من تاريخ "موجة الميناء" في فلسطين

لم يبتلع موج البحر المتوسط البلاد يوما، غير أنه قد حمل ذات يومٍ عليها وإليها موجات من المستوطنين الغزاة، والذين ابتلعوا العباد والبلاد منذ مطلع القرن الماضي.

من تاريخ

قوارب صغيرة محصّنة خلف كاسر أمواج في ميناء يافا (Getty Images)

ثمّة نبوءة ساحلية تقول: "إن كل مدينة شاطئية إن لم يبتعلها رمل الشاطئ يوما ما، فسيغمرها موج البحر حتما"(1).

كما يقول صاحب كتاب الساحل البشري جون آر . غلس، إن "الجنة والجحيم كلاهما في الساحل"، لكون هذا الأخير على الرغم من استطاعة الحداثة تطويع البحر منذ القرن التاسع عشر، ليغدو الساحل مبعثا لأحلام الشعوب الساحلية -وهذا ما صارت عليه فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في يافا، ثم حيفا، كمدينَتَي ملاذ للحالمين- إلا أن البحر يظلّ مصدرا للكوابيس أيضا(2).

لقد انحسرت مؤخرا مياه بعض شواطئ البحر المتوسط، ومنها شاطئ مدينة عكا، مما أفلت عِقال التخييل والتأويل لدى الناس عبر شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصا وأن هذا الانحسار لمياه البحر، قد جاء بعد أيامٍ على زلزال جنوب تركيا والشمال السوري، الذي راح ضحيته أكثر من 45 ألف قتيل في هزة للأرض، لم تستغرق أكثر من 40 ثانية. وقد عززت التوقعات بإمكانية حدوث زلزالٍ آخر في المنطقة، مخاوف الناس من انحسار مياه البحر على أنه "تسونامي (أمواج عاتية تتشكّل بفعل زلزال يكون مركزه بالبحر)" مُحتمَل.

على أي حال، فإن انحسار البحر، أمر بات متروكا لخبراء علوم البحر الذين طمأنوا، بأن لا علاقة لانحسار مياه شواطئ البحر بـ"موجة الميناء - تسونامي"(3). غير أن ما يعنينا نحن هنا، سؤالٌ مفاده؛ هل سبق أن انحسرت مياه شواطئ بحر فلسطين في وجه أهلها؟

انحسار مياه البحر عن شاطئ عكا

في ذاكرة فلسطين الحديثة، قلما جرى وأن "هاجم" موج البحر المتوسط المدن والقرى الفلسطينية الساحلية عليه، باستثناء ما قصّه أهالي حيفا على الرحالة ماري إليزا روجرز حينما نزلت في المدينة، أثناء رحلتها للبلاد، ما بين سنوات 1855-1859 عن ما حلّ ببحر مدينتهم، يوم أن ضرب زلزالٌ البلاد في أول يوم من سنة 1837.

وبحسب أهالي المدينة التي خلت منهم لمدة ثلاثة أيام وقتها، فإن السماء قد تحوَّل لونها للسواد في رابعة النهار، بينما البحر اصطبغت مياههُ بلونٍ أحمر غريب، كما لو أنه بحرٌ من الدم على ذمة بعض الحيفاويين. لكنهم جميعا أجمعوا، على أن مياه البحر قد فقدت ملوحتها في حينه، وصارت عذبة يمكن شُربها(4). غير أنه لم يُذكر عن أي انحسار لمياه البحر أو هجومٍ لأمواجهِ على شواطئ المدينة.

حينما يكبُر البحر

في تعبير كان دارجا على ألسُن سكان ساحل فلسطين عن بحرهم حتى عام النكبة، خصوصا لدى أهالي المدن والقرى الشاطئية، حيث يقولون: "كَبُر البحر"، أو "لمّا يكبر البحر". والبحر يكبر، أي يعلو ماؤه في كل شتاء، فيمتد إلى الشاطئ، طامِرا بعضا منه؛ ففي قرية الطنطورة، التي كانت قرية شاطئية على سيف البحر، كان يدخل هذا الأخير دافعا بمياههِ إلى وسط القرية في كل شتاء، ليفصل الحارة الشمالية عن القبلية (الجنوبية) في القرية، مما كان يدفع الأهالي إلى التنقل في القوارب بين الحارتين أحيانا(5).

يافا في أواخر القرن التاسع عشر (Getty Images)

إن البناء المرتفع على ساحل فلسطين تاريخيا، سواء فوق رفوف صخرية -مثل يافا- أو على سوافي رملية (تلال) -مثل قرية الجورة- مرتفعة عن البحر؛ مردّه أولا إلى التحوّط من مد موج البحر. لا بل كان من عادة أهالي البيوت الشاطئية في فلسطين، "تقميط" بيوتهم المقابلة للشواطئ، أي إقامة قِماط على شكل كاسر موج في الرمل، يفصل البيوت الشاطئية عن البحر، لحمايتها من مدّ الموج وهيجانه(6). ومع ذلك، لم يُذكر أن اندفع البحر مرة بـ"موجة ميناء - تسونامي" وابتلع مدينة أو قرية فلسطينية في التاريخ الحديث، بينما يُذكر في التاريخ القديم أن البحر قد انحسرت مياهُ شواطئه، وأغارت على الساحل وأهله مرتين، وفي مرحلتين مختلفتين.

