرينيات، وصار يحرض الأهالي في المسجد، على رفض إستيلاء اليهود على أراضٍ في الغور بجانب بيسان، بل حرض الناس في الأقصى في خطبة أحد أيام الجمعة عام 1921، على نفس الموضوع، مما تسبب بخروج مظاهرات جماهيرية، انطلقت باتجاه حي اليهود، ولكن الشرطة الإنجليزية منعتهم من الهجوم على الحي بالقوة.

عام 1929، أسس الشيخ فرحان السعدي، مجموعة مسلحة ناضلت ضد الإنجليز في انتفاضة البراق، وقامت بعدة عمليات عسكرية، فقبض عليه الاحتلال البريطاني، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، قضاها في سجن عكا وسجن نور شمس، علما أن الحكم صدر بدون اي إثبات أو دليل.

بعد خروجه من السجن، انتقل إلى حيفا للعمل فيها، وهناك التقى بالشيخ القسام في جامع الاستقلال، وانضم إلى العصبة القسامية، وأصبح احد رجالاتها المركزيين.

دور الشيخ فرحان في الثورة

بعد استشهاد القسام في موقعة أحراش يعبد في 20/11 1935 (أنظر الحلقة السادسة "اشتعال ثورة مجيدة" حيث تناولت هذه المعركة بإسهاب)، تولى الشيخ فرحان القيادة مكانه، في فترة تميزت بالملاحقة الشديدة لأعضاء العصبة القسامية، خاصة أن السلطات البريطانية عرفت أن مقاتلين مركزيين في العصبة، لم يشاركوا في موقعة يعبد، وبالأخص الشيخ فرحان، وذلك لأن الشيخ عز الدين القسام كان قد أرسله في مهمة أخرى، وصارت -أي السلطات البريطانية- تداهم القرى التي تعتقد أنه متواجد فيها.

ولما أشيع في أواخر عام 1935، في عيد الفطر أن الشيخ السعدي قضى فترة العيد في قرية نورس حيث يتواجد أهله، قررت سلطات الانتداب أن تفرض طوقا محكما على المزار ونورس، وأطلقت جواسيسها وشرطتها السرية، من أجل جمع أكبر معلومات عن الشيخ ورفاقه، ولكنها لم تنجح في الوصول إليه، واستطاع رفاق القسام أن يستمروا في نضالهم، وكان لهم دور كبير في الثورة العربية الكبرى، التي استمرت حتى نهايات العام 1939، والإضراب الفلسطيني العظيم، والذي استمر ستة أشهر، بل إن الشيخ فرحان السعدي كان قائد المجموعة التي نفذت عملية 15/04/1936 (كنت أيضا قد تناولتها بالتفصيل في الحلقة السادسة التي تحكي قصة بداية الثورة)، هذه العملية تعتبر الشرارة الثانية، بعد الشرارة الأولى التي أطلقها الشيخ القسام، في سلسة شرارات أدت إلى اندلاع الثورة.

 

خلال سنوات الثورة وقبل استشهاده، كان الشيخ فرحان السعدي قائدا لفصيل عنبتا - عين شمس، وكان له صولات وجولات ضد البريطانيين، وقد جرح في إحدى المعارك (معركة عين جالوت بتاريخ 09/06/1936) في ذراعه، ولكنه استمر في النضال حتى نهاية المعركة، مستعملا السلاح بيد واحدة.

أما أشهر المعارك التي قادها الشيخ فرحان السعدي، فهي معركة الفندقومية والتي حدثت على طريق نابلس وجنين قرب قرية فندقومية، وذلك بتاريخ 30/06/1936، إذ قام الثوار بنصب كمين لقافلة عسكرية بريطانية، وقاموا بالهجوم عليها بالرصاص الغزير، وأوقعوا فيها خسائر فادحة، بحيث أن البريطانيين اتصلوا لطلب النجدة، فجاءتهم نجدة كبيرة من مدينة نابلس ومدينة حيفا، حتى تجاوز عددهم الألفي جندي، مزودين بالدبابات والمدافع وعدد من الطائرات العسكرية.

