74 عاما على النكبة... "حملة عوڤدا" العسكريّة الصامتة واتّفاقيّات رودس 1949 (31)

كلمة "عوڤدا" باللغة العبرية معناها "أمر واقع"، وهذا بالضبط هو هدف الحملة العسكرية التي نفذتها إسرائيل خلال المفاوضات مع الدول العربية وذلك من أجل فرض أمرٍ واقعٍ على هذه الدول

74 عاما على النكبة... 

الجيش العراقي في فلسطين عام 1948 (أرشيفية)

وضعت حرب 1948 أوزارها، في السابع من كانون ثانٍ/ يناير 1949 ظهراً، وذلك بعد أن اضطرت مصر أن تقبل الدخول في مفاوضات هدنة مع إسرائيل، بعد أن كانت القوات الصهيونية قد حاصرت القوات المصرية، فيما يسمى الآن بقطاع غزة، رغم بسالة الجنود المصريين في المعارك الأخيرة من حملة "حوريڤ" التي هدفت إلى القضاء على الجيش المصري في فلسطين بعد محاصرته، ولما لم تتمكن القيادة العسكرية الصهيونية من ذلك، وافقت هي الأخرى أن تذهب إلى المفاوضات، من موقف المنتصر في ساحة المعركة، خاصة وأن هناك لواءً مصرياً كاملاً ما زال محاصراً في الفلوجة وعراق المنشية، من دون أي تواصل مع قطعات الجيش المصري في منطقة ما بين غزة ورفع (انظر/ ي الحلقات 30/1-30/5 عن حملة "حوريڤ"، والحلقات 29/1-29/2 عن صمود الجنود المصريين في قطاع الفلوجة).

كانت موافقة مصر على الجلوس على مائدة المفاوضات، تعني النهاية الفعلية للحرب، حيث إنها الدولة العربية الوحيدة التي ما زالت تحارب حتى بداية عام 1949، دون أن تقدم باقي الدول العربية أي دعم لها، وكانت إسرائيل تأمل، بل كانت شبه متأكدة، من أن الوصول إلى اتفاق مع الدولة العربية الكبرى، سيؤدي حتماً إلى اتفاق مع باقي الدول العربية: الأردن والعراق وسوريا ولبنان، وهذا ما تم فعلاً إذ وقعت اتفاقية الهدنة مع مصر في 24 شباط/ فبراير 1949، ومع لبنان في 23 آذار/ مارس 1949، ومع الأردن في 3 نيسان/ أبريل 1949، ومع سوريا في 20 تموز/ يوليو 1949، أما العراق فقد رفض الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، وسلم المناطق التي تواجد فيها الجيش العراقي للجيش الأردني، بعد أن كان قد انسحب منها.

الاتفاقية المصرية الإسرائيلية

ابتدأت المحادثات المصرية الإسرائيلية، في الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم الخميس، الموافق 13 كانون ثانٍ/ يناير 1949، بلقاء الوفدين في فندق "قصر الورود" الواقع في جزيرة رودس، حيث اجتمع الوفدان في غرفة الوسيط الأممي "رالف بانش"، والذي حلَّ مكان "الكونت برنادوت" بعد اغتيال هذا قبل عدة أشهر على يد منظمة " الليحي " في القدس. أصر "بانش" منذ البداية على إقامة جلسات مشتركة للطرفين، ولذلك أجرى قبلها بيوم جلسة انفرادية مع كل جانب على حدة، موضحاً لكل طرف ما هو الهدف من هذه المفاوضات، "وقف إطلاق النار هو القضاء على الحرب العسكرية، أما السلام فهو القضاء على الحرب من الناحية السياسية"، وبما أن هذه محادثات لإنهاء الحرب العسكرية، لذلك على الطرفين أن يحددا بينهما حدود وقف إطلاق النار، حسب القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة بهذا الشأن، والخيارات عديدة ومتعددة: الحدود الانتدابية، أو حدود قرار التقسيم، أو خط وقف إطلاق النار الحالي، أو الحدود التي نص عليها قرار الأمم المتحدة في الرابع من تشرين ثانٍ/ نوفمبر 1948 أي العودة إلى حدود ما قبل حملة "يوآڤ" (انظر/ ي الحلقات 26/1-26/4 بعنوان الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب).

