فوق رحمة العُبوة

لا تظلّ الأدوات المستخدمة في الجريمة مجرّد أداة لها، ففضلا عن دورها في إعادة تشكيل الجريمة وصُنعها، فإنّ الأدوات قد تتحوّل إلى هدف بذاته، تماما مثلما هي الضحيّة هدف بذاتها

فوق رحمة العُبوة

انفجار مركبة في اللد، أسفر عن مقتل شخص، العام الماضي

تعمل أدوات الجريمة على إنتاج وحشيّتها، أكثر مما تفعل دوافعها. وفيما نحن أمام مئات الجرائم التي صارت تُعرف بالجريمة المنظَّمة في المجتمع العربي داخل الأراضي المحتلة عام 48 منذ سنوات، ما يزال يُسجَّل قسم كبير منها ضدّ "مجهول". ونجهل في قسم كبير منها كذلك، الدافع لاستهداف معظم ضحاياها، إلا أن أدوات الجريمة المستخدمة في تنفيذها واضحة كل الوضوح.

وإذا لم تعُد الجريمة والسلاح المستخدم فيها خبرا، فإن تصاعد وتيرة القتل بتفخيخ مركبات الضحايا وتفجيرها بعبوات ناسفة، يبدو مربكا، لا بل مرعبا. كما بات خبرا يُحيلنا إلى التحوّل الوحشيّ في شكل الجريمة المتمثّل في أدواتها، لا دوافعها فقط.

في آذار/ مارس الماضي، نُشر في أكثر من صحيفة إسرائيلية، أكثر من تقرير متّصل بتحوّلات الجريمة وأدواتها في المجتمع العربي، وتحديدا تلك الناجمة عن تفجير سيارات بعد تفخيخها بعبوات ناسفة، من بينها تقرير بالعبرية جاء تحت عنوان: "أقل مُخاطرة وأكثر قَتلى (ترجمة عن العبرية)"، نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 27 آذار/ مارس الماضي، ورد فيه أنه وخلال عام واحد، ما بين آذار سنة 2021 وآذار 2022، تم استخدام 19 عبوة ناسفة، قُتل فيها ثمانية مواطنين عرب، من بينهم نساء، بعد تلغيم مركباتهم وتفجيرها. يُضاف إليها جريمة تاسعة ارتُكبت مساء الثلاثاء، وراحت ضحيّتها الشابة المغدورة جوهرة خنيفس، بعد انفجار مركبتها بعبوة ناسفة عند مدخل مدينة شفاعمرو، بحسب تقرير الشرطة. وهذا لا يشمل محاولات القتل بتفجير عبوات، والتي جرى السيطرة عليها أو إحباطها قبل انفجارها، بناء على معلومات الشرطة الإسرائيلية في التقرير المذكور.

يُعدّ استخدام العبوات الناسفة، وتفخيخ المركبات بها في عمليات القتل والتصفية، بمثابة "قفزة نوعية"، أو تحوّل أكثر تقنية ودموية، إذا صحَّ التعبير على مستوى الجريمة في المجتمع العربي في الداخل، خلال آخر 15 شهرا، مقارنة بالسنوات التي سبقت، إذ ارتُكبت جريمة واحدة في عام 2020 بتفجير مركبة بعبوة ناسفة، أسفرت عن مقتل مواطنين عربيين، وضحية واحدة في سنة 2019، كما سُجّلت في عام 2018 جريمتان منفصلتان في انفجار عبوات ناسفة، بينما في عام 2017 سُجلت جريمة واحدة بالطريقة نفسها.

محصِّلة ذلك، خمس جرائم تفجير خلال السنوات الخمس التي سبقت عام 2021، بينما ارتُكِبت تسع جرائم بتفجير مركبات خلال أقلّ من عام ونصف.

إن هذا التحول المرعب في أداة الجريمة وضحاياها يضعنا أمام أمرين، الأول: ذلك المتّصل بالشكل الذي بات عليه تواطؤ أجهزة أمن دولة إسرائيل مع عصابات الجريمة المنظمة في المجتمع العربي، والثاني: متعلّق بالمستَجِدّ في شكل الجريمة وتنظيمها مع تجدد أدواتها.