هذا العدد الكبير من الجنود لم يثن الثوار أو يرهبهم، واستمر الاشتباك لمدة ست ساعات، انسحب بعدها الثوار إلى مواقعهم في الجبال. وقتل في المعركة أكثر من ثلاثين جنديا بريطانيا، واستشهد من الثوار ثلاثة، منهم الحاج محمود والحاج حسين.

ما بعد الإضراب الكبير

بعد انتهاءالإضراب العام الكبير في منتصف شهر تشرين أول/ أكتوبر 1936، وتوقف الثورة مؤقتا، طلبت اللجنة العربية العليا من الشيخ فرحان وعدد من رفاقه السفر خارج الحدود إلى العراق، منعا لاستمرار ملاحقة السلطات لهم، فعبر الحدود إلى شرق الأردن، ومن هناك إلى العراق مع خمسة وأربعين مناضلا من جماعة القسام. لكن الشيخ عاد للنضال بعد نشر اقتراح "لجنة بيل" بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب.

عادت الثورة بقوة أكبر مما كانت عليه في مرحلتها الأولى، إذ أن توصيات "لجنة بيل" بتقسيم فلسطين، أثارت غضب الجمهور الفلسطيني الذي قدم الكثير من التضحيات لمنع إقامة الوطن القومي لليهود، وزاد الغضب في الجليل بعد أن وضعت حكومة الانتداب الجنرال أندروز صديق الصهاينة وأكبر المتحمسين لمشروعهم، حاكما للجليل معلنة بذلك أنها لن تعدل عن مشروعها المعادي لشعبنا، ولذلك قام مجاهدو العصبة القسامية باغتيال أندروز في 26/09/1937، معلنين بداية المرحلة الثالثة للثورة، بعد مرحلة الهدوء النسبي بعد الإضراب (انظر الحلقة الرابعة: اغتيال الجنرال أندروز).

ثارت ثائرة بريطانيا، وصار تعتقل وتعذب بعشوائية وكثافة منقطعة النظير، وصارت تضيق الخناق على جماعة القسام وتلاحقهم في كل مكان، لاعتقادها أنهم المسؤولون عن هذه العملية، ولكسر شوكتهم لاعتقادها أنهم تجاوزوا كل الحدود المتعارف عليها، حيث اغتالوا رجل السلطة.

ولأن الشيخ الشهيد فرحان السعدي كان قائدا للعصبة القسامية، وظفت حكومة الانتداب كل جواسيسها وعيونها ومخابراتها وقواها الأمنية من أجل القبض عليه وبذلك تتخلص منه وتضعف العصبة.

اعتقال الشيخ فرحان السعدي

في الساعة الخامسة صباحا من 22/11/1937، فوجئ أهالي قرية المزار، والتي تبعد تسعة كيلومترات عن جنين، بقوات كبيرة جدا تتألف من ستين سيارة عسكرية محملة بالجنود، وعلى رأس هذه القوة حاكم منطقة نابلس، وقامت هذه القوة باغلاق مداخل ومخارج القرية، حتى جاءت قوات أخرى من حيفا وعكا والناصرة، وكانت هناك ثلاث طائرات تحلق في سماء القرية للمراقبة، ولتفادي أية مفاجأة أو التبليغ عن خارج أو هارب منها.

كانت هذه القوات تقوم بالبحث عن الشيخ فرحان السعدي وبعضا من رفاقه، إذ وصلتهم إخبارية أن الشيخ ورفاقه متواجدون في القرية، ويقال إن الواشي كان قريبا لشخص عميل قام رجال الثورة بتصفيته.

دخل إلى القرية مساعد حاكم اللواء ومدير بوليس نابلس وجنين، مع هذه القوة الكبيرة التي فاجأت أهل القرية، وطالبوا المختار بالتوجه للشيخ فرحان من أجل تسليم نفسه، وإلا هدموا بيت شقيقته، التي كان نائما عندها، فوق رأسه ورأس أصحاب البيت، وحفاظا على أرواح أهالي القرية.

