حصيلة غير مسبوقة في 2023: عام مُثقل بجرائم القتل في المجتمع العربي

قال مدير مركز أمان والباحث في علم الإجرام، المحامي رضا جابر، لـ"عرب 48" إن "المنظمات الإجرامية مُنظّمة، تدرس عناصرها كل خطوة تتخذها، وتقيس بها درجة الخسارة أمام الربح، فإذا كانت درجة الخسارة أكثر تراجع خطوة أو خطوتين".

حصيلة غير مسبوقة في 2023: عام مُثقل بجرائم القتل في المجتمع العربي

(عرب 48)

يرحل العام 2023 عن المجتمع العربي وهو مثقل بالدماء، ولا يزال المجتمع يلملم أوراقه ويضمّد جراحه، من تبعات العنف والجريمة التي ارتفعت إلى نسبٍ مقلقة ومرعبة؛ وقد سُجلت حصيلة ضحايا غير مسبوقة بلغت 228 قتيلا بينهم 16 امرأة.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

لم يكن هذا العام سهلا واعتياديا أبدا على المجتمع العربي، إذ كانت الأحداث فيه تتلاحق بصورة مخيفة ووتيرة الموت فيه كانت مروّعة. أكثر من 200 عائلة، هالها القلق والتوتر والحزن والأسى، أيتام وأرامل، وقتل جماعي، فهل يبدو هذا طبيعيا؟

لا يمكن فصل حكومة يمينية متطرفة كان كل هدفها تهميش وإذلال المواطنين العرب الفلسطينيين عن هذا العام الكارثي، وخصوصا أن من وكّل في منصب لحماية المجتمع العربي من الجريمة والمجرمين هو نفسه يتباهى في عدائية هذا المجتمع، إيتمار بن غفير.

منذ أن تسلّم بن غفير منصب وزير الأمن الداخلي (سابقا) قام بتغيير اسم الوزارة لوزارة الأمن القومي، والتي أحد أهدافها حماية القومية اليهودية، حسب رؤيته. من الاسم، والهدف، كان من الممكن أن نأخذ مؤشرا إلى أين تتجه هذه الوزارة والمجتمع في وحل الجريمة.

جزء كبير من الميزانيات التي كانت مخصصة من الحكومة السابقة لمكافحة الجريمة تم إيقافها من قبل حكومة نتنياهو - بن غفير، وجزء من المشاريع تم تجميدها. لا خطط حكومية ولا متابعة في الميدان. وقالت مصادر في الشرطة الإسرائيلية، في حديث سابق، إن "غالبية محطات الشرطة في المجتمع العربي كانت تعمل دون خطة واحدة موحدة لمكافحة الجريمة، وضباط تلك المحطات كانوا يعملون بشكل فردي دون تنسيق أو تجانس". عمليا، هكذا لا تحارب الجريمة وخصوصا الجريمة المنظمة.

صراعات بين منظمات إجرامية

تعزو أيضا بعض المصادر في الشرطة ارتفاع نسب الجرائم هذا العام إلى صراعات تفاقمت حدّتها بين منظمات إجرامية عربية وعصابات عدة، والتي اختلطت فيها عناصر عائلية حتى تأثرت فيها نسب الجريمة بالمجتمع الإسرائيلي. إضافة إلى سبب آخر وهو توجيه جزء كبير من موارد الشرطة للمظاهرات والاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية، لكن في الحقيقة في عدد كبير من الأسابيع التي لم تشهد البلاد احتجاجات ضد الإصلاحات شهدت البلدات العربية جرائم قتل كثيرة.

قد تكون مصادر الشرطة صحيحة وواقعية، ولكن بات واضحا تقصير الشرطة في محاربة الجريمة بالمجتمع العربي بين التجاهل المقصود والساذج وانعدام الخطط والوجود الشرطي في الميدان، وتقاعس في جمع الأدلة من الجرائم، كل ذلك أدى إلى أن يشعر المجرم بأريحية ليقترف جريمته في الوقت والمكان الذي يراه مناسبا بنسبة عالية جدا من الإفلات من القضاء والعقوبة. ولعل أبرز ما يؤكد ذلك نسبة فك لغز الجرائم التي انخفضت بشكل كبير هذا العام ووصلت إلى أدنى نسبها المتدنية أصلا، وهي لا تتعدى 8% في وقت ارتفعت فيه الجريمة عن العام الماضي بأكثر من 200% وانخفضت نسبة فك لغز الجرائم.

مجزرة بسمة طبعون

في آخر شهر أيلول/ سبتمبر 2023، وتحديدا في القرية الهادئة بسمة طبعون كانت زينب دلايكة وأربعة من أقاربها ينتظرون موعد الغداء ليأكلوا سوية، حينها اقتحم ملثمون مسلحون ساحة البيت وأطلقوا النار وتطاير الرصاص في كل مكان، والحصيلة كانت خمسة قتلى بينهم تلك المرأة التي لم تتجاوز 50 عاما.