كان الوفد المصري مكوناً من ضباط مصريين فقط، بدون سياسيين، لإعطاء المحادثات صبغتها الحقيقية بأنها محادثات عسكرية فقط. أعضاء الوفد هم: القائمقام محمد إبراهيم سيف الدين الذي ترأس الوفد، والقائمقام إسماعيل شيرين، والقائمقام محمد كامل الرحماني، والبكباشي محمد محمد نوح، والبكباشي محمود رياض محمد، والملازم أول روجيه لبيب.

أما إسرائيل فقد كانت تريد إرسال "موشي شاريت" وزير الخارجية ليمثلها في المفاوضات، ولما رأت أن مصر تصر على الطابع العسكري للمفاوضات، عدلت عن ذلك وأرسلت بدلا عنه مديراً عاماً لوزارة الخارجية "ڤولتارر آيتان" على رأس الوفد، ومعه: " رؤوڤين شيلواح" وهو مستشار المهمات الخاصة في وزارة الخارجية، و "إلياهو ساسون" رئيس دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، "وشبتاي روزان" المستشار القضائي لوزارة الخارجية، والجنرال "يچآل يادين" القائد الأعلى للجيش، والرائد "أرييه سيمون" من جهاز المخابرات العسكرية، والرائد "يهوشفاط هرمڤي" من وحدة الاتصالات في قيادة الجيش، وشارك في المفاوضات فيما بعد المقدم "يتسحاق رابين"، قائد العمليات في معارك النقب ضد الجيش المصري.

استمرت محادثات الهدنة لمدة ستة أسابيع، وكان فيها مدّ وجزر وأزمات ونقاشات حادّة، ولكن الوسيط الدولي كان قد تمكن من جسر الهوّة بين الوفدين، الوفد المصري الذي كان موضوع الفلوجة واللواء المحاصر فيها هو همّه الأساسي، والوفد الإسرائيلي المنتصر، والذي كان يهمّه توقيع الاتفاقية بالسرعة الممكنة من أجل البدء في مفاوضات مع دولٍ عربية أخرى، وقبل أن تبدأ الانتخابات الأولى للدولة العبرية والتي تقرر أن تكون في شهر أيار/ مايو 1949. في النهاية اتفق الطرفان على إعلان بنود الهدنة في 24 شباط/ فبراير 1949، وهذه أهم بنودها:

المادة الأولى والثانية: وقف العمليات العسكرية.

المادة الثالثة: تنص بضرورة سحب القوات المصرية من الفلوجة تحت رعاية الأمم المتحدة.

المادة الخامسة: تعيين خط الهدنة بين الفريقين.

المادة السادسة: تثبيت وجود القوات المصرية في قطاع غزة، وانسحاب أي قوة إسرائيلية منها حتى أربعة أسابيع من توقيع الاتفاقية، وتحديد حجم القوات المصرية في بيت لحم والخليل.

المادة السابعة: تحديد وجود قوى دفاعية فقط، من الطرفين، على طول خط التماس بين فلسطين وسيناء.

المادة الثامنة: تجريد منطقة العوجا من السلاح.

المادة التاسعة: تبادل الأسرى بين الطرفين.

حملة "عوڤدا"

كلمة "عوڤدا" باللغة العبرية معناها "أمر واقع"، وهذا بالضبط هو هدف الحملة العسكرية التي نفذتها إسرائيل خلال المفاوضات مع الدول العربية وذلك من أجل فرض أمرٍ واقعٍ على هذه الدول، بحيث يقوم الجيش الإسرائيلي باحتلال ما تبقى من النقب حتى أم الرشراش جنوباً، ودون أن تكون هناك مقاومة كبيرة، فالاتفاقية مع مصر قد وقعت، وليس هناك خطر كبير من هجوم أردني على القوات الإسرائيلية التي ستقوم بالتوجه جنوباً لقلة الجنود الأردنيين المتواجدين وسط وجنوب النقب، أي من عين حصب في الشمال الشرقي للنقب، والتي احتلت في حملة "لوط" التي نفذتها إسرائيل في شهر تشرين ثانٍ/ نوفمبر 1948، وحتى أم الرشراش جنوباً.