موجة عكا التاريخية

تعود حكاية موجة عكا إلى مرحلة ما قبل الميلاد، وتحديدا في عام 138ق.م. إذ يُذكر أنه في هذا العام، قام سرفادون وزير حربية الملك السلوقي ديمتريوس الثاني، بشن هجوم على تريفيون مغتصب العرش السلوقي، والمقيم في عكا. ولمّا استطاع تريفيون، ردّ عدوان الملك السلوقي في معركة دارت رحاها على أبواب مدينة عكا، وقد احتفل جيشه بانتصار رد العدوان على شاطئ بحر المدينة.

نقش يُظهر بقايا حصن بالقرب من الطنطورة (Getty Images)

أثناء احتفال الجيش، وبلمح البصر، يُذكر أن جزْرًا كبيرا قد حلّ، وأعاد مياه البحر إلى الوراء نحو عدة أميال تاركا كميات وفيرة من حيوانات البحر والأسماك مكشوفةً، ما دفع الجيش إلى الدخول لجمعها. وفيما همّوا لذلك، وإذ بمدٍّ كبير على شكل أمواجٍ بحرية شاهقة اندفعت نحو الشاطئ فابتلعت الجيش عن بِكرة أبيه. بعد لحظات، يُقال إن البحر عاد ساكنا إلى حالته الطبيعية، تاركا أسماكه وجثث جيش تريفيون عائمة على سطحه. فما كان من وزير حربية الملك السلوقي سرفادون بعد سماعه الخبر، إلا أن عاد واحتل مدينة عكا بلا مقاومة تُذكر(7).

ومما شهده وزير حربية الملك السلوقي بعد احتلاله عكا، حجم الدمار الذي خلّفهُ هجوم البحر على المدينة، إذ إن آلاف الجثث كانت ملقاة بين أزقة المدينة وعلى امتداد شاطئ البحر، فضلا عن السمك الوفير الذي كان ملقى على الشواطئ. وقد اعتبر الوزير السلوقي ما حدث، غضبا وانتقاما من الآلهة، ما حدا به التوجه إلى معبد إله البحر "بوسيدون"، بالقرب من مصبّ نهر النعامين جنوبي المدينة، وتقديم قرابين الشكر له(8).

الرملة... يوم أن غار البحر

يعود ذلك إلى تاريخ يوم الرابع والعشرين من رجب 460هجري - 28 أيار / مايو 1068م، حينما ضرب فلسطين زلزال، أُطلق عليه زلزال الرملة. ويقال إن الزلزلة قد أهلكت ما يقارب 15 ألف شخص من أهالي الرملة وقضائها، بعد أن جاءت على كل منازل الرملة، ولم يبقَ منها إلا دارين(9). خصوصا وأن الرملة كانت المدينة ذات الثقل الإداري - الإسلامي الأكبر والأبرز في فلسطين وقتها. ومع ذلك، فإن حجم دمار الزلزال الذي تناقلته المصادر، ربما مبالغ فيه، إذ لا يعقل أن يخلّف زلزال هزّ البلاد في تلك المرحلة، كل ذلك الدمار.

رسم يظهر جزءا من مدينة عكا قديما (Getty Images)

ومما يُذكر عن ذلك الزلزال بحسب يوميات ابن البنّاء، أن البحر قد غار يوما وليلة، فنزل الناس إليه يلتقطون منه، فعاد عليهم وأهلك جماعة(10). إن تعبير غور البحر في مصادر التاريخ الإسلامي تعني ما نُطلق عليه اليوم الـ"تسونامي"، أي موجة الميناء. وفي رواية أخرى في المصدر نفسه، يُقال عن ظاهرة جزر البحر وانحسار مائه: "واستطود البحر مسيرة يوم، وصعد البحر فأخرب الدنيا، ثم عاد وقد نزل الناس إلى أرضه يلتقطون ويفتّشون، ما هلك منهم إلا من كان قريبا من الساحل"(11).

لسنا هنا في محل استجواب لرواية ابن البنّاء، وصحة حجم الدمار الذي خلّفه الزلزال، ومعه غور البحر على أهالي ساحل فلسطين، فقد فعل ذلك الباحث الفلسطيني أسامة العيسة في مقالة كان قد نشرها قبل عامٍ في موقع "فسحة". إلا أن ما يعنينا هو ظاهرة جزر البحر ومدّه في معجم التاريخ العربي - الإسلامي، فقد استخدم الرواة الذين أشاروا إلى "تسونامي" زلزال الرملة في ذلك الزمن، تعبيرَيّ؛ "غور البحر" وكذلك "استطواد البحر".