تشتبه الشرطة بأن خلفية الجريمة انتقامية في إطار نزاع بين منظمات إجرامية، لكن وفقا للشرطة فإنه لا صلة للضحايا الخمسة فيها.

هذه الجريمة المأساوية وتفاصيلها المشابهة، تضاف إلى عشرات الجرائم التي راح ضحيتها أبرياء لا صلة لهم في عالم الجريمة، قتلوا ضمن جرائم انتقام دامية.

هنا لا بد من الإشارة إلى أنه ليس كل من يُقتل على خلفية المنظمات الإجرامية له ضلع بالنزاعات، فقد بات واضحا أن رقعة الانتقام بين المنظمات والعصابات الإجرامية اتّسعت هذا العام، وباتت تطال الحلقتين الثانية والثالثة أحيانا، وهذا ينضاف إلى أسباب ازدياد الأرقام المرعبة، وخصوصا أن المعطيات من الشرطة تشير إلى أن خلفية القتل ضمن المنظمات الإجرامية تبلغ نحو 70%.

ظواهر إجرامية جديدة

دخلت إلى المجتمع العربي هذا العام ظواهر إجرامية جديدة وسلوكيات لم نكن نشهدها من قبل من جرائم قتل جماعي وحرق الجثث وخطف وقتل، وغيرها. تبدو هذه المشاهد من سيناريوهات من أماكن أخرى لكن هذه السلوكيات تندرج تحت مصطلح "التصاعدية" في علم السلوك الإجرامي، وهو أن المجرمين أفرادا كانوا أو جماعات دائما يصعّدون من جرائمهم ويطورون من سلوكهم الإجرامي إذا لم يتم ردعهم في مرحلة متقدمة. وهذه التصاعدية قد تفسر في استخدام حرق الجثث بعد القتل بوتيرة أعلى من السابق، فقد شهد هذا العام ثلاث جرائم حرق وقتل بالإضافة إلى ثلاث مجازر أو ثلاث جرائم قتل جماعي، ما لم يشهده المجتمع سابقا، كما شهد العام ارتفاعا في الجرائم المزدوجة التي سجلت هذا العام، سبع جرائم مزدوجة بالإضافة إلى جريمة ثلاثية.

وهذا السلوك يتجسد في مسارح الجريمة، وهو أن المجرمين باتوا لا يأبهون قتل الأبرياء من الأطفال والنساء أو كبار السن، المهم أن تُنفذ الجريمة.

المنظمات الإجرامية.. إيديولوجية؟

في بروتوكول جلسة حول تمديد اعتقال رئيس منظمة إجرامية عربية في البلاد بشبهة تهديده لمحققين في الوحدة المركزية للشرطة، نُقل عن المحقق الذي تم تهديده قوله في شهادته بالمحكمة عن التهديدات التي تعرض لها، وعرض جزءا منها في المحكمة فيما بقي الآخر محظور للنشر: "لن تستطيع أن تهزم عائلتنا، نحن متواجدون في كل محل، أنت تعلم ماذا يعني أن يهددك ابن هذه العائلة، أنت تعلم ماذا يعني أن تتورط معنا؟ نحن جيش نأتيك من كل مكان، اسمنا وسمعتنا تفوق جدران السجن وأنت تعلم ذلك، احذر مني لأنه في الخارج ينتظرون إشارة مني فقط".

قد تتماشى أقوال رئيس المنظمة الإجرامية هذه مع نظرية علم الإجرام، وهي أنه في بيئة تنشط فيها المنظمات الإجرامية وفيها سلطة ضعيفة أو منعدمة وفي أحياء فقيرة ومهمشة، فإن تأثير المنظمات الإجرامية على الفرد يرتفع خصوصا على الأجيال الصغيرة حتى تتحول عندهم إلى إيديولوجية يتبنوها عاطفيا.

أن تتحول المنظمات الإجرامية إلى إيديولوجية يعني قوة عن القوة التي يتمتعون بها، وصلابة أكثر من التي تمتلكها، الآن.

لم تكن نزاعات المنظمات في المجتمع العربي سابقا بحلّتها التي تتميز بها اليوم، فقد شهدت تطورا بارزا عن مفهومها الكلاسيكي السابق. في السابق كان من الممكن تسميتها عائلات، أما اليوم فأصبحت أكثر متانة، عائلة اختلطت بالمنظمة، جاءت بوسائل جديدة، حديثة، ومتطورة، لكن أخطر ما تكون عليه اليوم هي أن تصبح إيديولوجية تتبناها الأجيال المقبلة، الأجيال التي ترى منظومة الحياة من وجهة نظر مختلفة، القوة مقابل الضعف.