كانت خطة الحملة تقضي بأن تنفذ على ثلاثة محاور، الأول يقوم بتنفيذه لواء " اسكندروني " الذي كان عليه أن يخرج من بئر السبع باتجاه عين جدي واحتلالها، بحيث يتم توسيع رقعة الأرض التي تسيطر عليها إسرائيل في الشمال الشرقي للنقب، وتقوية خط عين جدي- أم البرج، واحتلال كل النقاط بينهما: خربة سكة، وتلّ ميرسيم، وجسر الظاهرية، وتلة رقم 432، وتلّ السبع، وتلّ عراد.

أما المحور الثاني فكان مُلْقَى على عاتق لواء "چولاني" والذي كان عليه أن يسير بمحاذاة الحدود الأردنية الفلسطينية في وادي عربة، بعد تدعيمه بالمدرعات، ومن ثم احتلال عين ويبت ورادياشن، وتستمر حتى جبال قطورة المطلة على أم الرشراش وعلى بعد 20 كيلومتراً منها، وهناك تلتقي بالمحور الثالث وهو لواء "هنيچڤ".

كان على لواء "هنيچڤ" أن ينطلق جزء منه مدعماً بدبابات لواء "شموني" جنوباً من بئر السبع على طول الخط الذي يتوسط الحدود بين مصر والأردن، بخط مستقيم حتى يصير على بعد 60 كيلومتراً من أم الرشراش، وهناك يقوم باحتلال منطقة سهلية (قاعة عقفة ) من أجل تجهيزها لتكون مطاراً تستعمله الطائرات الحربية لنقل باقي القوات جَوّاً إلى موقع المطار والذي سمي بمطار "إبراهام". تقوم القوة كذلك بقفل محور التقدم إلى المطار من جهة غرندل، وتسيطر على مفترق الطرق الواصل بين طابا وأم الرشراش ورأس النقب، ومن هناك تنطلق القوات بعد اكتمال أعدادها إلى نقطة اللقاء، المذكورة أعلاه، مع لواء "چولاني" ليتم التقدم معاً حتى الوصول إلى خليج العقبة على البحر الأحمر.

كانت تعليمات "بن غوريون" تقضي بأن يتجنب الجيش الإسرائيلي أي مجابهة أو معركة مع قطعات الجيش الأردني الموجودة على طريق تقدم الوحدات الإسرائيلية، حيث إن إسرائيل قد وقعت فعلاً مع مصر، وهي في مفاوضات جارية مع الأردن ولبنان، ولذلك ستكون هناك عواقب وخيمة لأي معارك، وربما تقوم الأمم المتحدة بإيقاف زحف الجيش جنوباً، وربما لن تتاح فرصة أخرى قريبة من أجل تحقيق ذلك. وعليه أرسل "يچآل يادين" أمراً بهذا إلى "يچآل ألون" قائد المنطقة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، بل إنه طلب من قيادات الألوية المشتركة في الحملة التوقيع على نفس الأمر، الذي كان يقضي بوقف العمليات حالاً إذا حدثت معركة مع الجيش الأردني، ولتجنب ذلك كان على قطعات الجيش اتخاذ طرق بديلة تتخطى فيها المواقع التي تتمركز فيها وحدات أردنية.

احتلال النقب الجنوبي وأم الرشراش

كانت ساعة الصفر لحملة "عوڤدا" في تمام الساعة الخامسة صباحاً من يوم 5 آذار/ مارس 1949، وكان توزيع القوات الصهيونية كالتالي: لواء "هنيچڤ" تكون من سريتين من الكتيبة السابعة إحداهما تنقل جَوّاً، وفصيلي سيارات جيب من الكتيبة التاسعة، وسرية مدفعية مضادة للدبابات، وبطارية هاون عيار 120 ملم تنقل جواً، وبطارية مدفعية مضادة للطائرات لحماية المطار، ووحدة نقل، ووحدة من سلاح الجو لتشغيل المطار.

لواء "چولاني" تكون من الكتيبة 13 مشاة، والكتيبة 19 الآلية، وفصيل مدرعات من الكتيبة التاسعة، وبطارية مدفعية عيار 65 ملم، وبطارية مدفعية احتياط عيار 75 ملم، وبطارية مدفعية احتياط مضادة للطائرات.

لواء "إسكندروني" تكوّن من أربع سرايا مشاة، وبطارية مدفعية عيار 75 ملم، وبطارية مدفعية مضادة للمدرعات. وشارك سلاح الجو بسرب طائرات استطلاع، وطائرات نقل، وسرب احتياط طائرات مقاتلة.

