07/12/2021 - 18:17

عن الجريمة: الانتقام... هل هو وجه آخر للعدالة في غيابها؟

إذا ما انتُهِك فرد منّا، وليس من قانون وعدالة يقتصّان له، فإنّ كلًّا منّا هو ضحيّة مُحتمَلة قادمة. لذا، فإنه من الطبيعيّ، أن يفرّ المُنتهَك أو الموتور فينا، إلى إنسانيته في حقّه بالدفاع الذاتيّ عن نفسه، وبالتالي يصبح الانتقام بديلا

عن الجريمة: الانتقام... هل هو وجه آخر للعدالة في غيابها؟

من مظاهرة مجد الكروم (رشوان حمدان)

كي لا نعود إلى قول ما اعتدنا قوله وكتابته دائما في ما يتعلّق باستشراء عنف الجريمة، وتراخي الدولة في مكافحتها، وفي أن الموضوع بات في كلّ يوم أكثر من سابقه، آفة تُقلق أهلنا في الداخل الفلسطينيّ، ومؤخرا في المدن والقرى التابعة للسلطة الفلسطينيّة -وإن كان نمط عنف الجريمة في وتيرة متصاعِدة ضمن شروط خاصة بها هناك- فقد قيل وكُتب في ذلك الكثير. إلا أن ملامحَ جديدة، من عنف الجريمة ومواجهتها، بدت تتّضح وتُنبِئ بمرحلة جديدة منه قادمة، خصوصا بعد آخر جريمتين ارتُكبَتا الأسبوع الماضي في مدينتَي الناصرة وأم الفحم.

فقد أعقب، مقتل كل من إيهاب السعدي في مدينة الناصرة، ومحمد حمزة برغل إغبارية في أم الفحم، خلال الأيام الماضية، فورات دمٍ، قام إليها ذوو الضحيتين في المدينتين، تسببت في حرق بيوت، وإطلاق رصاص وإغلاق طرقات، في جوٍ متوتّر ومشحون، احتجاجا على دماء أبنائهما. ردّة الفعل الغاضبة هذه، في سياق مسلسل الجريمة، لها وجهان، يُنذر أحدهما بمرحلة جديدة من موقف مجتمعنا من الجريمة ومواجهتها، فالوجه الأوّل الذي قد يكون متعلّقا بطبيعة الجريمتين، وحمولتهما الاجتماعيّة في ما يتعلّق بصراعات الثأر العائليّ - الحمائليّ، والتي يكون فيها الجاني معروف الهويّة، ممّا يتسبّب بردّة فعل، مثلما جرى في الناصرة وأم الفحم. أما الوجه الثاني، فهو الذي نقصده هنا، حيث يغسل أهالي ضحايا الجريمة أيديهم من دَوْر الدولة ومسؤوليتها. وبالتالي، يقرِّر الموتور أخذ حقّه بيده، أو على الأقلّ التعبير عن سخطه وغضبه بعنف مماثِل، يأخذ بجريرته المذنب وغير المذنب، وهذا عنف عدوانيّ تجاه مجتمعه، ولكنه قد يكون انفجاريًّا بوجه الدولة وتراخيها أيضا.

كما تداولت وسائل التواصل الاجتماعيّ في الأول من أمس، الأحد، شريط فيديو، يبدو مفبركا، لناحية الصورة فيه، التي تضمّنت مجموعة شبّان باللثام، وبزّات سوداء، وأسلحتهم مردودة إلى أكتافهم. غير أن البيان الصوتيّ الذي تلاه أحدهم مذكِّرا باستفحال الجريمة في مجتمعنا، ومتوعّدا فيه المجرمين وحاضنتهم، كان حقيقيًّا بإشارته إلى مقتل الشاب إيهاب السعدي الذي لقي حتفه قتلا بالرصاص في التاسع والعشرين من الشهر الماضي في الناصرة.

عموما، لم يصدُر عن عائلة المغدور السعدي في الناصرة، أيّ بيان رسميّ ينفي صحّة هذا الفيديو. ومع أننا نشكّ في صحّته، إلا أن مَشهَدَتَه وتظهيره، ثم تداوله؛ يُنذرنا بشكل المرحلة القادمة من شكل الجريمة ومواجهتها.

بلا شكّ، إنّ حمل السلاح، وتظهيره مردودا إلى أكتاف مدنيين من أبناء مجتمعنا في الداخل، هو مبعَث للقلق والإرباك، خصوصا أننا تاريخيًّا منذ تشكّلنا ما بعد النكبة كـ"أقليّة" في ظِلّ الدولة العبريّة على أرضنا، لم نكن نعرف السّلاح وعنه، إلّا في سياقيْن لا ثالث لهما، الأول: ذلك الذي كنّا نراه على أكتاف المجنّدين أو الصيّادين، وخواصر المتعاونين في الأعراس، والثاني: الذي كنّا نسمع عنه، ولم نكن نراه، والمتصل بالملاحَقين والفدائيين.

