24/09/2021 - 20:12

الجريمة والعجز أمام فوّهة السلاح

تستشري الجريمة في مجتمعنا، ولا نملك أدوات منعها، فهذا واضح، لكننا قد نملك أدوات الضغط على من يستطيع منعها، وهذا ما يتطلب قيادة سياسية- اجتماعية لديها إرادة جادة أولا في تسييس الجريمة. مجتمع لا يملك كيف يمنع الجريمة ويحمي أبناءه وبناته،

الجريمة والعجز أمام فوّهة السلاح

مظاهرة حاشدة تنديدا بالعنف والجريمة (أرشيفية)

منذ ما يقارب الشهرين، تعطّلت مدينة الخليل كلها، أكبر مدينة عربية في بلادنا من حيث تعداد السكان، وأكبر مدينة تجارية كذلك. وعمت فيها الفوضى، بعد مقتل شاب فيها رميًا بالرصاص، على خلفية ثأر عائلي كما قيل وقتها. لم تستطع قوات الشرطة والأمن الفلسطينية مواجهة حالة الغليان و"فورة دم" أهل المقتول، الذين اعتدوا على بعض الممتلكات العامة والمرافق التجارية، إلى حدّ تسبب بشلّ المدينة، وحركة الدخول إليها والخروج منها.

لم تهدأ المدينة إلا بعد أيام، وبعد أن تدخلت لجان الصلح ووجهاء المدينة والبلاد، ووفود عشائرية جاءت من شرقي الأردن، من أجل تهدئة الخواطر المحتقنة التي نجحت فيها في الأخير. قد يبدو مشهد فورة الدم والاحتقان العائلي مُقلقا ومستهجنا بلا شكّ، لكن ما حدث هناك يقول لنا أمرين؛ الأول، أن المجتمع ما يزال يرفض التصالح مع الجريمة، وبالتالي جاء رد فعل ذوي المقتول عنيفا عليها، لأن قتل شاب لا يجب أن يمر مرور الكرام، بصرف النظر عن الخلفية والأسباب.

والثاني، أن المجتمع لم يفقد بعد، موارده الاجتماعية والثقافية - التقليدية، لمنع الجريمة وضبط الرد عليها، وذلك عبر الإرث العشائري التقليدي الذي تعوّد الناس على تفعيله لمعالجة قضايا الجريمة وسفح الدم.

هذا الإرث العشائري من أعراف وتقاليد الذي يراه البعض "رجعيًا"، ما يزال مرجعًا، يحتكم إليه أهالي مدينة الخليل من أجل منع الجريمة أو ضبطها على الأقل، في ظل غياب دولة وطنية وسلطة قانون حقيقية. فماذا عنّا نحن فلسطينيو الداخل، حيث سفح الدم فيه صار مثل شربة ماء، يمر مرور الكرام

القانون والعُرف

لا يوجد مجتمع بلا عنف، كما أنّ العنف هو من تكوين الإنسان، بل إنه جزء من إنسانيته على حد تعبير نيتشه. والتمييز بين العنف والجريمة مهم، من حيث أن العنف له تمثلات مختلفة، يمكن أن يتمثل فيها داخل أي مجتمع، ومنها وأخطرها الجريمة. ومع ذلك لا يوجد "مجتمع صفر جريمة"؛ وبالتالي، ليست آفة الجريمة في حدوثها، إنما تكون آفتها في غياب أدوات منعها، حيث غياب القانون والعُرف معًا.

فلا القانون يعمل تنفيذيًا على منع الجريمة، لأن الدولة ليست دولتنا ببساطة، بل تنظر الدولة العبرية إلى موتنا كجزء من اقتصادها الاستعماري، هذا لناحية القانون ودولته. أما لناحية العُرف، فإن مجتمعنا قد انتُزعت منه موارده الاجتماعية- الثقافية إلى حد كبير، فبات بلا مرجعيات يرجع إليها لضبط مظاهر الجنوح والفوضى فيه. كما أنه من المهم القول، إن شكل الجريمة قد تغيّر في بلادنا في العقدين الأخيرين، فهي أقرب للجريمة المنظمة منها للجريمة الاجتماعية- الهوياتية. والأهم من ذلك كله، هو السياق الذي تستشري فيه الجريمة.