قوات لواء "إسكندروني" خرجت من بئر السبع في 6 آذار/ مارس 1949، متوجهة إلى عين جدي عن طريق كرنب وعين حصب ثم آسدوم ومن هناك انطلقت القوة بواسطة قوارب في البحر الميت إلى منطقة عين جدي، واحتلتها دون أي مقاومة من الجانب الأردني، وذلك بعد يومين من خروجها من بئر السبع.

انطلقت القوة المؤلفة من لواء "هنيچف" من بئر السبع في الساعة 08:00 من يوم 5 آذار/ مارس 1949، وتقدم قسم منها نحو المنطقة التي خصصت لمطار " إبراهام " ووصلها عند الساعة 14:15 من اليوم التالي. تم تحضير أرضية المطار بحيث صار جاهزاً لاستقبال طائرات الشحن في 7 آذار/ مارس، وعند الساعة 17:30 هبطت فيه أول طائرتين تحملان معدات عسكرية. القوة المركزية من لواء "هنيچڤ" تقدمت ببطء بسبب مشاكل لوجستية، ووصلت إلى رأس رمان ليلاً، ومن هناك استمرت في اليوم التالي في التقدم حتى وصلت إلى مطار "إبراهام" في 7 آذار/ مارس عند الساعة 11:15. يذكر هنا أن كل البدو الذين كانوا في الطريق التي سلكها لواء "هنيچف" تم حجزهم مع القوة، حتى لا يبلغوا القوات الأردنية بما يحدث.

من جانبه، تقدم لواء "چولاني" من بئر السبع في الساعة الخامسة صباحاً من يوم 5 آذار/ مارس، ووصل إلى عين حصب بعدها بيومين، وفي الليل قامت سرية سيارات الجيب من الكتيبة 19 بالتحرك جنوباً واحتلال عين ويبة. حتى الآن لم يواجه أي من اللواءين الإسرائيليين قوات أردنية في طريقهما، مما سهّل سير العمليات العسكرية.

في الساعة 23:55 ابتدأت الطائرات بالهبوط في مطار "إبراهام" محمّلة بجنود السرية من لواء "هنيچڤ" المسؤولة عن احتلال رأس النقب، والتي انطلقت في الساعة 08:45 من يوم 8 آذار/ مارس باتجاه الجنوب. من جهتها تقدمت قوات "چولاني" من عين ويبة في نفس اليوم باتجاه أم الرشراش، وعند "عين غمر" حاول فصيل أردني قطع الطريق على القوة، التي قامت بدورها بمحاصرته، مما اضطره إلى الانسحاب لعدم قدرته على مواجهة قوة أكبر منه.

صباح يوم 10 آذار/ مارس 1949، أعطى الجيش الأردني أوامره لقواته في رأس النقب وأم الرشراش بالانسحاب إلى العقبة، ولما عرف الجيش الإسرائيلي بذلك، تقدم اللواءان "چولاني" و "هنيچڤ" بسرعة باتجاه البحر الأحمر، ودخلوا ام الرشراش في الساعة 16:00 من نفس اليوم، معلنين عن احتلالها والنقب كاملاً، وبذلك انتهت الحملات العسكرية في حرب 1948-1949، بانتصار صهيوني كبير.

الاتفاقية الأردنية الإسرائيلية

انتظرت الأردن توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل للدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل في رودس، رغم أن المفاوضات غير الرسمية كانت قد بدأت في نهايات عام 1948، وحتى قبل حملة "حوريڤ" على الجيش المصري، والتي أدت كما ذكر سابقا، إلى موافقة مصر على الدخول في مفاوضات الهدنة.

رَسْمِيّاً كانت بداية المفاوضات في رودس في الرابع من آذار/ مارس 1949، وابتدأت باجتماع مشترك قاده الوسيط الدولي "رالف بانش"، الذي أراد أن يضفي جَوّاً ودياً ومريحاً في المفاوضات، ولكن الأمور سارت على عكس ما أراد، حيث إن رئيس الوفد الأردني تجاهل رئيس الوفد الإسرائيلي ولم يسلم عليه باليد، مما خلق أزمة مؤقتة، عمل "بانش" على حلها سريعاً قبل توقف المفاوضات إلى أجل غير مسمى.