الجريمة في زمن الحرب

منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، أُثيرت التساؤلات واشتعلت التكهنات حول انخفاض في نسبة الجريمة بالمجتمع العربي لمدة شهرين، والتي وصلت إلى 60% من عدد الجرائم وحالات إطلاق النار بشكل عام.

بطبيعة الحال، بسبب ضخامة الحدث فإن كل شيء في البلاد دخل في حالة صدمة حتى المنظمات والعصابات الإجرامية، لكن ذهبت التفسيرات والترجيحات إلى أن انخفاض الجريمة كان بسبب القبضة الأمنية الشديدة التي أحكمتها الشرطة وأجهزة الأمن المختلفة على البلاد بسبب الحرب المندلعة، وخصوصا أن هذه الحرب شهدت تسلل مسلحين إلى إسرائيل ما جعل الشرطة الإسرائيلية تنتشر في كل مكان، وأنها لن تتهاون مع أي حالات إطلاق نار والبلاد في حالة حرب، وما قد يدعم ذلك تعامل الشرطة الصارم في بداية الحرب مع قضايا السلاح، إذ قتلت الشرطة 4 مواطنين عرب ادعت أنهم كانوا مسلحين وشكلوا خطرا على عناصر الشرطة عند وصولهم إلى أماكن اقتراف الجرائم، هذه كانت إشارة إلى أن أجهزة الأمن لن تتهاون مع المجرمين.

وقال مدير مركز أمان والباحث في علم الإجرام، المحامي رضا جابر، لـ"عرب 48" إن "المنظمات الإجرامية مُنظّمة وتدرس عناصرها كل خطوة تتخذها، وتقيس بها درجة الخسارة أمام الربح، فإذا كانت درجة الخسارة أكثر تراجع خطوة أو خطوتين، بالإضافة إلى أن أفرادها يدرسون المنطقة التي يعملون بها، فإذا رأوا خطورة ما يجمدون عملهم حتى تتهيأ لهم الفرصة مرة أخرى".

قد تكون عودة الجرائم بعد شهرين من اندلاع الحرب بالوتيرة التي كانت عليها قبل الحرب بسبب أن الشرطة وأجهزة الأمن رفعت قبضتها الأمنية المشددة في المجتمع العربي أو في البلاد بشكل عام، بعد أن انخفضت درجة التهديد الداخلي على أمن الإسرائيليين في البلاد، ولكن لو كان هذا التفسير هو الأقرب إلى الواقع فإنه يدين الشرطة ذاتها، الشرطة التي كانت دائما تروّج بأن الجريمة في المجتمع العربي هي بفعل التربية والثقافة عند العرب كي تتهرب من المسؤولية تجاهها، ويتبين هنا صدق ما كان تطالب به قيادات من المجتمع العربي وهو أن انتشار الشرطة واستخدام الوسائل المتاحة لديها من شأنه أن يخفّض نسب الجريمة.

بقي السلاح والنزاعات

اعتمدت المنظمات والعصابات الإجرامية تقنية الانسحاب المؤقت خلال الشهرين الأوليين الذي خفّض من نسب الجريمة، ولكن كان من المتوقع أن تعود الجريمة إلى الشارع في المجتمع العربي بعد هذا الانخفاض المؤقت لأن تراجع الجريمة لم يأت بسبب خطة حكومية أو بسبب حصار الشرطة في الميدان الذي أدى إلى تفكك المنظمات والعصابات الإجرامية، أو أن الصراعات الدموية تم وضع حد لها.

لا تزال "الحرب" التي اندلعت بين المنظمات والعصابات والعائلات الإجرامية التي كانت في ذروتها دائرة ولم تذهب إلى أي مكان آخر، ولا تزال سوق الأموال السوداء تنتعش وقد تتوسع بسبب الحرب والحالة الاقتصادية المتدنية والسلاح غير المرخص الذي يملأ البلاد هو الآخر لم يذهب إلى أي مكان آخر.

ستُشكل النزاعات بين المنظمات والعصابات والعائلات الإجرامية وإمكانية تصاعد السوق السوداء بسبب الحالة الاقتصادية المتدنية، أبرز التحديات على المجتمع العربي وعلى المسؤولين، ولن يقف تصاعد السلوك الإجرامي وظواهر الجريمة عند ما كان عليه العام الماضي، بل إنه سيستمر في التصاعد ما لم يلق الرادع وكما قال لي أحد الأشخاص الذي يدير صراعا دمويا في منطقة المثلث: "الجريمة مش رح تنتهي، والأرقام رح تتضاعف!".

التعليقات