توجه المختار إلى بيت شقيقة الشيخ فرحان، وطالبه بتسليم نفسه، وإلا وقعت كارثة كبيرة، فوافق الشيخ حفاظا على حياة الناس وأهالي القرية، وخرج من مخبئه وسلم نفسه، هو وثلاثة من رفاقه، وهم: أحمد محمد السعدي من قرية المزار، أحمد حسين القاسم السعدي من قرية جلقموس، حسين محمد حسين من البطيمة قضاء غزة.

ضبط الجيش (حسب بيانه الرسمي)، أربع بنادق وأربعة مسدسات، وألف وخمسمائة عيار ناري.

قامت قوات الجيش بعدها بإرسال الشيخ فرحان إلى سجن عكا مع قافلة عسكرية كبيرة، أما رفاقه الثلاثة فأخذوا إلى سجن جنين حتى المحاكمة.

وعندما قام الضباط بسؤال الشيخ عن رفاقه الآخرين، قال إنه لا يعرف عنهم شيئا، ولذلك قامت القوات بإجراء تفتيش دقيق للبيوت واعتقلت خمسة عشر شخصا ليسوا من القرية للتحقيق معهم، ووضعت إشارات على ستة بيوت من أجل هدمها، وكذلك صادرت فرس الشيخ فرحان.

ما قبل المحاكمة

أعلن الجيش في بيانه عن اعتقال الشيخ فرحان أن محاكمته ستتم يوم الأربعاء الموافق 24/11/1937 في محكمة حيفا.

في اليوم الذي يسبق المحاكمة، صارت حيفا تزخر بالوفود القادمة من مختلف أنحاء البلاد، خاصة اللواء الشمالي، وكلهم يريدون الاطلاع على تفاصيل محاكمة الشيخ الفضيل. كما وأن كافة ممثلي الصحف والجرائد العربية والأجنبية وصلوا إلى حيفا، وعقدوا اجتماعات عديدة فيما بينهم، وقرروا أن ينسقوا ويتعاونوا جميعا، حتى يستطيعوا تغطية هذا الحدث الجلل.

أما الشرطة فقد كان رجالها في توتر كبير، ولذلك تم في نفس الليلة التي سبقت المحاكمة، إجراء عدة اجتماعات على مستوى عالٍ من أجل ترتيب الوضع الأمني في المدينة.

منذ الصباح الباكر من يوم المحاكمة توجهت الوفود الكثيرة إلى شارع الملوك، حيث أن المحاكمة ستعقد في احدى شقق البناية رقم 61، التي يملكها عزيز ميقاتي.

ومنذ الساعة السابعة صباحا، قدمت إلى المكان قوة كبيرة من الشرطة، للحراسة وتسيير حركة السير المزدحمة، ومنع الناس من الاقتراب إلى المحكمة، وكذلك تواجد الكثيرون من رجال المخابرات والتحري واندسوا بين الجماهير الغفيرة التي قدمت لتودع الشيخ فرحان السعدي.

كان قد تقرر أن المحكمة ستنعقد في الساعة التاسعة والنصف، ولذلك منع الصحفيون من الدخول إلى المحكمة قبل الموعد المحدد، رغم التواجد الكبير والذي لم يكن له مثيل من قبل.

المطر الذي ابتدا يتساقط لم يمنع الناس من الاستمرار في انتظار الشيخ، الذي وصل بعد الساعة الثامنة بدقائق معدودة، على متن سيارة سجن مصفحة كل شبابيكها مقفلة، وأمامها سارت سيارة شحن مفتوحة، وعليها مدفع رشاش، وخلفها سيارة بوليس كبيرة تحمل الكثير من رجال الشرطة الإنجليز المسلحين جيدا، بالاضافة إلى مدفع رشاش كان منصوبا على هذه السيارة.