ترأس الوفد الأردني القائمقام أحمد صدقي الجندي، وشارك في الوفد القائد محمد المعايطة، والوكيل القائد راضي الهنداوي، والرئيس علي أبو نوار، والملازم فتحي ياسين، واصحب الوفد معه رياض المفلح وكيل الخارجية وعبد الله نصر كمستشارين قانونيين. أما الوفد الإسرائيلي فترأسه "رئو ڤين شيلواح" من وزارة الخارجية، وشارك معه الجنرالان "موشي ديّان" و"دان لنر".

كانت القضايا التي تمحور حولها النقاش كثيرة ومعقدة، مثل النقب الجنوبي، والذي احتلته إسرائيل في بداية المفاوضات من أجل فرض أمر واقع، والقدس المنقسمة بين الجيشين، ووجود الجيش العراقي في وسط وشمال المناطق التي يسيطر عليها الجيش الأردني، وطلب إسرائيل الحصول على قطاع طولي من وادي عارة حتى قلقيلية لتوسيع الرقعة المحيطة بالسهل الساحلي (ما يسمى اليوم بالمثلث الشمالي والمثلث الجنوبي)، وإجلاء القوات الأردنية من اللطرون، وإعطاء ممر حرّ للإسرائيليين في القدس ومنطقتها.

خلال المفاوضات كانت إسرائيل تلوّح بأنها ستنفذ عملية عسكرية ضد الجيش العراقي الذي يسيطر على منطقة المثلث والتي تريدها إسرائيل، وقد سميت الحملة المخطط لها بـ"السّن بالسّن"، ولكنها لم تخرج إلى النور لأن "بن غوريون "أراد أن يحصل على هدوء عالمي، وظن بأنه من الممكن أن تتحقق طلبات إسرائيل دون اضطرارها إلى الدخول في معارك جديدة.

تم توقيع اتفاقية الهدنة بتاريخ 3 نيسان/ أبريل 1949، حيث نص الاتفاق على ترسيم الحدود الدولية بين الفريقين، وتحديد القوات العسكرية على مسافة عشرة كيلومترات من الخط الأخضر من الجانبين، وتسليم إسرائيل قطاعاً عرضه بين خمسة إلى ثمانية كيلومترات يمتد من كفر قاسم جنوباً حتى وادي عارة شمالاً، ومن هناك باتجاه الشرق حتى شمال جنين، شاملاً القرى التالية: كفر قاسم، كفر برا، جلجولية، الطيرة، الطيبة، جت، باقة الغربية، قلنسوة، ميسر، بير السكة، كفر قرع، عارة، عرعرة، أم الفحم، مشيرفة وغيرها. وكذلك شمل الاتفاق انسحاب للجيش العراقي من فلسطين، حيث تم ذلك فعلاً بين التواريخ 6-14 نيسان/ أبريل 1949، حيث انسحب الجيش العراقي نِهَائِيّاً من فلسطين وَسَلَّمَ مواقعه للجيش الأردني.

بالنسبة للقدس، لم يتغير الوضع القائم حيث بقيت اللطرون تحت سيطرة الجيش الأردني، ومُنع اليهود من الوصول إلى حائط المبكى، وبقيت الجامعة العبرية في "هار هتّوسوفيم" مغلقة، وكذلك مستشفى "هداسا" في المنطقة ذاتها، ومُنع العرب من استعمال طريق القدس- بيت لحم والذي يمر من جنوب القدس الغربية.

الاتفاقية اللبنانية الإسرائيليّة

انتظرت الحكومة اللبنانية توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل من أجل الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، حيث إن إسرائيل كانت قد احتلت 14 قرية في جنوب لبنان في نهاية حملة "حيرام" والتي تم فيها احتلال الجليل وجلاء جيش الإنقاذ عن فلسطين.

اجتمع الوسيط الدولي "رالف بانش" بالزعيم الإسرائيلي "بن غوريون " في السادس من كانون ثانٍ/ ديسمبر 1948 في تل أبيب، وقد أوضح "بن غوريون " في هذا اللقاء بأن إسرائيل ليست معنية بالاحتفاظ بالقرى اللبنانية المحتلة، وستنسحب منها بعد توقيع اتفاقية هدنة مع لبنان. بعد هذا اللقاء بثلاثة أيام، اجتمع "بانش" مع رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح في باريس، وأطلعه على موقف إسرائيل من القرى المحتلة، مما أدى برئيس الوزراء اللبناني بالإعراب عن موافقته على توقيع هدنة مع إسرائيل. بناءً عليه قامت إسرائيل بإخلاء خمس قرى لبنانية في أواسط كانون ثانٍ / يناير 1949، كما تم عقد أربعة اجتماعات بين لبنان وإسرائيل في رأس الناقورة بين 27 كانون الأول ديسمبر 1948 و 3 شباط/ فبراير 1949، من أجل فتح قناة تواصل بين الطرفين، ومقدمة لمفاوضات الهدنة المرتقبة.