التواطؤ هو تورُّط

إن تصاعُد استهداف ضحايا الجريمة بواسطة عبوات ناسفة تنسفهم في مركباتهم بمن حولهم، يضع أجهزة أمن الدولة العبرية على اختلافها، وجها لوجه أمام مساءَلة مجتمعها اليهودي لها، قبل العرب -مجتمع الضحايا- ففي تقرير آخر بالعبرية بعنوان: "لإصابة الهدف بكل ثمَن"، والذي نشره "واينت" الموقع الإلكترونيّ لصحيفة "يديعوت أحرونوت" في 18 آذار/ مارس الماضي، يُقرّ ضابط وحدة المتفجرات إيال أنكونينا في قوات "لاهف 433" بأن مصدر العبوات الناسفة أو المواد المفجِّرة لها، والمستخدَمة مؤخّرا من قِبل عصابات الإجرام في المجتمع العربيّ، هو الجيش الإسرائيلي!

من مكان تفجير سيارة في الطيبة هذا العام ("عرب 48")

يتعاطى الإعلام الإسرائيلي -بناء على تقارير أمنه- مع العبوات الناسفة، أو المواد المُصنِّعة لها على أنها "مسروقة" من ثكنات الجيش الإسرائيليّ، وقد تكرّر هذا الادعاء في كلا التقريرين المُشار إليهما سابقا. بينما الصحيح هو أن هذه العبوات أو المواد المُصنِّعة لها، مُسرَّبة من ثكنات الجيش، وليست مسروقة منها، ما يعني تورُّطا منظّما، لا مجرّد تواطؤ من قِبل ضباط في الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية في تسهيل وصول العبوات، أو المواد المتفجرة المُصنِّعة لها إلى أيدي منفّذي الجريمة المنظَّمة في المجتمع العربيّ، منذ سنوات.

ولأنّ إنكار تواطؤ وتورّط ضباط جيش وأمن إسرائيليين في إتاحة مثل هذه الأدوات الفتّاكة في عالم الجريمة داخل المجتمع العربيّ، لم يُعد ممكنا؛ يحاوِل ضابط وحدة المتفجرات في قوات "لاهف 433" بحسب التقرير، ترحيل هذا التورّط إلى القول والإقرار بوجود اتصال وتعاون بين عصابات الجريمة في المجتمع العربيّ مع عصابات الإجرام في الوسط اليهوديّ، ومنهم جنود وضباط جيش يهود متقاعدون، لديهم خبرة وخلفية في تحضير المواد المُتفجّرة وصنع العبوات الناسفة.

بينما في تقرير صحيفة "هآرتس"، يُجيب أحد كبار ضباط الشرطة الإسرائيلية، والذي لم يُذكر اسمه، عن سؤال مصادر تزويد عصابات الجريمة المنظّمة بالعبوات والمواد المتفجرة، على أنها متنوعة، ومن بينها: صناعة بأيدي عصابات الجريمة المنظمة العربيّة، وأخرى مُصنّعة محليًّا في أراضي الضفة الغربيّة، ومهرَّبة منها عبر الحدود، ومصدر ثالث يتمثّل بخبراء متفجرات يهود، متورطون في عالم الجريمة المنظّمة، وذلك في محاولة لتحييد التورُّط المُتعمَّد لأجهزة الأمن الإسرائيليّة على اختلافها في تمكين الجريمة وتنظيمها داخل المجتمع العربيّ.

السيارة التي كانت تستقلّها الشابة خنيفس، بعد إخماد النيران

تُوضح التقارير أن الرأي العامّ الإسرائيليّ، لم يعُد يرى بالجريمة المنظّمة وتغوّل أدوات تنفيذها في المجتمع العربي شأنا عربيًّا فقط، وبخاصّة بعد أن تبيّن أن احتمال نقل السلاح من كتفٍ إلى كتف ممكن، وذلك إثر هبّة الكرامة في أيار/ مايو 2021، والعمليّات التي نُفِّذت في أواخر آذار/ مارس الماضي، ضدّ إسرائيليين، ومن بينها عمليتان نفّذهما مواطنون عرب من فلسطينيي الداخل، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال يثير أسئلة أخرى عن مرحلة جديدة من شكل الجريمة المنظّمة في المجتمع العربيّ، وأثَر عالم الجريمة على علاقة المواطنين العرب بالدولة العبرية ومؤساتها مستقبلا.