السياق

في مطلع كتابه "العنف - تأملات في وجوهه الستة"، يروي المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، قصة عن عامل مصنع اشتُبه فيه على أنه سارق، فأمر صاحب المصنع حرّاسه بتفتيش عَربة العامل التي يدفعها أمامه كل يوم صُبحًا ومساءً تفتيشًا دقيقًا، لكن الحُرّاس أخفقوا في العثور على أي شيء، ففي كل مرة كانت العربة فارغة تمامًا. في الأخير كُشفَ اللغز! كانت العربات نفسها هي ما كان يسرقه العامل.

إن الخلاصة من هذه القصة، هو "المنظومة" كلها، وليس التفاصيل فيها فقط، مثل السلاح وبيع الديون والسوق السوداء وغيرها؛ إنما منظومة العيش التي يرزح تحتها مجتمع فلسطينيي الداخل، وتحوّلاته في العقدين الأخيرين، ففي ظلها يتفشى العنف وتستشري فيه الجريمة.

من الناحية السياسية، فإن العيش سياسيًا في أفق صهيونية دولة إسرائيل ويهوديتها، وبلا مشروع وطني، هو أفق عنيف بالضرورة، سواء في عنف الدولة وأجهزتها الأمنية تجاه العرب، حتى أثناء مكافحة أجهزة الدولة للجريمة فإنها ترتكب جرائم، مثلما حدث في قرية مجد الكروم مطلع العام الجاري، لأن الشرطة جهاز تنفيذي وتمثيلي معًا، لرؤية الدولة الاستعمارية- الاستشراقية لنا كعرب على أننا "عنيفون" بفطرتنا وطبعنا، وقد صرّح بذلك علنًا مسؤولون إسرائيليون.

أو سواء، في تراخي أجهزة الدولة في مكافحة الجريمة وملاحقة المجرمين، وتجفيف مصادر تسريب السلاح وتفشيه في مجتمعنا العربي، فالدولة غير جادة حتى اللحظة في ذلك. فالجريمة بالنسبة للشرطة وأجهزة الدولة هي شأن عربي متعلق بـ"عقلية العرب وثقافتهم العدوانية"، لطالما تظل الجريمة بعيدة عن أمن وسلامة اليهود في البلاد. هذا التراخي المُتعمّد، هو بذاته من ينظم الجريمة داخل المجتمع العربي، من حيث أن الجهة التي تملك أدوات منع الجريمة هي الدولة فقط، والدولة غير معنية بمنعها، وبالتالي، يكثف هذا التراخي، الجريمة، وينظّمها.

أما من الناحية الاجتماعية، فإن العنف أكثر تغولًا وتفشيًا مما كان عليه في السابق. لذا، لا يمكن عزل جرائم ليل الإثنين وفجر الثلاثاء الثلاثة، عن عُنف هُتاف جمهور فريق هبوعيل أم الفحم لجمهور فريق مكابي إخاء الناصرة " يا نصراوي يا... يللي سلّمت الأسير". فهذا الهُتاف، ليس مزايدة وطنية وتخوينا فقط، بقدر ما فيه من عنف مخجل وتجريح مُهين. حتى أفراحنا وأغانينا فيها نزوع نحو عنف المفردة والتعبير، إلى حد لم نعد نميز به الأغنية من التهديد. وكذلك نقاشاتنا وخلافتنا باتت أكثر حِدةً وتصلّبًا، وحتى ألعاب أطفالنا صارت عنفًا بحدّ ذاته.

في هذا السياق العام من العنف السياسي والاجتماعي- الاقتصادي في مجتمعنا، تنبت الجريمة وتستشري، إلى حد تجاوزت فيه وحشية الجريمة وعلانيتها في السنتين الأخيرتين فكرة الجريمة المنظمة.

أبعد من "جريمة مُنظمة"

للجريمة المنظمة شكل وملامح تُعرف بها، فهي على خلاف الجريمة الاجتماعية- التقليدية التي عرفها مجتمعنا تاريخيا، فهذه الأخيرة تقع ضمن خِلاف واضحة هويته، ومعروفه أطرافه، مثل جرائم العنف الهوياتي، العائلية أو الطائفية، الثأر و"شرف العائلة" وغيرها، حيث العلاقة بين القاتل وضحيته هي علاقة مباشرة على الأغلب، وهي جريمة انفعالية بالضرورة، أي ناتجة عن موقف انفعالي غاضب.