ابتدأت المفاوضات الرسمية بين إسرائيل ولبنان في 1 آذار/ مارس 1949، برئاسة العقيد توفيق سالم من الجانب اللبناني، والجنرال "مردخاي ماكلف "عن الجانب الإسرائيلي"، واستمرت لمدة ثلاثة أسابيع، وأعلن عن توقيع الهدنة في الثالث والعشرين من شهر آذار/ مارس 1949.

تنص الاتفاقية عن انسحاب إسرائيلي من القرى اللبنانية المحتلة، واعتماد الحدود التي أقرت عام 1923، بين حكومتي بريطانيا وفرنسا على أساس أنها الحدود الدولية بين لبنان وإسرائيل، وقد تمّ تنفيذ الانسحاب من القرى اللبنانية خلال عشرة أيام من توقيع الاتفاقية.

الاتفاقية السورية الإسرائيلية

خلال حرب 1948، استطاع الجيش السوري أن يحقق بعض النجاحات، حيث كان قد احتل مستعمرة "مشمار هياردين" في الشمال الشرقي من فلسطين، وسيطر على منطقة صغيرة بين بانياس ومستعمرة "دان"، وبعض المناطق جنوب شرق بحيرة طبريا. كذلك فإن الجيش السوري لم يمنَ بهزيمة كبيرة كبقية الجيوش العربية، ولذلك كان من الصعوبة بمكان إقناع سوريا بضرورة توقيع اتفاقيات هدنة مع إسرائيل، ويعزى ذلك إلى أنها، أي سوريا، تود إبقاء المناطق التي سيطرت عليها تحت سلطتها، وأي اتفاقية مع إسرائيل من شأنها أن تؤدي إلى انسحاب من هذه المناطق. والسبب الآخر هو أن سوريا كانت تعتبر التوقيع على هدنة معناه اعترافاً سورياً بالدولة اليهودية، وهذا ما كان مرفوضاً بشدّة من قبل الأوساط السياسية والعسكرية والجماهيرية. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن الجيش الإسرائيلي المدجج بالأسلحة الحديثة، بإمكانه الاستفراد بالجيش السوري ومهاجمته، حيث إنه بات وحيداً في الميدان بعد توقيع باقي الدول العربية اتفاقات هدنة مع إسرائيل. وبالفعل كانت إسرائيل تخطط لهجوم أو حملة عسكرية كبيرة تحت اسم حملة "أورن" من أجل احتلال هضبة الجولان ومدينة القنيطرة، وذلك لإجبار سوريا على الدخول في مفاوضات معها.

في 30 آذار/ مارس 1949، سيطر القائد الأعلى للجيش السوري، حسني الزعيم، على الحكم بعد تنفيذ انقلاب عسكري، وبعدها بخمسة أيام، أي في الخامس من نيسان/ أبريل 1949، ابتدأت المفاوضات بين إسرائيل وسوريا للتوصل إلى اتفاقية هدنة دائمة.

ترأس العقيد فوزي السلو الوفد السوري المفاوض (كان السلو قد عُيِّن قائداً عاماً للجيش بدل حسني الزعيم، قبل دخوله المفاوضات بأيام)، وشاركه في الوفد القائد محمد ناصر، والرئيس عفيف البرزي. أما الوفد الإسرائيلي فكان بقيادة "مردخاي مكلف"، والذي أصبح خبيراً في هذا النوع من المفاوضات بسبب محادثاته مع الدول العربية الأخرى. اجتمع الوفدان، السوري والإسرائيلي، في منطقة الحولة قريباً من الأراضي التي سيطرت عليها سوريا.