في العقديْن الأخيريْن، بات السلاح أكثر اتّصالا بالجريمة والمجرمين، تاركا توقيعه رصاصًا على أجساد مئات الضحايا من أبناء شعبنا في مدن وقرى الداخل الفلسطينيّ، ممّا يفسّر الحاجز الاجتماعيّ والنفسيّ منه لدينا إلى يومنا، لذا قد صِرنا على قناعة، بأنّ الدولة وأجهزتها الأمنيّة غير جادّة ولا معنيّة بمكافحة الجريمة، لا بل متورِّطة في تنظيمها. وحتى في بعض محاولات أجهزة أمنها، مكافحة الجريمة وجمع السلاح، فإنها ترتكب جرائم في حقنا، كما حدث منذ أيام في أم الفحم عند مداهمة الشرطة للمدينة، على إثر مقتل محمد حمزة برغل إغبارية، وقتلت الشرطة الشاب محمد فتحي حسن جبارين. وقبلها مع مطلع العام الحاليّ في طمرة، عندما أطلقت الشرطة أثناء ملاحقتها مجرمين، النار على المغدور أحمد حجازي، وأردته قتيلا.

كما أنه في ظلّ مجتمع بلا مرجعيّات ومؤسّسات وطنيّة حقيقيّة، ومنزوع من موارده الاجتماعيّة التقليديّة التي تعارف عليها في منع الجريمة، فضلا عن كوننا مجتمعا أضعف من إمكانيّة التصالُح مع مثل هذا النمط من الجريمة؛ ممّا يجعل كلّ قرية وحيّ لدينا وفرد منّا في بلادنا، أمام وضعيّة "قلْعِ شوكِكَ بيدِك". وبالتالي، الدفع نحو الدفاع الذاتيّ الذي تترتّب عليه مظاهر الاقتصاص العنيف.

هل من حقٍّ للدفاع الذاتيّ؟

إنّ الاقتصاص خارج إطار القانون، ليس نوعا من أنواع العدالة، بل من الحرب؛ هذا قول يصِحّ في ظِلّ دولة وطنيّة، هي دولة مواطنيها كلّهم بلا استثاء. غير أن عنف الجريمة في داخلنا الفلسطينيّ، كما نعرفه، يجري ضمن مأزق سياسيّ، في دولة بدأت نشأتُها الكيانيّة استعماريّة- استيطانيّة، وفي ظلّها تحوّل نظامها السياسيّ إلى نظام فصل عنصريّ "أبارتهايد"، ممّا يجعل مَن تُسمّيهم الدولة "غير اليهود"، مقصيين عن سؤال العدالة وتحقيقها فيها.

إذا ما انتُهِك فرد منّا، وليس من قانون وعدالة يقتصّان له، فإنّ كلًّا منّا هو ضحيّة مُحتمَلة قادمة. لذا، فإنه من الطبيعيّ، أن يفرّ المُنتهَك أو الموتور فينا، إلى إنسانيته في حقّه بالدفاع الذاتيّ عن نفسه، وبالتالي يصبح الانتقام بديلا للعدالة، أو وجهًا آخرا لها من أجل إحقاقها.

كما يصبح وسيلة وهدفا بذاته في آن؛ وسيلة للتعبير عن السّخَط، وهدفا للدفاع الذاتي عن الجسد بالجسد، فالدفاع الذاتيّ هو ليس "حبًّا للعنف" بقدر ما هو "عشق للعدالة" بتعبير الناشط الشيوعيّ الأسود، ضد عنف البيض في الولايات المتحدة، في ستينيات القرن الماضي، روبير ويليامز، وصاحب كتاب "(زنوج مع أسلحة) Negroes With Gun".

يشتكي الناس، ويشكون للدولة وجهاز شرطتها كلّما تعرّضوا لعنف، وكثيرة هي الشكاوى التي تُظهر شكل إنكار الدولة وتنكّرها لموتِهم. تنكُّر يأخذ منذ سنوات صيغةَ "دعه يفعل"، لتُسجّل فيه جرائم، منها القتل، ومنها السطو والترويع، معظمها ضدّ مجهول.

تنظر دولة إسرائيل وأجهزتها الأمنية للجريمة على أنها مشكلة لدينا، وليست مشكلة هي مسؤولة عنها. كما لا ترى باقترافها "حدثا"، بقدر ما تظنّها "بُنيَةً" فينا كعرب، في مداومة تقصدها الدولة العبرية لإعطاء تحديد قوميّ - عرقيّ للعنف.

بالنسبة للبعض، لم يعُد مجديا، تذكيرهم بتراخي الدولة وتقصيرها. كما لم نسمع عن مجتمع واجه الجريمة المنظّمة فيه وعظ للمجرمين وتقريع لهم. كما أنّ الدفاع الذاتيّ الذي يفرّ للانتقام ليس حلًّا للعنف، بل تكثيف له، لكنه قد يغدو ملاذ الموتورين من أبناء مجتمعنا. لنكون بالتالي، أمام مرحلة تملؤها رائحة البارود، وحياة تحمل مذاق القبر.

التعليقات