وصول الشيخ فرحان وأعضاء المحكمة

عندما وصلت هذه السيارات إلى المحكمة، ترجل عدد من أفراد الشرطة من سيارة السجن، ونزل بعدهم الشيخ فرحان، وهو يسير مرفوع الهامة، لا ينظر إلى جوانب الطريق، باديا عليه التعب والإرهاق، وفِي محياه الكهولة المهيبة، يرفع قيد رجليه بيده اليمنى، حيث أن القيود الحديدية كانت تثقل يديه ورجليه، واستمر الشيخ في سيره حتى اختفى عن أعين المارة داخل البناية 61.

بعد الساعة التاسعة بقليل، حضرت الى المكان ثلاث سيارات جيش مملوءة بالجند، قادمة من معسكر "بيت چاليم"، وإلى جانب كل سائق لهذه السيارات، كان يجلس أحد أعضاء المحكمة، وهو يحمل ملفا صغيرا، في الأولى جلس اللوفتنانت لندل من ضباط فرقة "ڤيرست إيسكس"، وفِي الثانية جلس الميجور فوكس رئيس المحكمة ومن ضباط فرقة "سكند همشيرز"، وفِي الثالثة كان الكابتن جونس من فرقة "سكند ايست يوركشير".

ترجل الضباط الثلاثة، ودخلوا ‘لى البناية ترافقهم حراسة مشددة.

ثم دخل بعدهم محامو الدفاع، وهم الأساتذة حنا عصفور ومغنم مغنم و يوسف صهيون ومحمود الماضي وفؤاد عبد الهادي، وكان ذلك في الساعة التاسعة والنصف تماما.

وتبعهم الصحفيون، وامتلأت المحكمة بهم، ولَم يبق مكان للجمهور، وكان من الصحفيين العرب السادة: سهيل زكا ويوسف سلوم ويحيى زكريا وجورج خوري وصبحي عبد الخالق وشوكت حمّاد، يمثلون صحيفة "فلسطين" و"الدفاع" اليوميتين و"المبطن" و"الجهاد" و"الأحرار" و"النهار" وباقي الصحف الفلسطينية والعربية. أما الصحفيون الأجانب فمثلوا شركة "روتر" التلغرافية و"اليوم" الأميركية و"أسوشيتد برس" و"يونايتد برس" وشركة "راوند وورلد" الأميركية البرقية و"الديلي إكسبرس" اللندنية.

أما المترجمان فكانا السيد بطرس بوزو من يافا الذي يترجم للعربية، وماير من عيون قارة مترجما للعبرية.

أما ممثل النيابة فكان مستر نوري الذي جلس وأمامه بعض الملفات، وكتاب قانون ضخم ومسدس كبير موضوع بحزام جلدي نظيف.

وقائع المحاكمة

في تمام الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والخمسين، دخل فضيلة الشيخ فرحان إلى قفص الاتهام في المحكمة، وكان الشيخ طويل القامة، أسمر الوجه، عيناه سوداوان، تتدفق منهما الحيوية والإشراق من وجهه، لحيته كثة بيضاء فيها بعض الشعرات السود. كان الشيخ يرتدي قمبازا أبيض مائلا إلى الصفرة، مقلما بأقلام سوداء عريضة، وفوق القمباز يرتدي جاكيت زرقاء اللون، واسعة الأكمام على حواشيها تطريز باللون الأسود، وفوقهم يرتدي عباءة نجدية صوفية رقيقة حمراء، وعلى راْسه كوفية بيضاء نقية، وعليها عقال أسود.

كان الشيخ رابط الجأش وقوي النفسية، صابرا لا يتأوه أو يشكو أو يتذمر، لا يلتفت يمنة أو يسرة إلا عندما ينظر إلى المحامين.

بعد أن دخل الشيخ إلى المحكمة، صاح شرطي بريطاني "محكمة"، فوقف الجميع، ودخل الرئيس والعضوان وجلسوا في أماكنهم، الرئيس في الوسط، ولندل من اليمين، وجونس من اليسار. بعدها جلس الجميع، وكان الشيخ أول من جلس.

وبعد أن أقسمت هيئة المحكمة اليمين، شرح الرئيس عن تأليف المحكمة وأعضائها وصلاحياتها، وطلب من ممثل النيابة أن يقدم دعواه.