غور البحر يعني مده بعد جزره، بينما يعني استطواد البحر جزره الذي تنحسر فيه مياه البحر بتراجعه إلى الوراء، دون أن يعني الاستطواد بالضرورة الغور، أي التسونامي. وهذا ما حدث مؤخرا في ساحل عكا، حيث استطود البحر دون أن يغور على ساحله.

البحر يبتلع تاريخنا

في مراكز إسرائيلية مختلفة لدراسات البحر، تم التأكيد على أن عدة "موجات ميناء - تسونامي" قد غارت على البلاد الساحلية في فلسطين على مدار مراحل مختلفة في التاريخ. ليس على ساحل البحر المتوسط فحسب، بل على ساحل البحر الأحمر جنوبي البلاد كذلك. وقد أفردت مجموعة باحثين إسرائيليين دراسة خاصة عن ظاهرة "موجة الميناء - تسونامي" في البحر الأحمر، وأثرها على جنوب فلسطين في منطقة أم الرشراش (إيلات) وخليج العقبة(12).

صور بالأبيض والأسود تظهر مواقع مختلفة في الشرق الأوسط، بينها: بحيرة طبرية، ومنظر عام للرملة، ودير مار سابا، وكفر ناحوم، ومنظر عام لبيروت، والناصرة (Getty Images)

غير أن ما يجدر الانتباه إليه، هو في أن ذاكرة سكان فلسطين عن ظاهرة جزر البحر ومده تاريخيا على شكل تسونامي، تظل نحيفة لسبب بسيط! وهو ابتعاد سكان فلسطين عن البحر وساحله، من عكا شمالا غزة جنوبا، لمدة قاربت الخمسة قرون، ما بين نهايات القرن الحادي عشر، وحتى أواخر القرن السادش عشر للميلاد. وذلك بسبب الحروب الصليبية أولا؛ ثم وعلى إثرها، الفوضى التي مثّلتها ظاهرة القرصنة البحرية على ساحل فلسطين بعد انتهاء الحروب الصليبية، وتدمير المدن الساحلية خلالها(13)، مما يعني أن ذاكرة فلسطين الساحلية - البحرية على المتوسط، هي ذاكرة حديثة نسبيا.

لم يبتلع موج البحر المتوسط البلاد يوما، غير أنه قد حمل ذات يومٍ عليها وإليها موجات من المستوطنين الغزاة، والذين ابتلعوا العباد والبلاد منذ مطلع القرن الماضي. وغير ذلك، فإن المرجع الموسوعي الأهمّ والأعمّ عن تاريخ فلسطين بمدنها وقراها كلها؛ موسوعة "بلادنا فلسطين"، للمؤرخ الفلسطيني مصطفى الدباغ، كان البحر قد ابتلع النسخة الأصلية من مخطوطته، التي استغرقت كتابتها مدة لا تقل عن ثلاثة عقود من الزمن. وذلك عندما هُجّر صاحبها من مدينته يافا، عبر البحر، أثناء أحداث النكبة عام 48، مما أجبر صاحب المخطوطة على إعادة كتابتها في لجوئه، ونشرها في الشكل الذي نعرفها عليه اليوم.


الهوامش:

1. موندرل، هنري، رحلة من حلب إلى القدس، ترجمة: صفوح الذهبي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة دار الكتب الوطنية، أبو ظبي 2012.

2. غيليس، جون آر، الساحل البشري، ترجمة: ابتهال الخطيب، ضمن سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2015، العدد 430، ص 214.

3. "تسونامي" كلمة يابانية وتعني موجة الميناء.

4. روجرز، ماري إليزا، الحياة في بيوت فلسطين رحلات ماري إليزا روجرز في فلسطين وداخليتها (1855-1859)، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 367.

5. راجع: حبيب الله، علي، الطنطورة والبحر ذاكرة في ذمة الملح، مادة منشورة على موقع عرب 48، تاريخ 2022/02/15.

6. المرجع السابق.

7. زهرة، ماهر، شذرات عكية، دار عكا للنشر والتوزيع، عكا، 1998، ص 23.

8. المرجع السابق، ص24.

9. ورد في يوميّات الفقيه ابن البنّاء الحنبليّ (369-471ه/ 1006-1078م)، واسمه المعروف به أبو عليّ الحسين ابن أحمد ابن عبد الله ابن البنّاء البغداديّ. نقلا عن: العيسة، أسامة، يوميات فقيه حنبلي: تسونامي فلسطين عام 1068، موقع "فسحة"، تاريخ 8/2/2022.

10. المرجع السابق.

11. المرجع السابق.

12. دراسة لمجموعة باحثين بعنوان: تقدير أولي لمخاطر ظاهر التسونامي في رأس خليج إيلات - العقبة، منشورة باللغة العبرية، جامعة بن غوريون بالتعاون مع مركز دراسات البحر الميت ووادي عربة، القدس، 2017.

13. عن ذلك راجع: حبيب الله، علي، فلسطين محفوفة ببحرها - ملامح من تاريخ التوتر مع البحر، مادة منشورة على موقع "رمان"، تارييخ 2/12/2020.

التعليقات