جريمة قادمة من المستقبل

يتّجه عالم الجريمة المنظّمة وغير المنظّمة في المجتمع العربي، مع تصاعُد ظاهرة استخدام العبوة الناسفة، وتلغيم المركبات وتفجيرها، نحو منعطفٍ أكثر تنظيما وفتكا ممّا كان عليه سابقا. ومع أن الجريمة هي واحدة في المحصِّلة، بصَرْف النظر عن أدواتها، سواء كانت بالسلاح الأبيض أو بإطلاق الرصاص والأعيرة النارية، أو تطوّرها نحو تلغيم وتفخيخ المركبات؛ إلا أنّ هذا التطوّر الأخير، يعني ما يعنيه من توسيع لدائرة ضحايا الجريمة، فتلغيم سيارة وتفجيرها قد يقتل الضحيّة المقصودة وغير المقصودة معا، نظرا لحجم الانفجار الذي تخلِّفهُ العبوات الناسفة، وبخاصّة إذا ما وقعت في مناطق مكتظّة بالسكان، وهذا حال معظم قرانا ومدننا العربية في الداخل.

كما يمكّن استخدام العبوات الناسفة، الجريمة المنظمة واستشرائها، وذلك لأنّ هذا التطوّر الخطير يُتيح لمنفّذ الجريمة، النيْل من ضحيّته، دون أن يضطرّ إلى التواجد في مسرح الجريمة، وبخاصّة أن المركبات التي جرى تفجيرها منذ آذار/ مارس العام الماضي، تُظهِر القدرات التقنية والفنيّة المتطوّرة التي باتت لدى منفّذي جرائم التفجير في استخدام عبوات مُصنَّعة بدقّة، ومجهّزة سلفا بأجهزة تحكّم عن بعد، متطورة، ما يكرّس مجهوليّة منفّذي الجرائم، ويمكّن عالَم الجريمة المنظَّمة عموما.

سيارة عقب انفجارها الذي أسفر عن مقتل شاب في يافا (أرشيفية)

هذا فضلا عن أنّ القتل بواسطة العبوات الناسفة وتفخيخ المركبات، هو تطوّر دمويّ يشي بتحوّلات متّصلة بـ"اقتصاد عالم الجريمة"، فتقرير صحيفة "هآرتس" المُشار إليه سابقا، قد أتى على استخدام العبوة الناسفة والمواد المُتفجّرة وأثرِها كصناعة وتجارة رائجتيْن في عالم الجريمة، باتت تدرّ أرباحا على الأطراف المعنيين فيها.

لا تظلّ الأدوات المستخدمة في الجريمة مجرّد أداة لها، ففضلا عن دورها في إعادة تشكيل الجريمة وصُنعها، فإنّ الأدوات قد تتحوّل إلى هدف بذاته، تماما مثلما هي الضحيّة هدف بذاتها.

في تصريحات لقادة سياسيين وأمنيين إسرائيليين لم تخلُ من التوعُّد ليس للمتورطين في عالم الجريمة، إنما لجميع فلسطينيي الداخل. تُحيلنا تلك التصريحات المتوعِّدة إلى شكل اشتغال أجهزة الدولة العبرية العسكرية والأمنية، ومعها ماكنتها الإعلامية، في العمل على تدمير المجتمع العربيّ الفلسطينيّ بأسلحة الجيش، وتنفيذ العصابات الإجراميّة من جهة، وترحيل العنف وردّه للعرب بوصفه مكونا جوهريًّا في ثقافتهم وهويتهم العربيّة من جهة أخرى.

على ذلك، يجري الخطاب السياسيّ الإسرائيليّ التهديديّ، الذي ما انفكَّ عن توعُّده العرب بلهجة أمنيّة مُهدِّدة، بإمكانية وقوع كارثة مستقبليّة قد تحلّ بالعرب في الداخل عموما، فهل باتت الجريمة المنظّمة بتواطؤ أجهزة أمن الدولة، على وشك تجاوُز عالمها، لتطال سؤال الوجود العربيّ في البلاد، أو بعض فئاته فيها مستقبلا.

التعليقات