استمرت المحادثات حتى 17 أيار/ مايو 1949، حيث توقفت في هذا اليوم لعدم التوصل لأي اتفاق بشأن الانسحاب السوري، واقترح أن يجتمع حسني الزعيم مع "بن غوريون" من أجل تذليل العقبات في المفاوضات، ولكن هذا الاقتراح لم يخرج إلى الضوء. تم كسر الجمود في المفاوضات بعد تدخل الولايات المتحدة، واقتراح الوسيط الدولي "رالف بانش" أن تنسحب سوريا من المناطق التي تسيطر عليها في فلسطين، مقابل تحديد مناطق منزوعة السلاح بحيث تشمل الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا ومنطقة مستعمرة "مشمار هياردين". في الرابع من تموز/ يوليو 1949، تجددت المفاوضات وتم التوقيع على اتفاقية الهدنة في 20 تموز/ يوليو 1949، والتي بموجبها انسحبت سوريا من مساحة قدرها 50 كيلومتراً مربعاً بحيث تكون منها حوالي 38 كيلومترا مربعاً منزوعة السلاح، وتكون منطقة محايدة تحت إشراف لجنة الهدنة. وتم كذلك الاتفاق على منطقتين دفاعيتين حول بحيرة الحولة وبحيرة طبريا. وبهذا تم توقيع اتفاقية الهدنة بين سوريا وإسرائيل في 20 تموز/ يوليو 1949، وسميت اتفاقية التل 232.

خاتمة

توقيع اتفاقية الهدنة الأخيرة مع سوريا، كانت تعني نهاية معارك حرب 1948-1949، وسيطرة اليهود على مساحة 20,700 كيلومتر مربع، أي ما يعادل 77,4٪؜ من مساحة فلسطين الكلية، (بينما كانوا مسيطرين على حوالي 1,350 كم مربعاً في نهاية فترة الانتداب البريطاني، أما قرار التقسيم فقد خصص للدولة اليهودية ما مساحته 15,000 كم مربع أي ما يعادل 56,47٪؜ من أرض فلسطين)، منها أقل من 13,000 كم مربع قبل بدء المفاوضات مع الدول العربية، والباقي حصلت عليه دون نشوب معارك، إمّا من خلال الاتفاقيات مثل المثلث الذي كان تحت سيطرة الجيش الأردني، أو المنطقة الشمالية الشرقية والتي سيطر عليها الجيش السوري، وأكثر من 7000 كم مربع خلال حملة "عوڤدا".

"نجحت" إسرائيل خلال الحرب في تهجير 530 قرية ومدينة، بالإضافة إلى 145 خربة أو قرية صغيرة، وتحول بذلك أكثر من 805,000 شخص إلى لاجئين.

أما اتفاقيات الهدنة نفسها فلم تلتزم إسرائيل فيها، وخاصة في النقب، حيث قامت بتهجير سكان الفالوجة وعراق المنشية، رغم التزامها بإبقائهم في بيوتهم. كذلك لم تتحول العوجة ولا بير عسلوج إلى مناطق معزولة السلاح، ولم تخفض إسرائيل قواتها في المعين وتل جمة إلى قوات رمزية، كما قضى الاتفاق، بل تحولتا إلى بؤرة للهجوم على مصر وقطاع غزة.


المصادر:

1. بيني موريس، سيرة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى 1948.

2. العاد بن درور، الوسيط "رالف بانش" والصراع العربي الإسرائيلي 1947-1949.

3. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود 1947-1952.

4. د. محمد متولي، اتفاقية رودس بين العرب وإسرائيل 1949.

5. شموئيل كوهين- شني، بحذاء مُغَبَّر وربطة عنق.

6. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نص "اتفاق هدنة بين مصر وإسرائيل"، ترجمة عن النص الإنجليزي.

7. عبد الله التلّ، كارثة فلسطين، مذكرات عبد الله التل قائد معركة القدس.

8. " نتانائيل لموراخ "، سيرة حب الاستقلال.

9. صالح صائب الجعبري، محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية.

10. أنيتا شپيرا، "يچال ألون": ربيع عمره (أڤيڤ حلدو).

11. اللواء حسين البدري، الحرب في أرض السلام، الجولة العربية الإسرائيلية الأولى.

12. موشي چڤعاتي، في طريق الصحراء والنار، سيرة الكتيبة التاسعة.

13. سلمان حسين أبو ستة، أطلس فلسطين 1917-1966، إصدار هيئة أرض فلسطين في لندن.

التعليقات