فيما الجريمة المنظمة، على خلاف ذلك، إذ يقف خلفها تنظيم واقتصاد خارجان عن القانون، يعملان في عالمهما السفلي، بعيدًا عن عين المجتمع؛ والجريمة المنظمة عقلانية دائمًا، أي مُدبرة ومعدة سلفا، ولا علاقة مباشرة بالضرورة فيها، بين القاتل وضحيته؛ فقد يلتقي فيها القاتل بضحيته لأول مرة عند تنفيذه الجريمة، لأن القاتل مُرتزق فيها عادة، يقتل شخصا لا يعرفه من أجل المال، وبإيعاز من شخص أو جماعة قد لا يعرفهما كذلك، وقد تكررت مثل هذه الجرائم في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، خصوصًا تلك المتصلة بالسوق السوداء وعصابات الإجرام.

إلا أن أشكال الجريمة في مجتمعنا في السنوات الثلاثة الأخيرة، اتخذت ملامح تجاوزت الجريمة المنظمة، من حيث وحشيتها وعلانيتها معًا، فالجريمة المنظمة لها ضوابط يضبطها التنظيم الواقف خلفها، وأدبيات تترك توقيعها في الجريمة ذاتها، غير أن وحشية بعض الجرائم التي وقعت مؤخرًا متجاوزة لذلك، مثل مقتل أفراد أسرة جاروشي اللدية في أواخر حزيران/ يونيو الماضي على طريق قرية عليبون، حيث أُطلق الرصاص على الأب وزوجته وطفلتهما، قُتلوا جميعا، ونجت واحدة من الطفلتين بأعجوبة. وقبلها في شهر نيسان/ أبريل الماضي، جريمة قتل السيدة سهى منصور في الطيرة، إذ لم يتردد القاتل من تصفية حسابه بها. وغيرها من الجرائم التي طالت وحشيتها أطفالا ونساء بينهنّ أمهات لا علاقة لهن ولا ذنب.

كما لم تعد الجريمة، تعمل في الخفاء؛ فعلانيتها بدت واضحة في بعضها مؤخرًا، مثل اقتحام حفل زفاف في إحدى صالات الأفراح والسطو على صندوق نقوط العروسين. ومؤخرًا، وبالتحديد مساء الثلاثاء الماضي، في عُرس في مدينة الطيبة، حيث فتح أحد المدعوين النار على المشاركين في الزفاف، فقُتل شخص وجُرح ستة آخرون؛ مما يبين لنا، حجم فوضى جرائم القتل وعلانيتها بشكل غير مسبوق.

إلى أين؟

منذ أسابيع، صرّح أحد ضباط الشرطة الإسرائيلية معترفًا، بأن عصابات الإجرام في المجتمع العربي مرتبطة بجهاز الشاباك. هذا التصريح فيه وجهان؛ الأول، متعلق بمحاولة الشرطة التنصل من مسؤوليتها تجاه منع الجريمة على مدار سنوات. والثاني، أن الشرطة التي تواطأت مع الجريمة لسنوات، لم تعد قادرة اليوم وحدها كجهاز على مكافحة الجريمة وردع عصابات الإجرام، ومصادر تسريب السلاح وبيعه، حتى لو أرادت ذلك.

إن تشكيل وحدات أمن خاصة مختصة في الجريمة ومكافحتها في المجتمع العربي، مثل شعبة "سيف" ووحدة للمستعربين وغيرها، والتي تشترط تعاونًا عربيًا معها من أجل محاربة الجريمة، ليست إلا محاولة لابتزاز مجتمعنا: "التعاون مقابل مكافحة الجريمة". هذه الوحدات الأمنية تعمل على اختراق مجتمعنا أكثر مما تعمل على حمايته. فشعبة "سيف" - التي تعرض رئيسها الضابط جمال حكروش مؤخرا لإطلاق نار على بيته في كفر كنا -، ليست إلا محاولة لإعادة اقتراح جهاز الشرطة على المجتمع العربي، خصوصًا بعد هبة أيار الأخيرة. في المحصلة نحن أمام "اختراق أكثر وجريمة أكثر".

تستشري الجريمة في مجتمعنا، ولا نملك أدوات منعها، فهذا واضح، لكننا قد نملك أدوات الضغط على من يستطيع منعها، وهذا ما يتطلب قيادة سياسية- اجتماعية لديها إرادة جادة أولا في تسييس الجريمة. مجتمع لا يملك كيف يمنع الجريمة ويحمي أبناءه وبناته، هو مجتمع أقل وأضعف من أن يستطيع التصالح مع الجريمة، وفي هذا قلقنا!

التعليقات