قرأ الضابط ممثل النيابة التهمة: "فرحان السعدي، الفلسطيني الجنسية، المسلم المذهب، متهم بحمل الأسلحة النارية والذخيرة الحية بخلاف ما جاء في أنظمة المحاكم العسكرية، نظم الدفاع عن فلسطين رقم 10 من سنة 1937. القضية واضحة وضوح الشمس، وسماع الشهود ليس إلا من قبيل التكرار، وأنا على استعداد إن استدعي شهودي إن لزم ذلك".

وقف الأستاذ حنا عصفور المحامي معترضا: "قبل أن نبدأ في المحكمة، أو سماع الشهود، أودّ أن أعترض وأعترض بشدة، فالمتهم ما زال متهما ولَم يحكم بعد، ولَم تثبت عليه التهمة أيضا، وهو موجود في حرم المحكمة وفِي قفص الاتهام، ومع ذلك ما زال مقيدا بالسلاسل وهذا منافٍ للتقاليد المرعية".

الرئيس: "اعتراضك مرفوض"، ثم يتوجه إلى الشيخ: "شيخ فرحان هل انت مذنب أم لا؟".

الأستاذ محمود ماضي: "غير مذنب".

الرئيس: "من هو المحامي الرئيسي؟"

الأستاذ عصفور: "محمود أفندي الماضي"

وهنا طلب الرئيس إدخال الشاهد الأول.

الشاهد الأول، كما الشاهد الثاني، هو ضابط بريطاني، شارك في اعتقال الشيخ، وهو شاهد دعاه ممثل النيابة، وقام هذا الشاهد (وكذلك الثاني) بوصف اعتقال الشيخ فرحان يوم 22/11، حيث قاموا بتفتيش بيت ديب ونهار عبد الله، وإذ كانوا يفتشون البيت قام أحد الجنود بهدم أحد جدران الخابية، وهنا استطاعوا الوصول إلى الشيخ فرحان الذي سلم نفسه طواعية وبدون مقاومة، وكان يحمل مسدسا بيده اليسرى، ألقاه أرضا عندما طلب منه ذلك. تعرف الشاهد الأول على الشيخ، وعلى المسدس وهو من نوع "ماوزر". وكذلك ادعى أنه سأل الشيخ إن كان لديه بندقية، وأجاب أن لديه أربع بندقيات.

كل اعتراض قدمه محامو الدفاع، رفض من قبل الرئيس. وانهى الشاهد الأول شهادته في تمام الساعة 10:25.

عندما قام محامو الدفاع باستجواب الشاهد الأول، وكان دفاعهم مبني على أن الشيخ لم يستعمل السلاح عند اعتقاله، وكان باستطاعته الهروب ولَم يفعل. ممثل النيابة اعترض مرة أو مرتين على أسئلتهم وقبل الرئيس اعتراضاته. واستمر الاستجواب خمس عشرة دقيقة فقط، فنزل الشاهد عن المنصة في تمام الساعة 10:40.

شهادة الشاهد الثاني كانت مشابهة لشهادة الأول، وأيضا حاول الدفاع أن يثبت أن الشيخ فرحان كان بحوزته سلاحا، ولكنه لم يستعمله من أجل مقاومة الاحتلال، وانتهت الشهادة في تمام الساعة 11:28، وهنا طلب محامو الدفاع تأجيل الجلسة لمدة عشر دقائق، وافق عليها الرئيس.

استؤنفت المحكمة في تمام الساعة 11:40، ووقف الأستاذ مغنم مغنم، أحد محامي الدفاع، وقال إنه "ليست هناك قضية في التهمة ذاتها، لأن الشهادات التي أدليت لم تؤيد حمله السلاح، بل إن التهمة يجب أن تتحول إلى حيازة السلاح، وشتان بين هذا وذاك، والقانون الذي سن يميز بين حمل السلاح وحيازته"، ثم استرسل وأتى بعدة أمثلة للدلالة على الفرق، وأن الشيخ سلم نفسه طواعية بدون أن يستعمل السلاح، ولذلك طالب المحكمة بتغيير التهمة من المادة 8ج إلى 8ب. انتهت المرافعة في الساعة 11:50 تماما.

تداول أعضاء المحكمة بعد المرافعة، ثم سأل الرئيس إن كان هناك شهود دفاع، فطلب المحامون تأجيل الجلسة حتى يأتوا بالشهود، فرفضت المحكمة ذلك، بعد مداولة قصيرة.

اعترض المحامون على ذلك، وجرت نقاشات لعدة دقائق، ولكن الرئيس أعلن نهاية الجلسة، وذلك في الساعة 12:00 تماما.

بعد عدة دقائق، عاد أعضاء المحكمة إلى أماكنهم، وسأل الرئيس إذا كان الشيخ يريد أن يدلي بشهادته، ولكنه رفض ذلك.

بعدها ترافع الدفاع وعرض موقفه، وقال أمام المحكمة إن الشيخ قد تجاوز الثمانين، وإنه من عائلة محترمة، وإنه لم يهرب عند اعتقاله مع أنه كان بإمكانه أن يفعلها، وكذلك لم يستعمل السلاح، وطالب بتخفيف العقوبة. انتهت المرافعة عند الساعة 12:15 تقريبا.

أما ممثل النيابة فقد قال إن سن المتهم لا يجب أن يشفع له، لأنه شبع من الحياة، ورجل في مثل سنه لا يجب أن يرتكب الذنوب. أنهى هنا تعليقه، فأعلن الرئيس نهاية المحكمة وذلك عند الساعة 12:20 تماما.

عند الساعة 12:45، عادت المحكمة إلى الالتئام، ونطق الرئيس بالحكم: "لقد وجدت المحكمة أن المتهم مذنب، وحكمت عليه بالإعدام شنقا، غير أن الحكم لا ينفذ قبل أن يصادق عليه القائد العام لقوات جلالته في فلسطين وشرق الأردن".

ترجم المترجم الحكم للشيخ فرحان، فتلقاه منتصبا على قدميه، مثل أي شخص عادي يسمع عن حكم بالإعدام، وسار بخطواته المتزنة نحو باب الغرفة التي احتجزوه فيها، مرفوع الرأس، ينظر إلى السماء مستبشرا، ومن هناك اقتيد بالسيارة إلى سجن عكا.

وهكذا استمرت المحاكمة ساعتين وخمسين دقيقة، بما فيها الاستراحات التي كانت مدتها أكثر من خمسين دقيقة تقريبا، وهذا يعني أن المداولات والمرافعات والترجمة وكل شيء، استمر أقل من ساعتين، وهذه "عدالة" بريطانية بامتياز، ما بعدها عدالة.

تنفيذ الحكم

في اليوم التالي، الخامس والعشرين من شهر تشرين ثانٍ/ نوڤمبر، وفِي ساعة متأخرة من الليل، صادق الجنرال وافيل، قائد القوات البريطانية في فلسطين، على حكم الإعدام، الذي صدر بحق الشيخ فرحان، وتقرر أن ينفذ الحكم يوم السبت الموافق 27/11/1937، في الساعة العاشرة صباحا في سجن عكا.

نُفِّذ الحكم في تمام الساعة الثامنة من اليوم الموعود، وكان الشيخ مبتسما، رابط الجأش عند تنفيذه. وردد الشهادتين، رافضا أن يضعوا قناعا على وجهه، وواجه مصيره بكل هدوء وطمأنينة.

استشهد السعدي مقتنعا بوجوب الشهادة في سبيلل الوطن، كان مستعجلا على لقاء رفيقه الشيخ عز الدين القسام الذي سبقه بسنتين إلى الشهادة. وكان صائما، يوم اعتقل وحوكم وأعدم بتاريخ الرابع والعشرين مِن شهر رمضان.

وكان لإعدام الشيخ الجليل الأثر الكبير في إشعال الثورة الفلسطينية، من جديد، وبقوة أكثر مما كانت عليه سابقا، واستمرت بعده لسنتين إضافيتين.

التعليقات